القاضي الدكتور سميح صفير:
أيها الحفلُ الكريم*،
أصحابُ المقامِ الرقيم،
المتراصُّون في دَوحَةِ هذا الصرحِ العظيم،
و”لَئن شَكرتُم لأزيدنَّكُم”
فالشكرُ لكَ يا ربَّ العالمين، لِما فَتَحتَهُ علينا من عِلمٍ مُبين، وحِرصٍ رَصين.
والشكرُ للحضورِ الأمين، والدُّعاءُ أن يَمُنَّ عليكُم المنَّانُ الرحيم بالطُمأنينةِ واليَقين.
والشُكرُ كلّ الشُكر، لسيَّدي الرئيس الأوَّل لمحكمةِ التمييزِ اللبنانيَّة، القاضي جان داود فهد على رعايتِه وارشادِهِ وتَشجيعِه ونَعمائهِ،
ثبَّتَ اللهُ قَدَميك عِندما تَزِلُّ الأقدام.
ومِنْ أَرْفَعِ الكَلِمِ،
ذَاكَ الذي يُوقِظُ مَضاجِعَ الماِضي، ويُخرِجُهُ مِنْ جَوفِ التآكلِ الجافِي،
ويُعيدُنا إلى أَيامٍ غَابرةٍ، ويُصوِّرُ لنا ذِكرياتٍ عَامرةٍ،
كانتْ لتَتواهَن تَحتَ غُبارِ الزمانِ وغَياهِبِ النِّسيانِ،
وأَجَلّ ما في الأَمرِ، أنَّه في مُناسبةِ مِئويةِ محَكَمَةِ التَمييزِ اللبنانيَّةِ، آثرنا، بِجُهدٍ جَهيدٍ، ومُنذُ ثلاثَةِ أعوامٍ، وضعَ هذا الكِتاب، تحت عُنوان “تاريخ محكمة التمييز اللبنانيَّة”، وهو يُحقِقُ في تاريخِها، بقَضِّه وقِضيضِه؛ فاستفرشَنا بإتقَانٍ وإحكَامٍ، في الكِتَابِ الأوَّلِ مِنهُ، مَراحِلَها، وَوَثَّقَنا بتفانٍ وإلمامٍ، في الكِتَابِ الثاني منه، أَوراقَها.
وأَهَمّ ما في الكتابِ أنَّهُ كَافٍ وَوَافٍ، يَضُمُّ بَينَ دَفَّتَيهِ أَرهُطَ من التَحقِيقَاتِ التاريخيةِ العَوالي والتُحَفِ الغَوالي، مَنثورةً تَحتَ عَناوينَ مباحِثِهِ، تَتَربَّعُ على عَرشِ تَصمِيمٍ سَهلٍ وتَاريخٍ فَصلٍ، هوَ العام 1919م. .
وأَجمَل ما في تصفُّحِ الكِتَابِ، أنَّكُم تَجِدُون في سُرادِقَاتِه أسماءَ قضاةٍ فَرنسيينَ، تُذكَر لأوَّل مرَّة في تاريخِ التشريع اللبناني، فبالاضافةِ إلى ما عَدَدَهُ الرئيس الأوَّل، يوجد القاضي فرمان Firmin، وديزانكل Desangles، وباروش Parroche، ولالوو Lalou، ولوت Loth، مانيان Magnan، وديفول Devol، وبتِّي Betty، وتمبال Timbal، وبوبل Populle، وأرين Arène، وآستر Astre، ونيقولا Nicolas ومازاس Mazas وكولار Collart…،
وإلى جانِبِهِم قُضاةٌ لبنانيُّون أَشاوس، من الرعيلِ الأوَّلِ قبل الانتداب، كادت أن تُنسى أسماؤهم، أمثال: الشيخ محمد علي أفندي الأنسي، وسامي عبد الرحيم الصلح، وفارس نصار، ومخايل بستاني، ووجيه أفندي الخوري، وميشال كحيل، ورشيد بك حماده، وتوفيق بك الناطور، وفرنان أرسانيوس، ونجيب بك قباني، وشفيق بك حلبي، والشيخ يوسف زخريا، ووفيق القصار، وأنيس أفندي صالح، وصُبحي أفندي محمصاني، وبشاره أفندي طبَّاع، وجورج بك سيوفي، وزُهدي بك يكن، وإحسان مخزومي، وخليل جريج، وحَسَن قبلان، وممدوح خضر، وجان باز، والفرد نقاش، وكمال بك حميّه …،
وتَجدون نُبُذَاتٍ عن سِيرةِ رؤساءِ مجلس القضاء الأعلى جَميعِهِم، فرداً فرداً، وأهمِّ إنجازاتِهم، منذُ الرئيس الأوَّل نجيب أبو صوان حتى الرئيس الأوَّل الحاضِر.
وتَجدون كَوكَبَةً من التشريعات، كَالقرارِ 452 الذي أوجَدَ المحكمةَ العُليا في العامَ 1919م. وحَدَّدَ صَلاحِياتِها، وَعَدَّدَ أسبابَ النقضِ وآثارَها، ومِن ثَمَّ القرار 1210 الذي، وبعدَ حَوالى ثمانية أشهرٍ، عادَ وأوجبَ اعتمادَ نظام محكمة التمييز العُثمانية وأسباب النقضِ التي تُثار أمامَها، والتي، ولأوَّل مرَّة، في تاريخ القانون اللبناني، يُنشَرُ نِظامُها في اللّغة العربيةِ، تاركين القديم من الصياغةِ على قِدَمِهِ … .
وأغَرّ ما في المؤلَّف، أنَّكُم تَجِدُون الجوابَ الشافي على تساؤلاتٍ حيَّرت العقولَ:
• يصولُ الكتابُ ويجولُ في المحكمةِ الفينيقية العُليا المُسماة ” طناجيج” “Tanajij” ،كما يقولُ العلامة Gaudemet Jean ،في كتابِهِ Institutions de l’antiquité، ودورُها ونِظامُها. ونقولُ: إنَّ الحضارةَ الفينيقية، أساس لبنان، لم تُعطِ العالم الأبجدية فَحَسِب، إنما أعطَتهُ نموذجاً ونِظاماً في عَمَلِ المحاكِم العليا قبلَ الحضارة الرومانية.
• وتَجِدُون أيضاً في الكتابِ شَرحاً حولَ المحكمةِ العليا الرومانية أيامَ مدرسةِ بيروتَ القديمةِ للحقوق في القرنِ الخامس ميلادي، ودورُ كلّ من ألوبيانوس وبابنيانوس وباتريسيوس، وبعضِ كبار “أباطِرة رومان” ذاك الزمن.
• ويتصدَّى الكتاب إلى الامتدادِ الاسلامي وأحكامِ الأَئِمَّةِ العارفين، التي كانت تَقبلُ النقضَ، وكيفيَّة انتظامِ ذلك، وخُصُوصاً دَور الامام مالك، والامام أبي يوسف، ودورَ الإمامِ العلَّامة الأوزاعي، كَمَرجِعٍ عالٍ، له القولُ الفصلُ الأخيرُ في نقضِ الأحكام.
• ويُبرِزُ الكتابُ نِظامَ المجلسِ الأعلى الكبيرِ، الذي كان، قَبل العام 1861، يَلعَبُ دورَ المحكمةِ العليا، والمؤلَّف من البطريرك الماروني، وهنا تحيةُ إكبارٍ إلى مُثلَّثِ الرَّحَمات الكاردينال صفير، والمطارنة عند المسيحيين، والمفتي وبعضِ المشايخ عند المسلمين، وهو المرجِع الأعلى لنَقضِ القراراتِ الصادرة عن الأمراءِ والمشايخ، ويُوَّثِّقُ أيضاً القوانين والمخطوطات التي كان يُستَنَدُ إليها ككِتابِ الهُدى، والذي عُنيَ عمّ الرئيس جان فهد بإعادةِ نشره، وكِتاب الناموس لابن القِلاعي، ومَجموعة ابنِ العسال القِبطي، والدِسْقَلية، ومَجموعة جرجس البرديوط، ومجموعات نفيسة في الشرعِ الاسلامي.
• ويُفصِّلُ الكتابُ نِظامَ مجلسَ المحاكمة الكبير بعدَ نكبةِ 1861، ودورَه ُكمَرجِعٍ أعلى في نقضِ الأحكام، وهيكليتَهُ، والقضاةَ العاملين فيه، وتَلاه محكمة التمييز العُثمانية، المنشأة بموجب القانون العُثماني بتاريخ 9 جمادي الثاني من العامِ 1296 هجري، أي حوالى العام 1880 ميلادي، كمَرجِعٍ أخيرٍ لتمييزِ القرارتِ الصادرةِ في لبنان، جَبلاً وساحلاً، عن جميعِ المحاكم النِّظامية، بعد أن فَرضَ المتصرِّف واصا باشا على لبنان تطبيقَ الشرائع العُثمانية، ووثَّقنا الكُتُب التي عُنِيَت بشرحِ أصولِ عملِ هذه المحكمة، ووضَعنا جَردةً بأسماءِ القضاة اللبنانيين الَّذين تبوَؤوا مناصِبَ في محكمةِ التمييز العُثمانية، ومِنهم الشهير سليم صابوني وزكي بيرق دار، … .
• ويُبيِّنُ الكتابُ، مَوقِعَ محكمةِ التمييزِ اللبنانيَّةِ من محاكمَ الدولِ العربيةِ الأخرى في الشرق الأوسط، ونقولُ بكلِّ اعتزازٍ: إن محكمةَ التمييز اللبنانيَّة هي الأعرَق، أُنشِئت في العامِ 1919، أما محكمةُ التمييزِ السورية فَوجِدت في العام 1920، والمِصرية في العام 1931، والأُردنية في العام 1952، والسعودية في العام 1975، والجزائرية في العام 1963.
ونُرَدِدُ أيضاً بكلِّ فخرٍ: أن نَشأة لبنان القانون سَبقت نشأة لبنان السياسة والجُغرافية والاقتصاد والمُحاصَصَة … .
• كما يُبيِّن الكتابُ الأسبابَ التاريخية المفصَّلة التي أدَّت إلى إنشاءِ محكمة التمييز اللبنانيَّة من قِبَلِ الفرنسيين، وتحديدِ اختصَاصِها المكاني، الذي كان يتجاوزُ حدودَ دولةِ لبنان الكبير، ويَصِلُ إلى مَنطِقَةِ العلويين في سوريا، وجَنوب تركيا، وسَنجَق الاسكندرونة، وجَبل بركات، ويَشرَحُ أهمّ قرارات المفوض السامي الصادرة في شأنها، مع مُلَّخصٍ لها بتسلسلٍ زمانيٍ واضحٍ، ومنها القرار الذي أوجدَ الغرفة الاسلامية لدى محكمة التمييز La Chambre musulmane ، والقرار الذي ألغى مجلس شورى الدولة وأعطى صلاحياتِه لغرفةٍ من غُرف محكمة التمييز، والقرارات التي كانت تُلغي هذه المحكمة وتُعيدُها، فأُلغيت في العامِ 1930، وأُعيدت في العام 1934، ثُمَّ أُلغيت في العام 1939، وأُعيدت في العام 1950، مع شرحِ أسبابِ إلغائِها وإعَادَتِها بالتفصيلِ، وذلك نتيجة ما استَجَدَّ من مصاعِبَ في التعريب والترجمة، ونِدرة عدد القضاة الفرنسيين واللبنانيين، وضِيقِ غُرَفِها، وعودة الفرنسيين الملحَّة إلى دِيارهم، وإعطاءِ صلاحياتِها إلى محكمة الاستئناف والتمييز في العام 1930 و1939، و محكمة توحيد الاجتهاد في العام 1943.
وتسهيلاً للبحث، وعلى امتدادِ أربَعِمائِة صفحةٍ، وبعنايةٍ فائقةٍ لتلافي الأخطاء المطبعيَّة، وبترتيبٍ زَمَنيٍّ، تُشاهدون سَلَّةً من القوانين والمراسيم الاشتراعية والقرارات والتعاميم، منها ما هو بالأصلِ الفرنسي مع التعريب، وبِلُغةِ ذاك الزمن وأُسلوبِه، حِفاظاً على جماليَّتها وأمانةً لنصِّها.
• ويُصوِّر الكتابُ تطورَ أسباب النقض مُنذُ محكمة التمييز العُثمانية إلى يومِنا الحاضر، مَثلاً، إن نظريةَ فُقدان الأساس القانوني لم تُعرف في لبنان، كسببٍ للنقضِ، إلا منذ العام 1934، بموجب القرار 178/ L.R..، وعند إلغاء محكمة التمييز كان يُصار دائماً إلى توسيعِ أسبابِ إعادةِ المحاكمةِ وإدراجِ الأسبابِ التمييزية مِن ضِمنها.
وإذا أرادَ المُشترعُ اليوم، إعادةَ إحكام تنظيم محكمة التمييز اللبنانيَّة، فما عليه إلا الانطلاق من القرار 178 / L.R.، الصادر في العام 1934، والاهتداء بهَديِهِ، لدِقَّته المُتناهية، وللحديثِ تَتِمَّة.
• ويُبيِّن الكتاب مدى تطور دور محكمة التمييز وعلاقتها بالمحاكم الشرعية والمذهبية والروحية واختصاص الهيئة العامة لمحكمة التمييز ورقابتها.
• ويُوضِحُ الكتابُ لغةَ قراراتِ محكمةِ التمييزِ أيامَ الانتداب، إذ تساءلنا عن المواِضعَ التي كانت فيها الفرنسية او العربية هي المستعمَلة، وشروط ذلك، ونَشرنا نماذِجَ نادرةً عنها مكتوبةً بخطِّ اليد .
• ويُبيِّنُ الكتاب أيضاً تطورَ تقاسيم غُرفِ محكمةِ التمييزِ وعدَدَها منذ العام 1919 ،مع جَردةٍ بأسماءِ القضاةِ من رؤساء ومستشارين، سَواءَ في الغُرفِ الجَزائية أو الحقوقية أو النيابةِ العامةِ التمييزيةِ أو المحكمةِ العسكريةِ وأسماء النُوَّاب والمحامين العاميين .
• وتعمَّقَ الكتابُ في تاريخ نشأة النيابة العامة التمييزية، والقضاة الذين تولُّوا العملَ فيها، وتاريخ نشأة محكمة التمييز العسكرية.
• ونَشرنا تَعاميمَ واعلاماتٍ وتبليغاتِ مجلس القضاء الأعلى، في ذاك الزمن، والتي كانت تُملي بعض التوصياتِ والتنبيهاتِ في حُسنِ سيرِ عملِ محكمة التمييز.
• وأبرزَ الكتابُ تطورَ رواتبَ قُضاةِ محكمةِ التمييزِ منذُ العام 1919، كما أظهرَ نماذِجَ عن شكلِ الثوبِ القضائي الذي كان يَرتديه كلٌّ من رئيسِ محكمةِ التمييزِ والمستشارِ فيها، والنائب والمحامي العام لديها.
• ونَشرنا طلائعَ قراراتِ محكمةِ التمييز اللبنانيَّة، إذ صَدَرَ القرارُ الأوَّلُ عنها بتاريخ 5 تشرين الثاني 1919، مع جَردةٍ بالموسوعات التي كانت تَعتني بنشرِها.
• وأشارَ الكتابُ إلى اتفاقياتِ التعاونِ التي تَربُطُ محكمةَ التمييز اللبنانية مع محاكِمَ أخرى، ولا سيَّما محكمة التمييز الفرنسية، وآخِرُها ما قامَ به مَشكوراً الرئيس جان فهد.
• وفي الكتابِ مُصَوَّرٌ أبجديٌّ بجميعِ أسماءِ القُضاة الذين تَوَلُّوا مهامَاً في محكمة التمييز مُنذ مئة عامٍ، وأسماءُ العديدِ من الزُملاء مذكورةٌ بإحسان.
وأسبَغنا السَردَ التاريخي بأسلوبٍ، رافلَ الجمالِ، مُحطَّبٍ بِطِلاوةٍ أدبيةٍ، حتى لا يَمَلُّ القارئ ولا يَقَعُ في رتابةِ مَنطِق الصياغةِ القانونيةِ وجَفَافِها.
وكلُّ ذلك فصَّلناه تفصيلاً تَشرَئبُ له الأعناقُ، وتَزيغُ بكثافتِهِ العيونُ، فهو وارفُ الطِّلالِ كثيرُ الثَمَر.
وما ذَكرناهُ غيضٌ من فيضِ، وقليلٌ من كثيرِ ما يَكْنِزُهُ الكتاب.
وعسى أن نكونَ قد أَضَفنا لَبِنَةً في عِمارة تاريخ القانون اللبناني وقضائه.
وهذا العَمَلُ الدؤوب، نهُديه إلى الجمهورية اللبنانية، وإلى القضاءِ اللبنانيّ، وإلى كلِّ فردٍ مِنكم، وإلى كلِّ رئيسٍ وعى التاريخَ في قلبِه فزادَ أعماراً إلى عُمرِه.
والتاريخُ ليس لعبادتِهِ بل للإقتداءِ به.
فيا زميلي القاضي، ويا عزيزي المحامي والأستاذِ الجامعي والباحِث، ويا عاشقاً لكلِّ كِتاب،
إقرأ، في هذا الشهرِ الفضيلِ، شهرُ الغنيمةِ والاغتنامِ، اقرأ باسم ربِّكّ الذي خَلق، إقرأ ورَبُّكَ الأكرم، إقرأ في كتابِ الكونِ والتاريخ.
*ألقيت هذه الكلمة في مُناسبة حَفل توقيع كتاب القاضي سميح صفير “تاريخ محكمة التمييز اللبنانيّة”، في 21 أيّار 2019، في قصر العدل في بيروت.
“محكمة” – الخميس في 2019/6/6