ادمون كسبار هو القانون.. تاريخ له غير مكتوب/إلياس كسبار
على اثر وفاة النقيب الشيخ ادمون كسبار، كتب المحامي الياس كسبار الذي واكبه منذ تدرّجه في مكتبه وحتى وفاته المقالة الآتية وذلك بتاريخ 1989/6/10:
في 1989/5/3، توفي النقيب والوزير السابق الشيخ ادمون كسبار، احد اكبر رجال القانون في لبنان والشرق عن ستة وثمانين عاما قضى منه ثلاثة وستين في المحاماة وكان نقيبا مرتين.
كان، بدون منازع، التاريخ غير المكتوب للقانون في لبنان، بالمعنى الواسع للكلمة اذ كان يروي لك الظروف والاسباب والملابسات لكل قانون صدر منذ انشاء دولة لبنان الكبير سنة 1920، وكيف جرى تفسير هذا القانون في المحاكم، وكيف تطور الاجتهاد، ثم كيف جرى تعديل القانون وتطويره. او الغاؤه.
في 5 كانون الثاني 1925، تسجل النقيب كسبار في نقابة المحامين في بيروت متدرّجاً في مكتب والده المرحوم الشيخ الياس كسبار، أحد اكبر القضاة في بداية هذا القرن، والذي ترك القضاء بعد الحرب العالمية الأولى ليمتهن المحاماة. وتوافرت له كل الظروف ليصبح رائداً في المهنة، طلعة بهية، وشخصية قوية، مميّزة، وعزم وصلابة وتصميم، وإرادة الدرس والبحث والمتابعة، ناهيك بمكتب والده الذي كان يتولّى أكبر القضايا ذلك الوقت.
والقضاء في لبنان كان يخطو خطواته الاولى، وكانت المحاكم مختلطة مؤلفة من قضاة فرنسيين ولبنانيين، وكان التشريع اللبناني الحالي في طور النشوء والتكوين بعد ان كانت الشريعة الاسلامية هي المعمول بها في ظل الحكم العثماني ومجلة الاحكام العدلية. وكان من حسن حظ رجال القانون آنئذ ان رافقوا صدور القوانين المختلفة ومعرفة اسبابها الموجبة، والمناقشات والدراسات قبل اقرار هذه القوانين التي استلهمت التشريع الاوروبي عامة والفرنسي خاصة. ومن هنا، برز في لبنان عمالقة القانون من محامين وقضاة وفقهاء. من مثل فؤاد الخوري، وديع نعيم وعبدالله لحود وفؤاد رزق وجورج فيليبس وجورج سيوفي واميل تيان وبشارة طباع…الخ وكلهم اصبحوا في ذمة الله.
وبالتأكيد، ان المرحوم الشيخ ادمون كسبار كان آخر هؤلاء العمالقة، حتى قيل فيه انه “بطريرك القانون دون منازع”
كل قضية عنده مسرح حرب، لا يهادن ولا يفاوض ولا يتلكأ ولا ينام على حرير، كانت المسألة القانونية ترافقه حيث وجد، في مكتبه، وفي منزله، وهو الى مائدة الطعام، وحتى في سريره وهو نائم. وكثيرا ما كانت تلمع في راسه نقطة قانونية في عز نومه، فيستفيق ويأخذ القلم والورقة قرب سريره ويدون الفكرة مخافة ان ينساها في الصباح.وكثيرا ما كانت هذه النقطة القانونية سببا لربح القضية.
كان الحق رائده، فلم يكن ليقبل الدفاع عن قضية يعتبرها خاسرة او ضعيفة وكان يحز في نفسه كثيرا ان يقرأ قرارا صادرا عن محكمة يتضمن خطأ واضحا في تفسيره او تطبيقه القانون. واطلع مرة على قرار صادر عن محكمة التمييز في قضية لم يكن له بها اية علاقة، فانتقد القرار بعنف في احدى المجلات القانونية. وفي اليوم الثاني لصدور المجلة، اتصل به رئيس المحكمة وكان صديقا كبيرا له، ومن انزه القضاة ليقول له بأن المحكمة كانت على خطأ فيما ذهبت اليه، فكان جواب النقيب كسبار موجعاً:”وما ذنب ذلك الذي خسر دعواه وضاعت حقوقه”
كانت نظرته الى القضاء فيها شيء من الالوهية. فالقاضي هو ظل الله على الارض، يعطي الحق ويثبته. وعليه تاليا ان يتحلى بالاستقامة والفهم والتمحيص وخاصة بالجدية والشعور بالمسؤولية، وكان في جعبة النقيب كسبار اخباراً لا تنضب عن القضاة، وعن خلفيات بعض الاحكام والقضايا الكبيرة، والتي تداخلت فيها السياسة احيانا، والاغراءات احياناً.
واكثر ما كان يكرهه، الطائفية في القضاء. كان ينتقد هذه المسألة بشدة وعصبية لانه لم يكن يتصور وجوب تعيين قاض في مركز حساس لانه من طائفة معينة على عدم كفاية هذا القاضي. وكان يروي دائما قصة ذلك القاضي الذي قضى عمره نائبا عاما، ثم عين رئيسا لمحكمة التمييز المدنية لانه اقدم القضاة في طائفته، وكيف ان هذا القاضي جاء اليه يشكو من المنصب لانه يفهم في القضايا المدنية على قدر ما يفهم في اللغة الصينية.
في سنة 1976، استدعاه الرئيس سركيس وطلب منه تقريرا مفصلا عن القضاء وشجونه، وعن مقترحاته لاصلاحه فتحمس كثيرا وكتب تقريرا مفصلا استغرق اسبوعاً من العمل المتواصل، واقترح فيه:
– الغاء مجلس الشورى
– الغاء الطائفية في القضاء الغاء تاماً
– تحسين وضع القاضي المادي، وكذلك وضع المساعدين
– تفعيل جهاز المراقبة على القضاء
وبقي التقرير في ادراج الرئاسة حبرا على ورق.
ومن منطلق كرهه للطائفية في القضاء، كان ينتقد دائما المحاكم الطائفية والمذهبية، ويعتبر انها صورة غير حضارية في المجتمع اللبناني، ساعدت وتساعد في تأخير التطور وتركيز دعائم الوطن، وخاصة كان يقول بأن تشابك القوانين الطائفية في لبنان يفسح المجال واسعا امام الاحتيال، وخاصة سهولة تغيير المذهب والطائفة، وفي رأيه، ان نظاما تشريعيا فيه الاحتيال مسموح، هو نظام فاسد غير مستقر وغير عادل.
لا شك ان النقيب كسبار كان المع من كتبوا وبحثوا في قضايا الارث والهبات والوصايا، ولا يزال كتابه المرجع الاول في هذا الميدان. واذكر ان بلدانا عربية عدة كانت تطلب تزويدها نسخا من الكتاب الجامع انظمة الارث والوصية لدى الطوائف والمذاهب، وهذا ما شجع انكبابه على تنقيح الكتاب لاعادة طبعه، ولم يتمكن من تحقيق هذه الامنية.
وللنقيب كسبار فضل كبير في تغيير الكثير من الاجتهادات والاراء القانونية، بدراسات عميقة ومستفيضة في تفسير المبادئ والنصوص، وكان دائما يعود في دراسته الى المنطق للتوصل الى تفسير النص، والمنطق يعني عنده، العدالة بمعزل عن تقييدها ببعض النصوص القانونية الجافة.
وبحكم تدرجه في مكتب والده، كان متضلعا من الفقه الاسلامي، وكان يروي انه في احدى اجتماعات القانونيين العرب، وكان هو يترأس وفد لبنان بكونه نقيبا للمحامين، اعتقد جميع الحاضرين ان هذا المحاضر في اصول الشريعة هو مسلم حتما، وهو شيخ لا بحكم لقب لبناني موروث، بل بحكم كونه فقيها مسلما. لذلك، يروي طلب منه ان يقرأ الفاتحة على ضريح الجندي المجهول في البلد العربي المضيف باسم المجتمعين ففعل.
كان يعمل بوصية والده، اذ يروي عنه قوله:”يا بني، ابتعد عن ثلاث، السياسة والقمار والخيانة”
هذه الوصية انعكست تماماً على حياته المهنية، وخاصة في القمار. فكان يعتبر ان القمار هو بحد ذاته خيانة لمهنة المحاماة، لان المقامر بماله لن يتوانى لحظة واحدة عن المقامرة بمصلحة موكله.
اما السياسة، فقد جنحت به الايام في الستينات وارادة دخول هذا المعترك. وصمم على ترشيح نفسه للانتخابات النيابية في منطقة بشري، وسرعان ما انكفأ تاركا السياسة لاهلها، وعندها، استدعاه الرئيس فؤاد شهاب ليعينه وزيرا للداخلية في حكومة الداعوق الشهيرة سنة 1960. ويروي النقيب كسبار تفاصيل قليلة عن هذا الموضوع، اذ يقول بأنه في مساء احد الايام، زاره الرئيس الياس سركيس وكان مديرا عاما للرئاسة في ذلك الحين وقال له “لقد ارسلني الرئيس شهاب. وعلم بأنك تخليت عن ترشيحك للانتخابات، ويسألك: هل تقبل بأن تدخل الوزارة؟
وفي الحقيقة، كان الرئيس فؤاد شهاب من اشد المعجبين بالنقيب كسبار وخلقيته وفهمه وقوة شخصيته. وكان يريده خلفا له في رئاسة الجمهورية. وما هو غير معروف الا عند القلة من الناس، انه في الوزارة التي تألفت سنة 1964 برئاسة الحاج حسين العويني، كان معروفا ان الوزير الماروني القوي فيها هو مرشح الرئيس شهاب. وكان في ذهن الرئيس شخص مفاجأة هو النقيب كسبار. ولكن الحاج حسين رفض ذلك لاسباب تتعلق بدعوى كبيرة جدا كانت عالقة امام المحاكم اللبنانية، وكان النقيب كسبار وكيلا فيها عن خصم الحاج حسين، وعبثا حاول الرئيس شهاب اقناع الحاج حسين بالفصل بين الامرين، اذ كان مستشرسا في الرفض. وكان الرئيس حلو هو الوزير. وبعد انتخابه رئيسا اصر الرئيس حلو على تعيين النقيب كسبار وزيرا بديلا منه في حكومة الحاج حسين نفسها، ولم يتمكن الحاج حسين من رفض طلب الرئيس الجديد لاعتبارات لا تخفى على احد. ورغم ابتعاده عن السياسة، كان النقيب كسبار صديقا حميما لكل السياسيين، من رؤساء الجمهورية الى رؤساء الوزارة الى النواب والزعماء كافة. وكان يتكلم عنهم من منطلق الصداقة فقط، ويتحاشى اي كلام عن ارائهم وتوجهاتهم السياسية، مع انه كان يعرف الكثير من الاسرار والاخبار، ومنطقه في ذلك يقوم على القول بأن اللبنانيين ناقلو كلام من قبيل التملق “وتبييض الوجه” وكل كلمة تقولها ستصل الى مرجعها حتماً.
كان يكلمك عن اعجابه بشخصية بشارة الخوري، ودماثة خلق رياض الصلح، ولياقة رشيد كرامي، وثقافة شارل حلو، وخجل الياس سركيس، وتهذيب امين الجميل.
ولكن احبهم اليه كان بدون منازع، الرئيس سليمان فرنجية. دائما يردد:” تؤيد او لا تؤيد سياسته، لا يمكنك الا ان تحبه وتحترمه، انه اوفى الاصدقاء وانبل الرجال”
وبالرغم من اعوامه التي تجاوزت الثمانين، كان النقيب كسبار يحرص على زيارة الرئيس فرنجية في كل مناسبة. وانا المرافق له، اشهد انني لم ار في حياتي صداقة كمثل صداقتهما التي كانت تزداد مرة بعد مرة.
وأكثر ما كان يرويه عن السياسيين، ما حصل له مع الرئيس سامي الصلح الذي أوكل إليه الدفاع عنه في دعوى مهمّة، يروي النقيب كسبار:”في صبيحة أحد الأيّام، اتصل بي سامي بك، وكان رئيساً للوزراء، وقال بأنّه سيحضر إلى الغداء مع سكرتيره مختار مخيش، فرحّبت به وسألته عن طعامة المفضّل لإعلام زوجتي بالأمر، فقال لي، الغداء أريده في مكتبك بعيداً عن الرسميات، حمص وفتّة فقط، وعبثاً حاولت، فأصرّ، وبعد الغداء، استراح الرئيس الصلح على كنبة في المكتب وأغمض عينيه، فصمتنا حتّى لا نزعجه، وبعد دقائق عديدة، فوجئنا به يتوجّه إلى مختار مخيش بالسؤال عن عدد سكّان الصين، فأجابه سكرتيره:”بحدود النصف مليار” (كان ذلك في أوائل الخمسينات)فردّ الرئيس الصلح بعفوية: تأكّد أنّ حكم الصين أسهل بكثير من حكم لبنان. ثمّ أغمض عينيه مجدّداً ونام. وكان النقيب كسبار يردّد: هذا أصدق كلام في السياسة اللبنانية.
كلّ هذه العظمة والشموخ، قابله ضعف لدى النقيب كسبار تجاه عائلتيه، عائلته الصغرى في البيت، وعائلته الكبرى في نقابة المحامين.
عائلته الصغرى في بيته كانت تتقدّم كلّ شيء في حياته. ولئن كتب الكثيرون أو عرفوا عن النقيب كسبار تلك القساوة في المهنة والشراسة في الدفاع والجمود في تعابير الوجه وهو وراء مكتبه، فإنّ المقربين يعرفون أنّه كان ربّ العائلة المثالي حيث احترامه لزوجته ورعايته لأولاده.
أمّا عائلته الكبرى، فالمحامون، وكان لديه احترام كبير لكلّ محام، كائناً من كان. وقد انطلق دائماً من فكرة راسخة في ذهنه أنّ المحامي هو رجل قانون وعدالة ومنطق، ولا يمكنه أن يرتكب الحماقات ولا أن يفقد النزاهة والأخلاق، وفي آن، يعرف الجميع مدى حرص النقيب كسبار على تأدية كلّ واجب مهني، فلم يكن يتغيّب يوماً عن حضور جمعية عمومية أو جلسة مجلس النقابة. وتعبيراً عن مدى تعلّقه بهذه النقابة، وهبها أثمن ما لديه، مكتبته.
نهار الجمعة الثامن من أيّار 1989 وتحت وابل القذائف، اودعناه تراب الارض في القبر المظلم.
وكم يصعب علي وعلى من عرفه ان يدخل قصور العدل في لبنان وهو غائب الى الابد. كنا دائما، عند سماعنا خبر رحيل عملاق في المهنة، نتعزى بأن النقيب كسبار ما زال على قيد الحياة، نهرع اليه كلما اعيتنا الحجة القانونية.
كانوا ثلاثة في الثمانيات، فؤاد رزق، عبدالله لحود، وادمون كسبار، وكانوا لا يزالون في المهنة يمارسونها بشغف بعد ان تقاعد نقيبها الكبير المرحوم فؤاد الخوري. وفي فترة زمنية لا تتجاوز السنة، رحل الاربعة، وكأنهم على موعد مع القدر والموت، تاركين فراغا كبيرا وخسارة لا تعوض.رحمهم الله.
“محكمة” – الخميس في 2019/9/5