خاص محكمة :الطابق الرابع في قصر العدل/سامي منصور
بقلم القاضي الدكتور سامي منصور(رئيس محكمة التمييز شرفاً):
من نِعَم الله علينا، أنّه لم يكن عندنا من وسائل التواصل الاجتماعي أثناء عملنا القضائي سوى وسيلة واحدة هي التلفون اليدوي “أبو قرص” ثمّ تطوّر إلى تلفون بالأرقام “أبو كبسة”. ولم نكن نعرف في حينه من كان رئيساً لمجلس القضاء الأعلى ولا من هم أعضاء هذا المجلس، وأنّه يوجد طابق رابع جنوبي في قصر العدل توجد فيه هيئة التفتيش القضائي في الجهة الشرقية من الطابق يقابلها النيابة العامة التمييزية في الجهة الغربية من الطابق، وأنّ بقيّة الغرف هي مخصّصة لقضاة التمييز ومجلس القضاء الأعلى.
فحدودنا كانت هي الطابق الأوّل والثالث في مبنى قصر العدل، وأن لا عمل لنا كمحاكم أساس إلاّ في نطاق هذين الطابقين. وكان الاحترام والثقة من قبل كبار قضاتنا تفرضان بالممارسة وبالحكمة القضائية.
وأذكر أنّني زرت الطابق الرابع في مناسبتين.
المناسبة الأولى، عندما كنت قاضياً متدرّجاً في معهد الدروس القضائية، ودعاني رئيس هيئة التفتيش القضائي آنذاك المرحوم عبد الباسط غندور ليتأكّد مني عن مرجع فقهي ذكرته أمامه أثناء الدراسة ولم يكن متوفّراً في المكتبة القضائية في الطابق عينه.
وما لا أنساه أبداً أنّني بقيت متوتّراً ومتشنّجاً في اليوم الذي سبق هذا الموعد. وقد كنت مضطرّاً لهذه الزيارة.
المناسبة الثانية، عندما عيّنت في مجلس القضاء الأعلى في أواخر التسعينات من القرن الماضي. وهنا أيضاً، كنت مضطرّاً لهذه الزيارة .
المشكلة التي يعاني منها القضاء اليوم هي زيارة الطابق الرابع في قصر العدل في أيّ لحظة، إمّا بصورة مباشرة شخصياً، وإمّا بصورة غير مباشرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الالكتروني وإبداء الرأي وتقييم العمل القضائي بواسطتها، من أيّ قاض مهما تكن درجته، والتأييد أو الرفض لهذا الموقف أو ذاك سواء أتى من السلطة المعنية بالعمل القضائي أو من السلطات الأخرى المهتمة بهذا العمل، والدعوة إلى المقاطعة والاعتكاف، وتشكيل تجمّعات ضغط. وينسبون إلى أنفسهم أيّ قرار يتخذّ لمصلحة القضاء كما لو كنا هيئات نقابية تطالب بحقوق المنتسبين إليها، متناسين أنّ الأمر يتعلّق بسلطة قضائية واحدة، وأنّ هنالك ممثّل واحد لهذه السلطة تحمي وتصون القضاء.
والخطورة في ذلك، هي في أن يتحوّل القضاء إلى جبهات متناكفة، جبهة الموالاة وجبهة المعارضة وفئة اللامبالين.
إنّ شيمة القضاء، أيّ قضاء، هي العمل بصمت دون ضجيج أو بهرجة أو تحويل العمل القضائي إلى إعلام خاص وعام، تناقش فيه الشؤون القضائية على صفحات التواصل الاجتماعي والجرائد من كلّ ذي مصلحة.
إنّ التهنئة أو الانتقاد لم يكونا في قاموسنا. فالتهنئة تكون للمركز وليس للشخص الذي تبوأ هذا المركز، والتقييم لا يكون لا للماضي ولا للحاضر. فالشخصانية مرفوضة في العمل القضائي، والتقييم يعود للمؤسّسات القانونية التي تنحصر فيها المسؤولية عن العمل القضائي. فليس من مرجعيات في القضاء وإنّما هنالك مرجعية واحدة هي مجلس القضاء الأعلى.
أحد وزراء العدل في مصر في إحدى جولاته على المحاكم في المناطق، أرسل يهنئ أحد رؤسائها عن حسن إدارته للجلسات، فردّ له الرئيس الرسالة مذيّلة بأنّها مردودة، وأنه لا داعي للشكر، فتقييم عمل المحاكم هو مسألة قضائية صرفة وليس للوزارة أيّ شأن بها. وأحد رؤساء المجلس الدستوري الفرنسي الذي كان صديقاً حميماً لرئيس الجمهورية في حينه، أرسل لهذا الرئيس بعد تعيينه كتاباً أبلغه فيه بأنّه بقدر ما كان صديقاً له في الماضي، فإنّه اليوم كرئيس للمجلس الدستوري هو أوّل ناكر له بالجميل، وأنّه سيكون من أكثر المواجهين لأيّ عمل غير قانوني يصدر عن أيّ مرجع في الدولة.
هكذا يبنى القضاء، وهكذا تكون دولة المؤسّسات والقانون.
إنّ ما كتبته هو في العمل القضائي بشكل عام وترجمة للمبادئ التي تعلّمناها وتربّينا عليها خلال عملنا القضائي وبكلّ تواضع، واعتذر عن كلّ تفسير بأنّه تدخّل في الشأن القضائي.
“محكمة” – الأربعاء في 2019/9/18