المحامية جيزال زوين*:
1. شهد لبنان في الآونة الأخيرة عدّة اشكالات ما بين مواطنين إختاروا ممارسة حقّهم في حريّة التعبير عن الرأي – المكرّس دستوراً – في الساحات والطرقات العامة من جهة، وبين عناصر من قوى الأمن المكلّفة السهر على الأمن والسلامة العامة من جهة أخرى، وقد أدّى بعض هذه الاشكالات إلى احتجاز مواطنين والتحقيق معهم من قبل الجهاز الأمني الذي حصل الإشكال مع عناصره.
يطرح هذا المشهد إشكالية قانونية أساسيّة تتعلّق بحياد التحقيق الأوّلي وبعدالة إجراءاته.
2. فإذا كان صحيحاً أنّ التحقيق المذكور يتمّ بإشراف النيابة العامة وبأنّ احتجاز المشتبه فيه غير جائز إلاّ بقرار منها (المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة) ما قد يوحي أنّ للقوى الأمنية في هذا الإطار دوراً محدوداً، إلاّ أنّ واقع الأمور يفرض ممارسات ودينامية جدّ مختلفة، إذ إنّ قوى الأمن هي من تخابر النيابة العامة وتطلعها على مجريات الأمور وعلى “نتيجة التحقيقات” ما يؤدّي، عملياً، إلى نقل الرواية التي يكون قد اقتنع بها عنصر الأمن القائم بالتحقيق. وبالتالي، ونظراً لعدم اطلاع النيابة العامة في غالب الأحيان على أوراق الملفّ بنفسها، وعدم استماعها بنفسها إلى المشتبه فيهم، وإلى الشهود في هذه المرحلة من التحقيق، فإنّ المعلومات التي تنقل إليها وتؤثّر على رأيها هي تلك التي يكون قد قرّر عنصر الأمن نقلها إليها وذلك ضمن سياق الأحداث الذي يختاره أيضاً.
وإنْ كانت هذه الإشكالية هي إشكالية عامة تطال واقع التحقيقات الأوليّة عموماً ويقتضي بالتالي، بحثها في الإطار الأشمل لدور النيابات العامة وارتباط الضابطة العدلية بها وأصول عملهما ومنهجيته، وذلك من خلال المناقشات المتعلّقة بتحديث وتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية، إلاّ أنّ الجزئيّة المرتبطة بتأثير هذه الإشكالية على حياد التحقيق الأوّلي وبالتالي على صحّته وعدالته هي مسألة يقتضي التطرّق إليها ومعالجتها فوراً لما لها من ارتدادات جوهرية على حرّيات الأفراد وعلى حقوقهم الأساسية المرتبطة بعدالة الإجراءات والتي هي من أسس دولة القانون.
3. وفي هذا الإطار، تنصّ مدوّنة قواعد سلوك عناصر قوى الأمن الداخلي الصادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في العام 2011 على جملة من الموجبات التي يقتضي على عنصر قوى الأمن الالتزام بها، ومنها التعامل بعدل وإنصاف وحيادية (البند الرابع من المدوّنة والبند 4-1 من المذكّرة التفسيريّة) والترفّع عن المصالح الشخصية (البند الثالث من المدوّنة). وفي فرنسا، تنصّ المادة R. 434-11 من قانون الأمن الداخلي على ضرورة التزام الشرطي والدركي بموجب الحياد.
وقد أصبح من الثابت اليوم أنّ مبدأ الحياد يندرج ضمن ضمانات المحاكمة الجزائية العادلة وبشكل أوسع، ضمن ما يعرف بالإجراءات العادلة (المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان) ولا يقتصر مفعوله على مرحلة المحاكمة. وبالفعل، فقد أكدّت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنّ المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تنطبق على المرحلة التحضيرية للمحاكمة الجزائية (القرار تاريخ 1993/11/24 ، Imbrioscia c/ Suisse، الدعوى رقم 88/13972) لا سيّما على التحقيقات التي تقوم بها الشرطة (القرار تاريخ 2000/7/11 ، Dikme c/ Turquie، الدعوى رقم 92/20869) ما يوجب معه أن تكون تلك التحقيقات حياديّة (القرار تاريخ 2010/3/30 ،Poncelet c/ Belgique ، الدعوى رقم 07/44418 ).
وقد كرّست محكمة التمييز الفرنسية أيضاً مبدأ وجوب التزام القائم بالتحقيق في الشرطة القضائية بالحياد من خلال إقرار بطلان الإجراءات التي تخالف هذا المبدأ حين يكون من شأنها الإضرار “بالطبيعة العادلة والوجاهية للإجراءات أو المساس بميزان حقوق الأطراف” (الغرفة الجزائية، القرار تاريخ 2008/5/14، رقم 08-80.483، RSC 2008، ص. 631، ملاحظات Giudicelli ، و AJ pénal2008، ص. 328، ملاحظات Roussel ).
4. ينطبق إذاً مبدأ الحياد على عمل الضابطة العدلية ليس فقط إنطلاقاً من النصوص المرتبطة بسلوكياتها، بل أيضاً وبشكل خاص إنطلاقاً من المبادئ الأساسية التي ترعى عدالة الاجراءات وتضمن حقوق الدفاع، ما يستوجب معه ألاّ يكون القائم بأعمال التحقيق الأوّلي بوضعية خلاف أو عداوة أو مودّة مع المشتبه فيه قياساً على أسباب تنحّي القاضي وردّه (المادتين 120 و121 من قانون أصول المحاكمات المدنية) والتي نؤيّد إقرار تعديل تشريعي يكرّس تطبيقها بشكل عام على عناصر الضابطة العدلية بوصفهم من مساعدي النيابة العامة (قارن: محمّد زكي أبو عامر، الإجراءات الجنائية، منشورات الحلبي الحقوقيّة، 2010، رقم 37، ص. 120).
وبالفعل، فمن المرجّح أن يؤثّر سلباً الخلاف القائم ما بين الجهاز الذي ينتمي إليه القائم بأعمال التحقيق الأوّلي والمواطن المشتبه فيه على حياد إجراءات هذا التحقيق، ما يخشى معه أن يتمّ تحليل ونقل معطيات الملفّ للنيابة العامة بشكل انتقائي – عن وعي أو غير وعي – لرسم صورة معيّنة عنه بما يخدم الغاية المتوخّاة – أيّ في حالتنا الراهنة بهدف الاستحصال على قرار باحتجاز المشتبه فيه -، وذلك للإقتصاص منه لما يعتبر تعرّضاً للجهاز الأمني المعني.
وخلاصة القول إنّه لا يمكن تصوّر أن تكون عدالة الإجراءات وحيادها مصانة ضمن بيئة تطغى عليها مشاعر الخصومة والتحدّي والتشنج ما بين أطراف الإشكال، خاصة في الأجواء السائدة حالياً في الشارع والتي تتمّ على أثرها الاحتجازات.
5. لذا، فإنّ النيابة العامة مدعوة اليوم، وفي كلّ مرّة يكون التحقيق الأوّلي مرتبطاً بإشكال ما بين مواطن وعنصر من عناصر جهاز أمني معيّن، أن تتولّى التحقيق بنفسها وتستجوب المشتبه فيهم، لا أن تكلّف هذا الجهاز، القيام بالتحقيق، لما في ذلك من تهديد، بل من نسف لمبادئ الاجراءات العادلة ومن ضمنها تعريض المواطن المشتبه فيه للسطوة المعنويّة والفعليّة للجهاز الذي دار الإشكال مع أحد عناصره والذي هو إذاً في خصومة مباشرة معه.
وبالفعل، إنّ مجرّد حدوث ذلك الإشكال يضع الجهاز في موقع تضارب مصالح واضح مع المواطن المعني، ومن المتوقّع إذاً، أن يسعى إلى تبرير سلوكيّات عناصره توصّلا ً لتبرير حسن عمله وحسن إدارته لهم. ولا يمكن بالتالي، الركون إليه للقيام بالتحقيقات الأوّلية وللعب دور الطرف الثالث المحايد الذي يؤمّن صلة الوصل ما بين المواطن المشتبه فيه والنيابة العامة.
6. تأتي دعوة النيابة العامة لتولّي التحقيق الأوّلي بنفسها في الحالات السابق ذكرها قياساً على المادة 24 مكرّر من قانون أصول المحاكمات الجزائية (المضافة بموجب المادة 5 من القانون رقم 65 تاريخ 2017/10/20 المتعلّق بمعاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة)، والتي تنصّ، في فقرتها الأولى، على أنّه في حال “ورود شكوى أو إخبار إلى النيابة العامة في شأن الجرائم المنصوص عليها في المادة 401، على هذه النيابة العامة، ضمن مهلة 48 ساعة، أن تقرّر إمّا حفظ الشكوى، وإمّا الادعاء أمام قاضي التحقيق دون إجراء أيّ استقصاء أو تحقيق أوّلي في هذا الصدد إلاّ من قبلها شخصياً، باستثناء القرارات الضرورية للمحافظة على الأدلّة وضبطها…”، وفي فقرتها الثانية على أنّه “على قاضي التحقيق الناظر في الدعوى أن يتولّى بنفسه القيام بجميع إجراءات التحقيق في شأن الأفعال المنصوص عليها في المادة 401 من قانون العقوبات دون استنابة الضابطة العدلية أو أيّ جهاز أمني آخر بأيّ إجراء باستثناء المهمّات الفنّية”.
وفي هذه النصوص تكريس واضح لمبدأ الحياد في التحقيقات التي تتناول أعمال الأجهزة الأمنيّة بحيث لا يجوز لهذه الاخيرة أن تتولّى تحقيق أوّلي حين يكون أحد عناصرها في موقع الشبهة في ما خصّ موضوعه. وتعدّ تلك المقاربة اعتماداً للبعد الموضوعي لمبدأ الحياد الذي ينطلق هنا من واقع الارتباط الوظيفي ما بين أحد المشتبه فيهم (أيّ العنصر الأمني) والجهاز الذي يقوم بالتحقيق الأوّلي، وهو البعد الذي يفرض نفسه في هذه الحالات طالما أنّ الهدف الأوّل والأساسي لإدارة إجراءات التحقيق هو ضمان صحّتها وشرعيتها والوصول إلى الحقيقة دون التعرّض لقرينة البراءة التي يستفيد منها طرفا الإشكال.
7. ويكون دور النيابة العامة إذاً، من خلال تولّيها التحقيقات بنفسها، ضمان تفعيل مبدأي الحياد وتعادل الأسلحة في إجراءات التحقيق الأوليّ – خاصة بالنظر لوجود طرف ضعيف في المعادلة (أيّ المواطن) يتمّ التحقيق معه من قبل قوى الأمن في غياب محاميه -، وبالتالي ضمان عدم تعريض هذه الإجراءات للبطلان في وقت لاحق وفق ما سبق بيانه.
فإنْ كانت إجراءات التحقيق بحدّ ذاتها غير مصانة بمبدأي الحياد وتعادل الأسلحة، فضمانات عدالة ومشروعية نتائجها ستكون مفقودة بدورها. وما سبق يكفي بحدّ ذاته للحؤول دون تكليف الجهاز المعني بالإشكال القيام بالتحقيقات بشأنه، لعدم إمكانية الركون إلى نتائج مثل هذه التحقيقات.
وخلاصة القول، إنّ تولّي النيابة العامة لهذه التحقيقات بنفسها يشكّل ضمانة ليس فقط لعدالة الإجراءات ولوصولها للحقيقة بما يفعّل دور النيابة العامة في صون الحقوق والحريّات ويضمن أيضاً صوابية قراراتها، بل إنّه يشكّل أيضاً ضمانة لهيبة القوى الأمنيّة وحيادها ووقوفها – كمؤسّسة – على مسافة واحدة من الجميع.
فكما قال الفيلسوف الفرنسي باسكال، إنّ العدالة بلا قوّة عاجزة، والقوّة بلا عدالة مستبدّة.
*محامية في الاستئناف، ماستر تنفيذي في إدارة الأعمال (الجامعة الأمريكية في بيروت)، باحثة في جامعة باريس 2
“محكمة” – الجمعة في 2019/12/6
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.