التعليق على مشروع قانون”الكابيتال كونترول”/جان تابت
المحامي جان تابت:
القسم الأوّل – المقدّمة:
1. إبّان الثورة التي عصفت بلبنان بتاريخ 2019/10/17، بدأنا نشهد أزمة مصرفية واقتصادية واجتماعية خانقة، أدّت بالنتيجة إلى منع المودعين من التصرّف بأموالهم، وقد طرحت هذه الأزمة موضوعاً بغاية الخطورة وهو يتعلّق بمدى شرعية التدابير والاجراءات “الاستثنائية والمؤقّتة” غير المقوننة التي قيّدت حقوق المودعين، وأتاحت للمصارف تحديد المبلغ الأسبوعي الذي يمكن للمودع أن يقبضه وهو /100/د.أ. ، وأحياناً /200/د.أ. ، لا يحقّ للعميل أن يسحب سواه من وديعته.
2. وقبل التطرّق إلى ركائز مشروع القانون موضوع التعليق، وإلى التدابير التي شرّعها بصورة استثنائية، فإنّنا وجدنا ضرورة التوقّف عند الملاحظات التالية:
القسم الثاني- في أنّ مشروع القانون جاء يشرّع التدابير التي أقدمت عليها المصارف منذ 2019/10/17، على نحو يطيح بحرّية تصرّف المودع بأمواله، في حين أنّ هذه الحرّية هي المبدأ الذي بُني عليه النظام المصرفي اللبناني:
1. إنّ مشروع القانون جاء يشرّع التدابير المتخذة من قبل جمعية المصارف منذ 2019/10/17، والتي طبّقتها تباعاً، دون وجود لأيّ قانون يبيح ممارساتها التعسفية بحقّ المودع، منذ شهر تشرين الأوّل لغاية اليوم، أيّ ما يعادل الـخمسة أشهر، على نحو قيّد بصورة صارخة حرّية المودعين بالتصرّف بوديعتهم وفق ما تقتضيه مصلحتهم، سواء أكان ذلك من خلال: منع إجراء تحويلات إلى الخارج، أو من خلال وضع سقف للسحوبات المالية، أو لناحية تجزئة فائدة الحساب المودع بالدولار الأميركي وصرفها مناصفة بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي، وصولاً إلى عدم إمكانية إجراء أيّ سحب بالعملة الأجنبية نقداً، أو لناحية تحديد سقف عند إجراء سحوبات مالية بالليرة اللبنانية.
2. هذا الوضع خلق عند الناس الحاجة لأموالهم من أجل تسديد استحقاقات، إنْ كان لناحية دفع اقساط أولادهم المدرسية، أم تسديد الديون المترتّبة في ذمّتهم، أم تسديد بدلات إيجار مستحقّة، أو استيراد بعض السلع الضرورية لحاجاتهم التجارية… إذ إنّ المصارف تمتنع عن تلبية تسديد أيّة وديعة حتّى ولو كانت مودعة في حسابٍ جارٍ، كما أدّى هذا الوضع إلى الحؤول دون فتح أيّ اعتماد مستندي أو بالعموم دون القيام بأيّ من العمليات المصرفية التي كانت تتمّ قبل 2019/10/17 بصورة عادية.
3. أضف إلى القيود المفروضة على الحرّية الاقتصادية حيث شهدنا إغلاقاً للمصارف كان يتقرّر من خلال جمعية المصارف، ولفترة جاوزت الشهر منذ ذلك التاريخ، في وقت أنّه لا يدخل ضمن اختصاص الأخيرة اتخاذ مثل هكذا قرارات، كون جمعية المصارف هي جهاز نقابي، ولا تشكّل سلطة قانونية لا على المصارف ولا على المودعين، ولا يحقّ لها أساساً القيام بهذه الإجراءات غير القانونية والاستنسابية والتعسفية.
4. تجدر الملاحظة إلى أنّ القضاء المستعجل تصدّى لبعض الممارسات المصرفية من خلال إصدار أكثر من حكم قضائي ضدّ المصارف. وبمتابعتنا لهذه الأحكام، تبيّن أنّ محكمة التمييز، الغرفة الخامسة، وفي بتّها بأكثر من استدعاء نقض مقدّم ضدّ قرارات محكمة الاستئناف التي ردّت طلبات وقف التنفيذ، قضت بوقف التنفيذ الجاري ضدّ المصارف.
5. وبالتدقيق، تبيّن أنّ المحكمة العليا تعتبر أنّنا بصدد عقد وديعة، وأنّ أيّ تدبير يقرّره القضاء المستعجل بهذا الخصوص يشكّل تصدّياً للأساس، الأمر الذي يخرج عن صلاحية القضاء المستعجل. وهذا الاجتهاد لمحكمة التمييز لطالما طبّقته في كلّ مرّة تجد أنّ القضاء المستعجل يتوسّع في تطبيق أحكام المادة /579/ من قانون أصول المحاكمات المدنية.
6. ويبدو أنّ المصارف، ومن أجل قوننة تصرّفاتها، لجأت إلى الحكومة حيث وضع وزير المال مشروع القانون موضوع التعليق، وأنّ هذا المشروع قد بيّن صراحةً من هي الجهة المختصة قانوناً لفرض تدابير مؤقّتة واستثنائية تحاكي الواقع الاقتصادي والمالي، وتأخذ بالاعتبار تداعيات هذا الواقع على القطاع المصرفي من جهة، وعلى مصالح المودعين العملاء من جهة أخرى، والجهة حتماً هي السلطة التشريعية ضمن قانون غير موجود حتّى اليوم.
7. وبعد الإطلاع على مشروع القانون، ننتقل من مرحلة الاستفهام والتشكيك بمدى قانونية الضوابط التي فُرضت سحابة مدّة خمسة أشهر على العمليات والخدمات المصرفية، لنصل إلى مرحلة التأكيد والجزم بأنّ موقف الخبراء والاختصاصيين بعلم الاقتصاد، وصرخة المودعين والمواطنين، وتصريح نقيب المحامين في بيروت الدكتور ملحم خلف في بيانه، هو موقف صحيح وقانوني، إذ إنّ التدابير التي فُرضت على العملاء والمودعين هي قطعاً تعسفية واستنسابية، وإن كان هنالك ما يبرّرها، إلاّ أنّ هذا التبرير يفقد كلّ قوّة طالما لم يتوفّر له الغطاء القانوني، وطالما أنّه صدر بناءً لتقرير ولإرادة أحد فريقي العقد دون الآخر، وقصدنا المصارف والمودعين.
8. إنّ مشروع القانون وللأسف جاء يشرّع أيضاً التحويلات التي حصلت من المصارف إلى الخارج حيث خرجت هذه الأموال دون أيّ عقاب، ولم يلحظ المشروع المذكور أيّ إلزام من حولها بوجوب استردادها، فلا يكون الهدف منه إلاّ حماية المصاريف.
9. ولا بدّ بعد ذلك من استعراض نصوص مشروع القانون في البدء، لننتقل إلى مرحلة إثبات مدى مخالفتها للقوانين المرعية الإجراء ذي الصلة، ويأتي في مقدّمتها الدستور اللبناني وبعده قانون النقد والتسليف وغيرهما.
القسم الثالث: في ما تضمّنه مشروع القانون الذي كان من المفترض لمجلس الوزراء إقراره، إلاّ أنّه أرجأ ذلك بسبب وجود تباينات بين الوزراء لأنّ البعض أيّد مشروع القانون، بينما البعض الآخر اعتبر أنّه يقيّد حقوق المودعين ويمنعهم من قبض الأموال المفترض أن يتصرّفوا بها وفقاً لمآل العقود الموقّعة مع المصارف:
1. بالعودة إلى مشروع القانون المعجّل، نقرأ تحت المادة الثانية : “نطاق تطبيق القانون”، فقرة /2/ وفقرة/3/، ما يلي:
“- تنظيم السحوبات المالية والتحويلات المالية من حسابات العملاء إلى الخارج لأسباب شخصية وعائلية.
-تنظيم التحويلات المالية من حسابات العملاء للخارج لأغراض مهنية واقتصادية ومنها التجارية والصناعية والزراعية والاستشفائية والتكنولوجية بشكل يحفّز الاقتصاد الوطني.”
2. تضيف المادة الثانية في فقرتها الأخيرة تحديداً للأموال المستثناة من أحكام مشروع القانون، مشيرة إلى أنّ سبب هذا الاستثناء هو “التماشي مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية”، لنقرأ تحت هذه الفقرة تعداداً للأموال المستثناة: من أموال وإيداعات البعثات الديبلوماسية والسفارات والمنظّمات الدولية والاقليمية والعربية العاملة في لبنان، وصولاً إلى أموال الدولة ومصرف لبنان، وأموال المؤسّسات المالية الدولية. وأنّ هذه المادة بحدّ ذاتها مثيرة للإنتقاد.
3. أمّا المادة الثالثة المعنونة “الأموال المسمّاة “أموالاً جديدة””، فهي مستثناة صراحةً من أحكام هذا المشروع، وهي معفاة من الضوابط والاجراءات، وهي تخضع لشروط التعامل العامة مع المصارف وللقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، مع العلم أنّ بعض المصارف، في الفترة الحاضرة، لا تسمح لعملائها بقبض حتّى هذه الأموال، والتي أطلق عليها الحاكم رياض سلامة عبارة Fresh Money والتي يمكن قبضها من المصرف نقداً، في حين أنّ بعض المصارف لم تتقيّد بتعاميم مصرف لبنان حتّى في ما يتعلّق بالـ Fresh Money وهي تمتنع عن تسليم الدولار النقدي Banknote.
4. أمّا المادة الرابعة من مشروع القانون، فقد تناولت التحويلات المصرفية إلى الخارج، وهي مقيّدة طيلة فترة مشروع نفاذ القانون، إلاّ أنّها أجازت، ما خلا ما سمّي بـ”الأموال الجديدة”، تأدية خدمة تحويل الأموال إلى الخارج لتلبية نفقات محدّدة صراحة بـ:
• الأقساط المدرسية والجامعية، كلفة المعيشة في الخارج، الطبابة والاستشفاء، وكلّها لغاية مبلغ محدّد سقفه بالدولار الأميركي.
• النفقات الملحة الناشئة قبل نفاذ القانون أو خلال مدّة نفاذه.
• القروض السابقة لنفاذ القانون.
• الضرائب والرسوم المتوجّبة قبل نفاذه أو التي ستتوجّب خلال نفاذه إذا كان سببها أو منشؤها سابقاً لهذا التاريخ، على أن يتمّ التحويل ضمن شروط وآليات منصوص عنها في الفقرة 2 من المادة المذكورة.
5. قيّد مشروع القانون عملية تحويل الودائع من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية، ما عدا ذلك، وفي ما يتعلّق بالتعاملات الداخلية، فقد حرّرها من القيود، واجاز السحوبات بالليرة اللبنانية دون أيّ سقف أو قيد، باستثناء السحوبات التي تتجاوز قيمتها الـ 25 مليون ل.ل. للمودع الواحد، فهنا لا بدّ من إبلاغ المصرف قبل 48 ساعة بهذا السحب.
6. أمّا بخصوص السحوبات بالعملات الأجنبية، فهي تخضع لسقوف تحدّد بقرار يصدر عن مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير المال، وأنّ هذا القيد هو مبرّر بالـ “ظروف الاستثنائية” الحاضرة وانطلاقاً من مبدأ “التداول بالعملة الوطنية”، علماً أنّ المبدأ المذكور يضمحلّ أمام مبدأ آخر أسمى: وهو حرّية التداول، وهي حرّية كفلها الدستور في مقدّمته، وتشكّل أسلوباً لكلّ نظام اقتصادي لا يدّعي قولاً أنّه حرّ، بل يمارس ليبراليته بالفعل.
7. الآن، وبعد أن وعت الجهة المختصة دورها في تنظيم الأزمة المالية، إستدركت بعض المعايير التي يجب أن تستند إليها في فرضها الضوابط المؤقّتة لحين تحسّن الظروف الاقتصادية الهشّة، وهي معايير لم تكن تُراعى عند تقييد حرّية المودعين والعمليات المصرفية دون وجود لأيّ قانون كما سبق وذكرنا، والتي ما زالت مستمرّة لغاية إقرار هذا المشروع الذي يحتاج إلى تعديل كونه ناقصاً وغير قانوني.
القسم الرابع- في النصوص القانونية التي تجعل من مشروع القانون موضوع التعليق مفتقداً للشرعية الدستورية والقانونية، إذ لا يعقل أن يحصل تشريع إلاّ ضمن اطر النظام العام والأحكام القانونية الإلزامية، سيّما وأنّ مشروع القانون موضوع التعليق قد جاء مخالفاً، وبصورة صارخة، لأحكام قانونية انتظم العمل بها، وهي أحكام قانون الموجبات والعقود، وقانون التجارة البرّية، وقانون النقد والتسليف، بالإضافة إلى المبادئ التي أقرّها القانون الأعلى في الدولة أيّ الدستور اللبناني في مقدّمته:
1. بادئ ذي بدء، لا بدّ أن نستهلّ هذا القسم بما استهلّ به المشروع المذكور من أسباب موجبة، وما يستهلّ به الدستور اللبناني بمقدّمته في الفقرة/و/، لناحية تكريس الحرّية الاقتصادية كأسلوب للنظام الاقتصادي الحرّ.
” النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة.”
2. هذا المشروع لم يكتف فقط بمخالفة أحكام قانونية مرعية الإجراء ومنها أحكام القانون العام أيّ قانون الموجبات والعقود، وأحكام قانون التجارة البرّية وقانون النقد والتسليف اللبناني، بل احتدى به الأمر إلى مخالفة مبادئ كرّسها الدستور اللبناني في مقدّمته، فهل أنّ السبب الذي أدّى إلى هذه المخالفة الجسيمة هو فعلاً مبرّر حتّى يسمح بانتهاك الدستور؟!
3. لنصل إلى القول إنّه حتّى لو راعى المشروع المذكور الفروقات الحياتية بين العملاء والمودعين، وحتّى لو اتخذّ شكل القانون، فإنّ ذلك لا ينفي أنّه هو بحدّ ذاته مخالف للقانون، وأنّه يكرّس في أحكامه ممارسات غير دستورية. وأنّ هذا العيب لا يزول بمجرّد القوننة، وهذا ما نوّه عنه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، في القرن الثامن عشر، في مؤلّفه “روح الشرائع” (1748L’Esprit des lois)، عندما كتب بالفرنسية:
” Une chose n’est pas juste parce qu’elle est loi […] mais elle doit être loi parce qu’elle est juste. ”
4. إنّ عمليات المصارف محكومة بقانون التجارة البرّية، سيّما المواد 307 وما يليها، الباب الخامس “في عمليات المصارف”، وهذا ما تؤكّده المادة 123 من قانون النقد والتلسيف اللبناني التي تنصّ على الآتي:
” تخضع الودائع لأحكام المادة 307 من قانون التجارة.”
5. وتنصّ المادة 307 تجارة على ما يلي:” إنّ المصرف الذي يتلقّى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدّة دفعات عند أوّل طلب من المودع أو بحسب شروط المهل أو الإعلان المسبق المعيّنة في العقد.”
6. وقبلها، تنصّ المادة 306 تجارة على ما حرفيته:
“ينتهي العقد في الوقت المعيّن بمقتضى الاتفاق وإن لم يتفق على الاجل ينهي العقد بحسب إرادة احد الفريقين وينتهي أيضاً بوفاة أحدهما أو بفقدانه الأهلية أو بإفلاسه.”
7. فإذا كان عقد الحساب الجاري غير المحدّد الأجل يمكن أن ينتهي بإرادة المودع/العميل، كيف يمكن للمصرف أن يمتنع عن إجابة مطلبه لعلّة أنّ الوديعة هي بالدولار، وأنّ إنهاء العقد لا يمكن واقعياً أن يتمّ إلاّ بتحويل الدولار إلى الليرة وعلى أساس سعر الصرف الرسمي، بحيث تكون الوديعة قد فقدت فعلياً قوّتها الشرائية بالنظر إلى سعر الصرف الواقعي المعتمد لدى الصرّافين وبأرقام تتفاوت بين صرّاف وآخر.
8. تبقى مصلحة المودعين ككتلة ائتمانية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية هي الأجدى بالحماية، وأنّ جميع القرارات التي تُتّخذ يجب أن تنصبّ في تحقيق مصلحة هؤلاء، في ما نجد أنّ مشروع القانون موضوع التعليق يصبّ في حماية المصارف، ما يعني أنّنا نتجه إلى حماية المصارف عوضاً عن الالتفات إلى الودائع وإلى حقوق المودعين.
9. علماً أنّ المادة 249 موجبات وعقود تنصّ على ما يلي:” يجب على قدر المستطاع أن توفّى الموجبات عيناً إذ إنّ للدائن حقّاً مكتسباً في استيفاء موضوع الموجب بالذات.”
10. بالإضافة إلى المادة /251/ موجبات وعقود التي تنصّ على الآتي: “فيحقّ للدائن حينئذٍ أن يطلب الحكم على المديون بغرامة عن كلّ يوم أو كلّ أسبوع أو كلّ شهر يتأخّر فيه أو كلّ نكول يرتكبه، رغبة في إكراه المديون المتمرّد وإخراجه من الجمود. وبعد تنفيذ الموجب عيناً يحقّ للمحكمة أن تعفي من الغرامة أو أنّ تبقي منها ما يعوّض الدائن من الضرر الذي لحقه بسبب الإمتناع غير المشروع الذي بدا من المديون”.
11. وأنّ أحكام القانون العام تكون واجبة التطبيق في كلّ ما لم يرد بشأنه نصّ خاص، وهذا ما تؤكّده المادة 314 تجارة:”إنّ العمليات المصرفية غير المذكورة في هذا الباب تخضع لأحكام قانون الموجبات المختصة بالعقود المختلفة الناجمة عن العمليات المذكورة أو العقود التي تنطوي تحت حكمها هذه العمليات”.
12. وبما أنّ أحد العقود الذي يربط بالعادة المصرف مع العميل هو عقد القرض، فإنّ أحكام المادة 759 موجبات وما يليها هي الواجبة التطبيق، سيّما ما تنصّ عنه المادة 763:” وإذا لم يعيّن أجل، كان المقترض ملزماً بالردّ عند أيّ طلب يأتيه من المقرض، وإذا اتفق الفريقان على أنّ المقترض لا يوفّي إلاّ عند تمكّنه من الإيفاء أو حين تتسنّى له الوسائل، فللمقترض عندئذٍ أن يطلب من القاضي تعيين موعد للإيفاء.”
13. أيّ أنّ الردّ هو موجب مترتّب على عاتق المصرف، عاجلاً أم آجلاً، وبناء على طلب يقدّمه المقرض أيّ العميل/المودع، على أن يردّ المصرف قيمة القرض الفعلية محسوبة بالتاريخ الذي يحصل فيه التسديد. وهذا ما يتعزّز من خلال المادة 301 موجبات:” عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد. وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجبارياً بعملة الورق، يظلّ المتعاقدون أحراراً في اشتراط الإيفاء نقوداً معدنية معيّنة أو عملة أجنبية.”
14. التوقّف عند الشقّ الأوّل من المادة المذكورة يفتح المجال أمام العديد من التأويلات ويكون عرضة للكثير من المغالطات. لكن، وانطلاقاً من مبدأ “انسجام المشترع مع نفسه، وعدم مناقضته مع ذاته”، فإنّ تفسير المادة قبل إعمالها، يتطلّب قراءتها حتّى النهاية. وأنّ المادة نفسها، بشقّها الثاني، تكرّس الحرّية التعاقدية، وبالتالي حرّية اشتراط أن يكون الإيفاء بعملة أجنبية، موردة حرفياً “يظلّ المتعاقدون أحراراً…”. أيّ أنّه، وبالرغم من الغاية التي يرمي إليها المشرّع من أجل الحفاظ على العملة الوطنية، وبالرغم من الصيغة الوجوبية التي أسبغها على الشقّ الأوّل من المادة”يجب”، إلاّ أنّه عاد وأباح الإتفاق على أن يتمّ الإيفاء بغير العملة الوطنية، مذعناً لحرّية تسمو على مجرّد “واجب” التداول بالعملة الوطنية، وهي “حرّية التداول بأيّة عملة” يرى المواطن أنّها تحقّق حاجته كإنسان مدرك لأبعاده الاقتصادية.
15. علماً أنّ القانون نفسه أنزل إرادة الفرقاء منزلة القانون في كلّ ما يتوافقون عليه، طالما أنّ إرادتهم هذه منسجمة مع الأحكام القانونية الإلزامية والأنظمة العامة، عملاً بأحكام المادتين /221/ و /166/ موجبات:
• المادة 221:” إنّ العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين…”
• المادة 166:”إنّ قانون العقود خاضع لمبدأ حرّية التعاقد، فالأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة إلزامية.”
16. وبالتالي، هذا يؤكّد أنّ ما كرّسه في الشقّ الأوّل من المادة لا يتصف بإلزامية صارمة، وإلاّ لما عاد وأجاز حرّية اختيار عملة الإيفاء. وهذا يفسّر أنّ الهدف من اشتراط الإيفاء بالعملة الأجنبية هو من أجل تمكين الأفراد من الحفاظ على القوّة الشرائية للعملة التي اختاروا أن يسدّدوا متوجّباتهم بها. وبالتفسير المعاكس، إذا كان لا بدّ من تسديد دين محدّد بالدولار بالعملة الوطنية، فإنّه يكون على أساس ما يوازي الدولار بصورة فعلية حقيقية، وهذا ما نقوم به حاضراً في مشاريع العقود التي نُدعى لتحضيرها حيث بتنا نحدّد في العقد بنداً أساسياً بأن يحتسب سعر صرف الدولار بناءً لثمن الصيارفة وليس بناءً للسعر الرسمي، إذ لا يخفى على أحد وجود سعرين للدولار، وأنّ مشروع القانون الجديد لم يجد حلاً لهذا الموضوع، فيبدو إذاً أنّه مرشّح للبقاء!!
17. إذاً، فإنّ أحكام القانون العام، أيّ قانون الموجبات والعقود، بالإضافة إلى المبادئ المنصوص عنها في قانون التجارة البرّية وقانون النقد والتسليف هي التي ترعى العلاقة التعاقدية بين المصرف والعميل، فكيف لمشروع قانون جديد أن يخالف القوانين المعمول بها منذ صدور القوانين الآنفة الذكر؟! كيف له أن ينتهك مبدأ التداول الحرّ الذي استهلّ به الدستور اللبناني مقدّمته؟! فإنّ المبدأ المعمول به في لبنان هو حرّية التداول بالعملات كافة، أكانت لبنانية أم جنبية، وذلك يبقى خيار لكلّ مودع ولكلّ عميل، في ضوء مصالحه واحتياجاته.
18. أسئلة لا شكّ أنّها مطروحة على الحكومة، وربّما السبب في إرجاء البتّ بالمشروع يكمن في أنّ بعض الوزراء أثاروا مناقضة التشريع الجديد المقترح لأحكام القوانين المعمول بها، الأمر الذي يفرض على الحكومة إرسال المشروع إلى هيئة التشريع وإلى مجلس شورى الدولة، من أجل نيل مشورتهما، لأنّ مشروعاً بهذه الأهمّية يجب أن يؤمّن له مواكبة قضائية أيضاً، لأنّ القضاء مدعو لاحقاً لتطبيق هذا المشروع إذا ما كان من تعسّف ضدّ أيّ من المعنيين به، المودع أو المصرف، فيقتضي التنبّه لهذا الأمر.
19. كنا قد أوردنا سابقاً أنّ المادة 2 من المشروع بفقرتها الأخيرة تستدعي الإلغاء كونها تستفزّ عصبية العدالة الإنسانية التي تأبى التعدّي على حرّية الآخر، فكيف بالحري بمشروع قانون يشرّع مبدأ “الحرّية لي وليست لك”؟! كيف يمكن أن يحلّل المرء على نفسه ما منعه على غيره؟!
20. إنّ أموال الدولة ومصرف لبنان مستثناة صراحة من أحكام مشروع القانون، في حين أنّ الدولة هي التي يقتضي بها أن تتحمّل التبعة، وأن تعوّض على المودعين والعملاء خسارتهم منذ إقرار القيود على العمليات المصرفية دون أيّ غطاء تشريعي، لأنّ السلطة تعلم أنّ هذا الغطاء، وإن جرى توفيره، إلاّ أنّه يبقى مشوباً بمخالفات قانونية جمّة!!
21. كما تعلم أيضاً، أنّ الفساد المستشري هو الذي ولّد الأزمة، وأنّ مرتكبي الفساد هم الذين ينبغي بهم النهوض بالاقتصاد الوطني من أموال هرّبوها إلى الخارج، ومن أموال جاء مشروع القانون يستثنيها من أحكامه “الاستثنائية”، على أساس أنّ أموال الدولة لطالما كانت توظّف لمصلحة المجتمع، فأين ثمار هذا التوظيف على فرض حصوله؟
22. أضف إلى ما تقدّم، فإنّ مشروع القانون لم يلحظ مصير الأموال التي حوّلت بعد 2019/10/17 إلى الخارج، ولم يحدّد أيّ آلية لإعادة تحصيلها.
23. كما أنّ الدولة لم تلحظ واقع السوق السوداء التي تهيمن بتسعيراتها وتتحكّم بمصيرنا. فالتجار اليوم، الذين يرتكزون في سبيل تسيير أعمالهم التجارية على الإستيراد، قد اضطرّوا إلى شراء الدولار من الصرّافين بسعر مرتفع لدفع مستحقاتهم، خاصة وأنّ المصارف لا تتيح لهم سحب العملة الأجنبية من حساباتهم إلاّ لسقف معيّن، وهو سقف غير كاف لتسيير أعمالهم وتسديد مستحقّاتهم، فخسروا الكثير من جرّاء هذه العملية الصرفية أيّ ما يقارب 40 % ، ما اضطرّهم إلى رفع أسعارهم، وقد أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً بخصوص ثمن سعر الدولار، إلاّ أنّ أحداً لم يلتزم به.
24. وحال التجّار حال باقي المواطنين الذين ما زالوا يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وهي لا قيمة “فعلية لها” إذا ما صُرفت من أجل إجراء بعض العمليات التبادلية، كشراء المواد الغذائية والسلع التي ارتفعت قيمتها متأثّرة بالسوق السوداء، حتّى بات سعر الصرف الرسمي المفروض من المصارف هو “الوهمي”، في حين أنّ سعر الصرف “الفعلي” المفروض من الصيارفة هو “الحقيقي”، وفق ما أفاد به الخبير الاقتصادي مروان اسكندر للمهارات نيوز، بتاريخ 2020/1/14، إنّ التسديد للمودعين يمكن أن يتمّ بالليرة اللبنانية مقابل الدولار، ولكن بسعر الصرف الحقيقي وليس بسعر الصرف الوهمي.” وهذا ما جاء بعكسه مشروع القانون المستوجب الردّ.
25. إنّ الخبراء الاقتصاديين أوضحوا أنّ المقصود بعبارة “أو ما يعادل العملة الأجنبية بالعملة الوطنية” هو المعادلة الفعلية الحقيقية، لا الوهمية، وأنّ سعر الصرف الرسمي، المعتمد لدى المصارف، بات وهمياً في ظلّ هذه التدابير الاستثنائية، بالإضافة إلى سوق الصيارفة المتروك على سجيته.
26. بعد مضي 5 أشهر، وعدّاد الأيّام ما يزال يعمل… وعت حكومتنا دورها في تطبيق المبدأ القائل:”إنّ الضرورات تبيح المحظورات”، فكان أن خرجت بمشروع قانون مليء بالتناقضات إذا ما التفتنا إلى الأحكام القانونية الوضعية المرعية.
27. لكنّ السؤال: هل أنّ الضرورة، التي من المفترض أن تبلغ درجة عالية من الخطورة كي تبيح المحظور، تحتاج إلى فترة زمنية تقارب نصف السنة لإدراك خطورتها، ومن ثمّ استدراك مخاطرها؟!
28. وإنّ الضرورة، التي “استباحت” قرارات غير قانونية وغير مقوننة، فاقمت الهوة الاقتصادية والفروقات الاجتماعية، هي نفسها الضرورة التي أدخلتنا في “الفراغ السياسي” لمدّة سنتين منذ زمن ليس ببعيد، منذ ثلاث سنوات، وهي مدّة مماثلة لتلك المتوقّع أن يستمرّ فيها نفاذ مشروع القانون الذي جاء يشرّع عملية تقييد حرّية المودعين والعملاء، بدلاً من أن يحلّ هذه الحرّية من قيود ليست بدستورية!! حتّى أنّ فترة الفراغ السياسي لم تشهد مثل هذا التدهور المالي الاقتصادي الذي نشهده اليوم!!
29. وحتّى لو برّر مشروع القانون إقراراته للتدابير الاستثنائية المقيّدة للعمليات المصرفية “مؤقّتاً”، إلاّ أنّ تبريره هذا يفتقد إلى الثقة والمصداقية، إذ إنّ هدفه تمكين القطاع المصرفي من الاحتفاظ بالكتلة الائتمانية، ومن تعزيز الليرة الوطنية، لن يحلّ المشكلة، طالما أنّ السياسة التنموية غائبة، والفكر التنموي الجماعي منقرض!
30. فضلاً عن أنّ التمسك بذريعة الظروف الاستثنائية القاهرة من أجل تشريع القيود على الممارسات المصرفية، وهي بالواقع قيود غير قانونية، لن يجد نفعاً، لأنّ ظروف القوّة القاهرة غير متوفّرة الشروط، سيّما لناحية شرط “استحالة التوقّع”، إذ إنّ التقلّبات الاقتصادية التي نشهدها كانت متوقّعة من الخبراء الماليين، وكان بالإمكان تفاديها من خلال التعاون بين المصارف ومصرف لبنان في سبيل اتخاذ الاحتياطات الواجبة من أجل تحصين القطاع المصرفي، واجتناب أيّ خلل قد يؤثّر سلباً على الحافظة الائتمانية للمصارف.
31. وكيف لنا أن نتوقّع من السلطة السياسية أن تبلور سياسة تنموية، في وقت أنّها تعبير صادق عن تحالف مقدّس بين راس المال والاقطاع؟ فهي ما زالت تمارس حتّى اليوم، إقطاعية إقتصادية، مجمّعة الثروات من أين ما تشاء، وموزّعة إيّاها كيفما تشاء!!
32. الأزمة موجودة، والحلّ المقرّر في مشروع القانون، إذا كان لا بدّ من تصويره على أنّه هو “المسعف” في سبيل التخفيف من وطأة هذه الأزمة، فإنّ هذا الإسعاف يقتضي ألّا يجاوز الستّة أشهر، إذ إنّ مدّة الثلاث سنوات المقدّرة في المشروع هي طويلة نسبياً، ولا ثقة بما أورده المشروع في مادته الأخيرة الثالثة عشرة عن إمكانية تقصير مدّة نفاذ القانون في حال تحسّنت أم زالت الظروف الاستثنائية الموجبة له، لأنّ سياسة “المحاسبة” وسياسة “المساءلة”، ولأنّ ثقافة “الشفافية” هي معدومة في لبنان!! فنحن لم نُزوّد يوماً بتقارير تطلعنا على كيفية تصريف أموالنا، ولن نعلم يوماً حقيقة أسباب الأزمة، وكيفية تطوّرها، وتأثيراتها الداخلية والخارجية… حتّى بتنا نتكلّم اليوم عن تواطؤ بين المصارف والصرّافين وحاكم مصرف لبنان، حتّى كثرت أصابع الإتهام، وانفقدت الثقة، وانضربت الركيزة الأساسية للنظام الاقتصادي الذي نتغنّى به، النظام الليبرالي الحرّ!
33. الانتقادات التي طالت القيود والضوابط المحدّة للعمليات والخدمات المصرفية هي انتقادات وجيهة ومنطقية وقانونية، وإنّ الغطاء الشرعي الذي يصبو إليه مشروع القانون المذكور، الذي جاء يكرّس ممارسات مصرفية كانت تطبّق مدّة من الزمن بصورة غير قانونية لناحية الشكل ولناحية المضمون، أضفى عليها نوعاً من الشرعية إذ كيّفها مع الظروف الشخصية والحياتية لكلّ مودع ولكلّ عميل، وهذا ما كان ينبغي احتسابه منذ البدء، هذا إنْ كان لا بدّ من إقرار مثل هكذا قيود.
34. فحتّى لو راعى المشروع المذكور الفروقات الحياتية بين العملاء والمودعين، وحتّى لو اتخذ شكل القانون، فإنّ ذلك لا ينفي أنّه هو بحدّ ذاته مخالف للقانون، وأنّه يكرّس في أحكامه ممارسات غير قانونية، وأنّ هذا العيب لا يزول بمجرّد القوننة.
35. إذاً، إنّ مشروع القانون موضوع التعليق هو مشروع ناقص، لأنّه لم يعط الجواب على كافة التساؤلات، ولم يعالج كافة الانتهاكات، في حين أنّ الدورة الاقتصادية تتألّف من عدّة حلقات لا يمكن تسوية إحداها دون معالجة الأخرى! وإنّ أغلب التساؤلات يدور حول الوقت المطلوب من أجل قمع السوق السوداء، ووضع ضوابط قانونية، بالشكل وبالمضمون، لتسعير صرف الدولار مقابل الليرة الوطنية، إذ إنّ التدابير الاستثنائية المفروضة مؤقّتاً، ولثلاث سنوات، تضع العملاء والمودعين والتجّار وأصحاب المهن أمام واقع السوق السوداء ممّا ينعكس سلباً على القوّة الشرائية للعملة الوطنية، وعلى سعر المواد الاستهلاكية المستوردة والسلع التكنولوجية وغيرها.
36. وبما أنّ كلّ القرارات المالية والاقتصادية هي مترابطة ومتلازمة، وتشكّل حلقة واحدة، فلا بدّ من ضبط عمل الصيارفة والتشدّد في إقفال مكاتب الصيرفة غير المرخّصة من مصرف لبنان عملاً بأحكام قانون تنظيم عمل الصيارفة، كي يؤتي مشروع القانون هدفه في تحقيق الاستقرار المنشود، والحفاظ على حقوق وأموال المودعين، إذ إنّ العبرة ليست للوديعة بحدّ ذاتها، بل لقيمتها الشرائية الفعلية، وإلاّ فسوف نبقى في إطار السوقين والسعرين، ولا نكون قد أدّينا الغاية من مشروع القانون الذي سوف يبقى مجرّد “غطاء تشريعي” يستّر على عمليات المصارف غير القانونية وغير المقوننة بحقّ!
37. ولا يمكن أن نطوي كشحاً عن واقع إساءة توظيف المصارف لأموال المودعين، بحيث إنّها استخدمت نسبة لا يستهان بها من ودائع العملاء، وقامت بتوظيفها لدى مصرف لبنان بفوائد مرتفعة، وقام هذا الأخير بإقراض الدولة التي نجهل كيف قامت بصرف هذه الأموال، وعن مدى توظيفها واستثمارها في ضوء أهداف ومصالح عامة يقتضي أن تكون هي محور جميع القرارات السياسية/الاقتصادية، بما أنّ السياسة هي علم يُعنى بفنّ إدارة شؤون الدولة، والدولة هي “حكم الشعب، من الشعب، للشعب”، وهذا قول ورد على لسان الرئيس الأميركي السادس عشر إبراهام لينكون.
38. فأين القرارات المتخذة لصالح هذا الشعب، مصدر السلطات؟! وأين الكهرباء 24/24 ساعة، والمياه، والضمان الاجتماعي، وضمان الشيخوخة من كلّ هذا؟! أسئلة لا ولن ننفكّ نطرحها كلّ يوم ومنذ سنوات إلى حين أن تلقى جواباً.
39. بانتظار الجواب الذي قد يدوم إلى ما شاء الله، لن تتغيّر طبيعة نظامنا الذي لا يكفيه أنّه لا يضمن للفرد الكفاف الاقتصادي، حتّى جاء يقيّد حرّيته بالتصرّف بأمواله وجنى عمره.
40. أخيراً وليس آخراً، إنّ هذا المشروع هو صارخ بعدم قانونيته، فاضح بعدم دستوريته، الأمر الذي قد يعرّضه، في حال جرى إقراره، إلى الطعن أمام المجلس الدستوري، والمعارضة النيابية ستقوم بذلك، علماً أنّ رئيس السلطة التشريعية أبدى تحفّظات تجاهه، وقد لا يصل المشروع إلى مجلس النوّاب.
41. من هنا، إذا كان من ناحية إيجابية في إقراره، في حال لم تعدّل بنوده، فإنّها تكمن في إمكانية الطعن به أمام القضاء المختص، لأنّ عدم التشريع يعني الإستمرار في الممارسات التعسفية إلى حدّ يخرج عن دائرة التحكّم، والمغالاة في استغلال المواطن. أمّا القوننة فهي على الأقلّ ورقة ضدّ من أقرّها، إثبات علني على عدم شرعية الضوابط المصرفية غير المضبوطة، ممّا قد يتيح للقضاء الدستوري مناقشة هذه الأزمة وتسويتها وفق ما تقتضيه العدالة الدستورية!
42. ما من كلام يصف المشروع المذكور أدقّ من ذلك الذي تكلّم عنه د. ملحم قربان، قضايا الفكر السياسي، القوّة، مجد، ط 1، 1983، ص 5، حيث قال:
“فمثلك ههنا هو مثل الغارق في الرمال المتحرّكة، كلّ خطوة تخطوها بقصد الخروج منها، تزيد في إغراقك فيها أكثر وأكثر.”
القسم الخامس- لعدم لحظ مشروع القانون أيّ حلّ بخصوص سعر الدولار الذي يتفاوت سعره بين المصرف من جهة والصرّافين من جهة أخرى، ولعدم تضمينه أيّة عقوبات تطال المخالفين الذي يتاجرون بالدولار الأميركي حيث يمتهن البعض في هذه الأيّام هذا العمل:
1. إنّنا لم نجد في مشروع القانون أيّ حلّ لمسألة سعري الدولار، السعر الرسمي والسعر المعتمد فعلياً لدى الصرّافين.
2. إنّه لتساؤل بديهي أن نستغرب احتواء الصرّافين على كمّيات كبيرة من الدولار الأميركي التي يتاجرون بها على أساس تسعيرات خيالية لصرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، دون أن تتحسّس الجهات المختصة من هذا الوضع إلاّ بصورة متأخّرة، وبتصنّع مفضوح ودون أن يلحظ مشروع القانون أيّ إشارة إلى سعري الدولار!
3. فبتاريخ 2020/1/23، اتّخذت نقابة الصرّافين بالتوافق مع حاكم مصرف لبنان، خطوة سعّرت بموجبها شراء الدولار الأميركي بألفي ليرة لبنانية كحدّ أقصى، وطلبت التقيّد بهذه التسعيرة من قبل الصرّافين المرخّصين، تحت طائلة إنزال العقوبات الإدارية والقانونية بالمخالفين من قبل السلطات المعنية.
4. لم يتطرّق مشروع القانون إلى سعري الدولار، فبدل أن نجد وسيلة من أجل توحيد السعر، سوف يبقى الوضع على ما هو عليه في ما لو أقرّ مشروع القانون.
5. كما لم يتطرّق مشروع القانون إلى التشدّد في منع العمل بمهنة الصيرفة لغير الصرّافين، كما تعديل أحكام المواد التي تدين الصرّافين غير المرخّصين لتصبح جناية طالما هؤلاء يقومون دون وجه حقّ باللعب بالسوق كما يشاؤون ويقومون بعدّة مخالفات لأحكام القانون.
القسم السادس- خلاصة الموضوع:
1. إنطلاقاً ممّا تقدّم، يقتضي على الدولة، لتقويم الوضع الاقتصادي الذي يعاني من اعوجاج، أوّلاً في تنفيذ خطّة الانقاذ، وهي حتّى اليوم لم تقم بشيء من أجل إنجازها باستثناء إعلانها عن عدم رغبتها بتسديد التزاماتها بموضوع الـ Euro Bonds .
2. إنّ أيّ تشريع يقيّد حقّ المودع هو استثنائي، وبالتالي هو مؤقّت، ومرهون بتحسّن الظروف الاقتصادية، ويجب أن لا يتعدّى الستّة أشهر، في حين أنّ هذا التقييد قد فُرض على العملاء أكثر منذ خمسة أشهر، وطبّقته المصارف دون وجود لأيّ قانون يسمح لها بذلك!!
3. وفي أيّ حال، يجب حفظ الودائع، وطمأنة المودعين الذين يُحمّلون وزر أخطاء السياسيين، في حين أنّ لا ناقة لهم في عمل هؤلاء، ورغم ذلك فهم مرغمون بأن يساهموا من أموالهم، التي فقدت فعلياً قوّتها الشرائية، في تغطية ما يعاني منه النظام الاقتصادي من عجز وإعسار، في وقت أنّ القوانين المرعية الإجراء أرست مبدأ العقاب والمساءلة على ميناء “شخصية المسؤولية” و”فردية العقاب”، أيّ على مبدأ “المسؤولية الشخصية”، إذ لا يعقل أن يسأل المرء عن أخطاء غيره!
4. وكان من الأجدى، بدلاً من أن تقوم الحكومة بفرض قيود وضوابط على المودعين والعملاء، من أجل قوننة قرارات جمعية المصارف غير القانونية، لا بل غير الدستورية، أن تبدأ من نفسها، وأن تتحمّل تداعيات النظام الاقتصادي.
بناءً لكلّ ما تقدّم، أتذكّر على الدوام ما كان جدّي رحمه الله يكرّر أمامي، بأنّهم عاشوا حرب العام 1914 في زمن الجوع والمرض، وبعد انتهاء الحرب، ناضلوا من أجل إنشاء لبنان الكبير، وصنعوا الاستقلال، وإنّنا مدعوون إلى متابعة رسالة لبنان السامية، مع الأمل بأن يزول الوباء ونرتقي ببلدنا إلى أعلى المستويات.
“محكمة” – الإثنين في 2020/3/30
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.