العدالة الرقمية في لبنان خيار لا مفرّ منه/ميرنا طه
ميرنا زين طه:
يخرج العالم بحذر من الحجر الصحّي بسبب وباء “كورونا”، مدركاً أنّ ما بعد “كورونا” ليس كما قبله حتماً. حيث شهد وسيشهد تغيّراً جذرياً رقمياً عبر ثورة معلوماتية جديدة مثلما نشأت الثورة المعلوماتية فى السابق عن طفرة الاتصالات، وطفرة تقنية المعلومات، إلى أن أصبحت وسائل الاتصال الحديثة كشبكة الإنترنت من الوسائل التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وقد تولّد عن ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات العديد من التطبيقات التي أثرّت تأثيراً كبيراً في أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي والقانوني كان من أهمّها ظهور التجارة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني والعدالة الإلكترونية، حيث يعتبر التقاضي عن بُعْد من أهمّ تطبيقات التطوّر العلمي والتقني في مجال العدالة.
هذا الواقع يحثّنا على البحث في مفهوم العدالة الرقمية والتقاضي عن بُعْد والذي أصبح خياراً إجبارياً لا بدّ منه خاصة بعد تجربة العالم مع وباء “كورونا” وتطوّر الذكاء الاصطناعي وتأثيرهما على مهنة المحاماة والإجراءات القضائية.
العدالة الرقمية:”مفهوم التقاضي عن بُعْد ومتطلّباته”
يُقصد بالعدالة الإلكترونية استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في تحقيق الولوج المستنير لمرفق العدالة وتسهيل التواصل بين مختلف الفاعلين في ميدان القانون والقضاء(المحامون، القضاة، كتّاب العدل)، وتتمثّل الفوائد الرئيسية لنظام العدالة الرقمية في زيادة كفاءة النظام القضائي، والحدّ من التكاليف وتقليص أمد الخصومات القضائية، وتبسيط الإجراءات القانونية، والزيادة في إنتاجية المحاكم، والتقليل والحدّ من فرص الفساد والرشوة، كما أنّ قيام المحكمة الافتراضية بعقد جلساتها عبر مؤتمرات الفيديو يقرّب العدالة من المواطنين خصوصاً القاطنين في المناطق النائية، ويذلّل الصعوبات المتعلّقة بالاختصاص المكاني إذ إنّه في مجال العدالة الرقمية يعفى المتقاضون من الانتقال إلى المحاكم، الأمر الذي يحدّ بدوره من مشكلة اكتظاظ المحاكم.
يرتبط مفهوم التقاضي عن بُعْد إرتباطاً وثيقاً بمفهوم المحكمة الالكترونية حيث ظهرت هذه المصطلحات مع ظهور وسائل التطوّر التكنولوجي، وبالأخصّ الانترنت. وقد عرف جانب من الفقه المحكمة الالكترونية أو المحكمة المعلوماتية بأنّها حیّز تقني معلوماتي ثنائي الوجود يسمح ببرمجة الدعوى إلكترونياً، ويتألّف من شبكة الرابط الدولية (الانترنت)، إضافة إلى مبنى المحكمة حيث يتيح الظهور المكاني الإلكتروني لوحدات قضائية وإدارية يباشر من خلاله مجموعة من القضاة مهمّة النظر في الدعاوى والفصل فيها بموجب تشريعات تخوّلهم مباشرة الاجراءات القضائية مع اعتماد آليات تقنية فائقة الحداثة لتدوين الإجراءات القضائية وحفظ وتداول الملفّات.
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الفكرة لا يمكن أن تبصر النور ما لم يتدخّل المشرع بنصوص قانونية ملزمة تمنح القضاة سلطة النظر بالدعاوى وإصدار الأحكام القضائية بناء على إجراءات التقاضي الالكترونية، كون التقاضي الالكتروني يتطلّب إنشاء وتصميم وبرمجة نظام قضائي معلوماتي يشمل مواقع الكترونية تقدّم خدمات إدارية وقضائية بالإضافة لقاعات محاكمة مجهّزة بخطوط الاتصال والحواسب والبرامج التى تمكّن القضاة من النظر بالدعاوى وإعلام الخصوم بأحكامهم القضائية.
ولغرض الإحاطة الكاملة بمفهوم التقاضي عن بُعْد لا بدّ من التطرّق إلى متطلّبات هذا النظام والمتمثّلة:
أ-المتطلّبات الفنّية: الحاسب الآلي، شبكات الأجهزة والمعدّات الحاسوبية، شبكة الانترنت، أنظمة وبرامج الحاسوب الإلكترونية لإنشاء المعلومات، قواعد البيانات والمعلومات التي ترتبط ببعضها عبر رابطة معيّنة، الإمكانيات البشرية المتمثّلة بالفنّيين المختصين بالمجال الإلكتروني أو المعلوماتي، علاوة على ذلك يجب على القضاة والمحامين والموظّفين في قصور العدل وكتّاب العدل الخضوع لدورات مكثّفة في علوم الحاسوب وبرامج المعلومات وتجهيز مكاتبهم بأحدث الأجهزة والمعدّات الالكترونية التي ستمكّنهم من تسجيل الدعوى إلكترونياً ومتابعة سيرها والنظر فيها.
ب- المتطلّبات التقنية: وهو ما يقصد به الحماية التقنية، أيّ الضمانات التي يمكن الرجوع إليها في مواجهة الخروقات التي قد تطال آلية عمل المحكمة (عبر قراصنة المعلومات) على اعتبار أنّ المحكمة تعمل عبر حسابات مرتبطة ببعضها عن طريق شبكات داخلية وترتبط هذه الشبكات بالشبكة العنكبوتية عن طريق وسائل الاتصال الحديثة. ومن خلال هذه الشبكات يجرى تداول بيانات المحكمة ومعلوماتها سنداً لخطورة هذه المعلومات وخصوصيتها وسرّية بعضها.
ولعلّ السؤال الذي يطرح ذاته هنا: ما هي الضمانات الأمنية التي تحقّق الثقة والفعالية في نظام المحكمة الإلكترونية وتشجّع المتقاضين للتعامل معها دون خوف أو تردّد؟
للإجابة على هذا التساؤل، لا بدّ من ذكر أهمّ مظاهر الحماية التقنية ألا وهي تشفير بيانات المحكمة الإلكترونية ومعلوماتها المتداولة عبر شبكة الإنترنت وتأمين سرّية البيانات عبر توفير الحماية لمحتوى الدعوى ومعلوماتها ضدّ محاولات التعديل أو التزوير خلال مراحل تبادل اللوائح أو الوثائق إلكترونياً وغيرها من الإجراءات.
تطبيقات التقاضي عن بُعْد في بعض الأنظمة القضائية:
يواجه تطبيق العدالة الرقمية على أرض الواقع صعوبات وتحدّيات كثيرة تختلف من بلد إلى آخر، إذ إنّ هناك دولاً قطعت أشواطاً في تطبيق العدالة الرقمية، وبعضها الآخر ما زال متأخّراً عن الرَكْب، وذلك كلّه يعود إلى عوامل بنيوية مختلفة.
التجارب العالمية: لقد ظهرت الصورة الأوّلية للتقاضي الالكتروني في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بتسوية منازعات التجارة الالكترونية عن طريق استخدام شبكة الانترنت وبرنامج القاضي الافتراضي، وهي فكرة أمريكية تمّ إرساء دعائمها عام 1999 من قبل أساتذة مركز القانون وأمن المعلومات. وقد تطوّرت الوسائل والآليات بمرور الزمن وانتقلت من الولايات المتحدة إلى بعض دول العالم الأجنبية.
أوّلاً:الولايات المتحدة الأميركية:
ترفع الدعوی إلكترونياً في أميركا عبر موقع إلكترونی خاص تملکه شركة خاصة يقع مركزها الرئيسي في كاليفورنيا، ويقدّم الموقع العديد من الخدمات الإلكترونیة حيث يسمح للمحامين والمتقاضين تقديم مستنداتهم القانونية بطريقة إلكترونية وفق منظومة متكاملة، كما أنّه يساهم بتقليل كلفة رسوم التقاضي المبالغ فيها والتخلّص من الكمّيات الهائلة من الأوراق والمستندات المرتبطة بالدعوى والتي تمتلئ بها قاعات وغرف المحكمة، ويسمح للمحاكم بأداء وظيفتها بطريقة أکثر فاعلية، كما يوفّر إمكانية استلام المستندات في أيّ وقت يومياً حتّى في الإجازات والعطل الرسمية طوال أربع وعشرين ساعة ومن أيّ مكان عبر شبكة الانترنت.
ثانياً:الصين:
أنشأت الصين وتحديداً فى مدينة زيبوا محكمة إلكترونية تعتمد على برنامج حاسوبي متطوّر يقوم بحفظ القوانين والأنظمة النافذة كافة، بالإضافة إلى حفظ السوابق القضائية، وتبدأ الدعوى أمام المحكمة الالكترونية بإعداد كلّ من الدفاع والادعاء لمعطياتهما ومطالبهما على قرصين مدمجين يملكان السعة ذاتها ثمّ تدخل بيانات هذين القرصين إلى البرنامج الحاسوبي لغرض الاحتكام للقاضي الالكتروني الذي يمكنه أن يطلب رأي القاضي البشري بخصوص بعض التفاصيل الخاصة أو تلك المتعلّقة بالنواحي الإنسانية قبل أن يقوم بإصدار الحكم والعقوبات المفروضة.
وهنا لا بدّ من التذكير بنموذج يحتذى به هو شبكة المحامين الخاصة الافتراضية في فرنسا، وهي عبارة عن شبكة للحاسوب آمنة تتيح تبادل الإجراءات المدنية والجنائية بين المحامين والمحاكم، ويتمّ تأمين المعلومات عبر مفتاح سرّي يحصل عليه المحامي المشترك في الخدمة، وكذا يتمّ ضمان موثوقية هذه التعاملات عبر التوقيع الإلكتروني المؤمّن وشهادات المصادقة الإلكترونية.
ثالثاً: الإمارات المتحدة العربية:
ما زالت الدول العربية في بداية الطريق مع التقاضي الإلكتروني وإن كان معظمها قد خطا خطوات بطيئة ومتعثّرة في هذا المجال، بسبب الخوف من عواقب هذه التقنيات الحديثة، أو عدم قبول أعضاء السلطة القضائية بفعالية هذه الخدمات، أو قلّة الكفاءات الملمّة ببرامج الحاسوب الآلي في الأجهزة القضائية لتلك الدول، ولكن لا بدّ من ذكر التجارب الناجحة لليوم في العالم العربي وأهمّها في الإمارات العربية المتحدة.
وقد أطلقت وزارة العدل في دولة الإمارات العربية المتحدة خدمة التقاضي عن بُعْد منذ سنة 2019 بموجب قرار صادر عن وزير العدل بحيث يطبّق على المحاكم الاتحادية.
أمّا بخصوص القضاء المحلي في أبو ظبي ودبي، فقد اطلقت محاكم دبي وأيضاً دائرة القضاء في أبو ظبي من خلال موقعها الإلكتروني، النظام الإلكتروني بشكاوى المتقاضين وإجراءات التقاضي، وهذا النظام عبارة عن موقع على الانترنت يستطيع من خلاله المستخدمون الحصول على المعلومات المتوافرة باستمرار عن الدعاوى المعروضة على المحاكم في دبي. كما يستطيع المحامون والمواطنون تقديم الطلبات المختلفة المتعلّقة بالدعاوى حيث يستطيع المحامي قيد لوائح الدعوى مباشرة من مكتبه، ومن ثمّ القسم المسؤول عن تسجيل الدعاوى ودفع الرسوم عن طريق وسائل الدفع الإلكترونية (بطاقة الائتمان)، كما أنّه بإمكان الخصوم متابعة الدعاوى الخاصة بهم ومعرفة وقائع الجلسات بعد الانتهاء منها.
ومؤخّراً، وبسبب تفشّي وباء “كورونا”، وتعذّر الحضور إلى المحاكم، تمّ تفعيل الجلسات عن بُعْد في المحاكم الإتحادية والمحلّية بحيث يصل إلى المتقاضين (رابط ) link عبر الرسالة النصيّة أو البريد الإلكتروني لحضور الجلسة الخاصة به، مرفق برمز الدخول، وبمجرّد النقر عليه يجد الخصوم انفسهم في جلسة داخل دائرة مغلقة CCTV يحدّد كلّ طرف طلباته ويرفق لوائحه ومذكّراته إنْ وجدت.
أمّا في لبنان، وعلى عُجالة غير مدروسة وتحت ظروف تفشّي وباء “كورونا” في أصقاع العالم الأربعة، وحفاظاً على السلامة العامة، صدرت جملة توجيهات وتعاميم بدءاً من وزيرة العدل ماري كلود نجم، مروراً بمجلس القضاء الأعلى، وصولاً إلى النيابة العامة التمييزية، تتضمّن قرارات بمباشرة التحقيقات في ملفّات القضاء الجزائي “عن بُعْد”، أو ما بات يعرف بالتحقيق عن بُعْد.
وإنْ كانت هذه الخطوة غير مدروسة بشكل وافٍ للإحاطة بسلبياتها وإيجابياتها على حدٍّ سواء، فإنّ المباشرة بتطبيقها يسلّط الضوء أكثر على الثغرات الموجودة في نظامنا القضائي وحاجته لمواكبة تلك التحوّلات، ولا سيّما المتصلة منها بالمستجدات والتطوّرات في مجالات التقاضي عن بُعْد.
وإزاء هذا التحوّل الكبير في طبيعة القضايا المعروضة اليوم على المحاكم وتنوّعها، إضافة إلى التطوّر السريع للتكنولوجيا، يجعل العبء الأكبر في المواجهة يقع على عاتق العاملين في مجال القضاء لتعبئة الطاقات والوسائل من أجل تطويع ذلك مع القواعد القانونية الملائمة والنصوص التشريعية المساندة لهذا التطوّر والإنتقال إلى الرقمنة الشاملة.
ويمكن الجزم بأنّ العدالة الرقمية أضحت مطلباً ملحّاً وضرورة حتمية لتطوير نظام التقاضي وتحسين جودة خدماته وتسهيل الوصول إلى المعلومة القضائية بمتابعة مسار ومآل القضايا من المتقاضين والمحامين بصفة مباشرة.
الخاتمة والمقترحات
لذا، لا بدّ من أن نسطّر ما تمخضّ عن هذه الدراسة من اقتراحات قد تساعد المشرّع اللبناني في تطوير تشريعاته للإلتحاق بركْب تطوّر العدالة الإلكترونية:
1- تطوير النظام المعلوماتي لقاعدة بيانات السلطة القضائية طبقاً لأحدث نظم البرمجة المعتمدة دولياً.
2- إنشاء مواقع إلكترونية لوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين والمحاكم بكافة أنواعها ودرجاتها.
3- بذل المجهود لإدخال تطبيقات التقاضي الإلكتروني إلى النظام القضائي اللبناني، ونعتقد أنّ في مقدّمة تلك الجهود القيام بإصلاح تشريعي كامل لكلّ من قانوني أصول المحاكمات المدنية والجزائية وتنظيم مهنة المحاماة والقضاء بما يتوافق مع التطوّر الحاصل.
4- دعم القدرات المؤسّستية لوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى والمحاكم عن طريق تدريب العاملين وتحديث نظم العمل في المحاكم وذلك بإدخال أنظمة إدارة الدعوى الإلكترونية وتدريب العاملين على استعمالها مع تشديد الرقابة عن طريق الإشراف القضائي.
5- زيادة الوعي القانوني والقضائي لدى العامة والطبقات الفقيرة عامة والأميين منهم خاصة عن طريق عمل ورش العمل والدورات التثقيفية لهم وتوزيع المطبوعات بلغة سهلة الفهم تناسب طبقات المجتمع كافة.
6- تطویر نظم التعليم القضائي عن طريق العمل مع معهد القضاة وكلّيات الحقوق ونقابة المحامين على تحديث المناهج الدراسية وتعميمها.
إنّ تطبيق التقاضي الإلكتروني في النظام القضائي اللبناني يتطلّب تخطيطاً استراتيجياً وتوافر الإمكانيات البشرية والمادية والدعم الفنّي المطلوب من الجهات المختلفة والتنسيق بين الجهات القضائية المختلفة مع العاملين بالسلطة القضائية من قضاة ومحامين وكتّاب العدل للوصول إلى التقاضي عن بُعْد، أو ما يعرف بالمحاكم الإلكترونية المترابطة وتحقيق التكامل المعلوماتي وصولاً لتحقيق العدالة التي هي مطلب الجميع.
المراجع:
أوّلاً:المواقع الإلكترونية:
1- مجلّة “محكمة” القضائية الشاملة (www.mahkama.net).
2- دائرة القضاء: www.adjd.gov.ae/AR/Pages/EServiceDirectory.aspx
3- موقع محاكم دبي: www.dc.gov.ae/PublicServices
ثانياً:الأبحاث:
1- تسخير الرقمنة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030: المجلّة العراقية؛ العدد ١١؛ السنة ٢٠١٩.
2- رقمنة القضايا وإدارة المحاكم “المؤتمر التاسع لرؤساء المحاكم في الدول العربية – ديسمبر/كانون الأوّل ٢٠١٨”
3- “المحكمة الإلكترونية” – صفاء أوتاني- مجلّة دمشق للعلوم الإقتصادية و القانونية- المجلّد 28 – العدد الأوّل ٢٠١٢.
4- التقاضي عن بُعْد – د. هادي حسين عبد علي الكعبي – مجلّة المحقّق الحلّي للعلوم القانونية والسياسية – العدد الأوّل السنة ٢٠١٦.
“محكمة” – الجمعة في 2020/5/15
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.