النزوح السوري يخنق المحاكم اللبنانية ويرهق القضاء..”جنايات بيروت” مثالاً/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لم تشهد المحاكم الجزائية العادية اللبنانية كثافة في الدعاوى والملفّات، مثلما حدث معها منذ بدء الأزمة السورية النارية في الخامس عشر من شهر آذار من العام 2011، ذلك أنّها انعكست تدريجياً بطريقة سلبية على المجتمع اللبناني برمّته، وأضرّت به من مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والبيئية، ورفعت نسبة الجرائم بطريقة مهوّلة حتّى اختنقت المحاكم من كثرتها، وباتت هيئاتها القضائية غير قادرة على التوفيق بين انهمارها اليومي الغزير وبشكل لافت للنظر، وبين البتّ فيها رغم استخدامها لكلّ سرعتها اللازمة وطاقتها الجسدية والفكرية والذهنية والموزّعة على عقد الاستجوابات التمهيدية، وجلسات المحاكمة، وإصدار الأحكام المناسبة.
تدفّق هائل للملفّات
ولم تعد آثار الحرب السورية تقتصر على الحياة اليومية في لبنان، وعمليات البيع والشراء التجارية، والمضاربات والمزاحمات والمنافسات غير المشروعة، والتهديد الأمني المتفاقم كلّ حين، نتيجة اشتداد المعارك في المناطق السورية المتاخمة للحدود اللبنانية واللصيقة بها، وبقاء لبنان فسحة أمل لفلول الهاربين من المسلّحين نتيجة وجود بيئة حاضنة في بعض المناطق وخصوصاً في الشمال وبلدة عرسال البقاعية، بل طاولت المحاكم اللبنانية التي صارت تعاني تدفّقاً هائلاً للملفّات بمختلف الجرائم الصغيرة والكبيرة، وبمقاسات متنوّعة، وسجّل زيادة نسبة الجرائم وبمعدّلات مرتفعة لم تصل إليها يوماً، وخصوصاً في عزّ الحرب اللبنانية.
ومن يطرق باب محكمة الجنايات في بيروت في الطبقة الثانية من قصر عدل بيروت، على سبيل المثال لا الحصر، وهي موزّعة على غرفتين استئنافيتين أساسيتين، وغرفة ثانوية واستثنائية واحدة، يلمس بدقّة متناهية، كثرة الدعاوى ونوعيتها، إذ أنّه قلّما يمرّ يوم من دون أن يصل ملفّ جديد إلى إحدى غرف محكمة الجنايات محمّلاً بموقوفين، أو فارين من وجه العدالة، أو مخلى سبيلهم، وأغلبيتهم من الجنسية السورية، ويكونون محالين عليها بتلاوين من جرائم القتل، أو المخدّرات، أو السرقة، أو السلب، أو الإتجار بالبشر وتحديداً الدعارة، والهدف الوحيد هو جني المال بسرعة قياسية من أجل تأمين لقمة العيش عبر إراقة الدماء، أو هدر الكرامات وطعن الإنسانية.
مائة ملفّ
ففي السنوات السابقة للحرب السورية المستمرّة من دون أفق للحلّ، كان عدد الملفّات المدوّنة في محكمة الجنايات الوحيدة في بيروت، يصل إلى مئة ملفّ بشقّ النفْس، وتعمل الهيئة القضائية الحاكمة على الفصل فيها قدر استطاعتها، ونادراً جدّاً ما تكون جنسية المتهمّين سورية.
وبمعنى آخر كانت المحكمة قادرة على إيجاد توازن مريح لها بين ما يردها من ملفّات جديدة، وما تُصدره من أحكام في ملفّات تُنْهيها، علماً أنّ توزيع الأعمال بين غرف محاكم الاستئناف في بيروت بعد مرسوم التشكيلات القضائية الصادرة في العام 2004، لم يكن عادلاً على الإطلاق، إذ أنّه ومن دون سبب مقنع، خُفّض عدد محاكم الجنايات من ثلاث غرف كانت كلّ واحدة في فترة مختلفة، برئاسة القضاة سهيل عبد الصمد، والراحل جورج غنطوس، ولبيب زوين، إلى محكمة واحدة برئاسة القاضي ميشال أبو عرّاج، ممّا أدّى إلى عجز واضح، واختلال في ميزان العمل القضائي لدى محكمة الجنايات، فلم يعد باستطاعتها التوفيق بين ما يردها من ملفّات، وما تصدره من أحكام.
ثمّ كان الاستدراك في جدول توزع الأعمال بعد التشكيلات القضائية الصادرة في العام 2009، إذ أضيفت غرفة ثانية لمحكمة الجنايات من أجل خفض العجز المتراكم والذي لا يصبّ في مصلحة العدالة الحقّة على الإطلاق.
1498 ملفّاً
ووصل عدد الملفّات المسجّلة لغاية نهاية شهر شباط من العام 2016، لدى غرفة الجنايات التي تضمّ القاضية هيلانة اسكندر رئيساً وعماد سعيد وهاني عبد المنعم الحجّار مستشارين، إلى 773 ملفّاً هو مجموع تراكمات من القضايا بعضها قديم وبعضها الآخر طازج وجديد، واستطاعت هذه المحكمة أن تُصدر 32 حكماً في الشهر المذكور، وهي نسبة جيّدة، من دون أن ننسى الأعمال الأخرى التي تستغرق أوقاتاً ثمينة، والمخصّصة لدراسة الملفّات والتمعّن في سطورها، وعقد الجلسات فيها، والمذاكرة بشأن مضامينها المختلفة، والاستجوابات وما يليها من مرافعات، والنظر في طلبات إخلاءات السبيل والدفوع الشكلية، وغيرها من إجراءات وأصول المحاكمات الجزائية.
على أنّ ورود الملفّات إلى هذه المحكمة في شهر شباط 2016، بلغ 45 ملفّاً، وهو رقم مهوّل تجاوز عدد الأحكام الصادرة المشار إليها آنفاً، ممّا يدلّل على وجود خلل ما، لا يكمن، بطبيعة الحال، في عمل الهيئة القضائية التي تبذل قصارى جهدها، وإنّما في الوضع الأمني في لبنان والناتج عن أمور كثيرة لا يمكن للسلطة السياسية أن تغضّ الطرف عنها، ومهما كانت التبريرات المعطاة.
أمّا في غرفة الجنايات الأخرى التي يرأسها القاضي محمّد خير مظلوم بالانتداب، وتضمّ القاضيين هاني الحبّال وبسّام الحاج مستشارين، فقد وصل مجموع الملفّات الواردة إليها لغاية نهاية شهر شباط 2016، إلى 725 دعوى، واستطاعت أن تصدر 44 حكماً طوال الشهر المذكور، وهو رقم مهمّ إذا ما تمّ قياسه إلى الأعمال الأخرى المنوطة بهيئة المحكمة.
ويستدعي الورود الكبير للقضايا والبالغ 1498 ملفّاً، في غرفتي محكمة الجنايات، التوقّف عنده مليّاً، ويضاف إليه نحو أربعة وستّين ملفّاً للغرفة الثالثة التي يرأسها القاضي روكس رزق، وهي تحال عليه لدواع أمنية وطارئة وحفاظاً على السلامة العامة، أيّ أنّ الجريمة اقترفت خارج بيروت، ولكنّ الضرورات الأمنية إستلزمت نقلها إلى العاصمة كونها متعلّقة بفلسطينيين أو سوريين من مخيّم عين الحلوة الواقع شرق مدينة صيدا الجنوبية، أو بعمليات ثأرية في البقاع وعكّار وسواهما من المناطق اللبنانية المحرومة. ولا تكرّس هذه المحكمة جلّ وقتها للملفّات الجنائية، لأنّها مكلّفة بالنظر في الإيجارات، وجرائم المطبوعات أيضاً.
إرث ثقيل وازدياد الجرائم
وإنْ كانت هناك ملفّات متوارثة من سنوات سابقة، لئلاّ نقول “نائمة” و”مدفونة” نتيجة عدم النظر فيها، أو مرورها بمراحل المحاكمة من دون أن تصل إلى ضفّة الخاتمة المرجوة بإصدار الأحكام الملائمة، إلاّ أنّه منذ اشتعال الحرب في سوريا ونزوح أكثر من مليون وخمسماية ألف مواطن سوري إلى لبنان وانتشارهم في غير منطقة جبلية وساحلية، زاد منسوب الجرائم نتيجة ظروف المعيشة، واستسهال بعضهم تحصيل المال باتباع الأساليب الملتوية، وصولاً إلى ارتكاب القتل إذا ما لزم الأمر، وهذا واضح في ملابسات غير جريمة وقعت على الأراضي اللبنانية وكان “أبطالها” من الجنسية السورية، وضحاياها من الجنسيتين السورية واللبنانية على حدّ سواء.
تشتّت موقف السلطة السياسية
وكان يتوجّب على السلطة السياسية اللبنانية أن تستدرك الخطأ المميت الذي وقعت فيه، بإحلال النازحين السوريين في مخيّمات تشيدها خصّيصاً لهم في مناطق قريبة من الحدود اللبنانية السورية، وتمنع تغلغلهم في المناطق اللبنانية، غير أنّ اختلاف مواقف الأطراف السياسية اللبنانية تجاه الأحداث في سوريا، وهو ما انسحب على التسمية المفروض إطلاقها على السوريين وما إذا كانوا نازحين أو لاجئين خشية أن يصار في المستقبل إلى توطينهم في لبنان، وما تبعها من تصريحات وخطابات رافضة لما اعتبرته تمييزاً وعنصرية في التعاطي مع السوريين، أضاع البوصلة تماماً، وشتّت الموقف الموحّد، ممّا سمح لهم بالانتشار على مختلف الأراضي اللبنانية والتداخل مع النسيج اللبناني، مع ما في ذلك من خطورة ديموغرافية واجتماعية واقتصادية وبيئية.
البلديات تستدرك
وهذه الصورة الواقعية المريرة، دفعت بلديات كثيرة، لاحقاً، إلى توجيه تحذيرات علنية إلى السوريين القاطنين في نطاقها الجغرافي والإداري، وحثّهم على التزام منازلهم في أوقات محدّدة بعد مغيب الشمس وحتّى طلوع صباح اليوم التالي، مع أنّ هناك من صنّف هذه الخطوة تحت بند “التمييز العنصري”، لكنّها كانت أكثر إقناعاً وجدوى من الانتشار الكثيف للمواطنين السوريين ومن دون تدقيق في ماهية أعمالهم اليومية، مع الإشارة إلى أن هناك ملفّات أمنية لدى القضاء العسكري بحكم الاختصاص، تؤكّد أنّ بعض هؤلاء السوريين كان يمدّ يد التعاون للجماعات الإرهابية من خلال تزويدها بمعلومات أمنية.
ورأى مراقبون أنّ هذا الإجراء الاحتياطي والاحترازي للبلديات، ولبعض الأحزاب اللبنانية في مناطق “نفوذها”، كان ضرورياً بعد موجة العمليات الانتحارية والسيّارات المفخّخة التي شهدها لبنان، فضلاً عن الحوادث الأمنية المتفرّقة التي وقعت في غير قرية، لأنّها أحدثت نوعاً من الخوف لدى اللبنانيين على حياتهم، وعلى أرزاقهم.
وما يزيد الهواجس هو أنّ شريحة كبيرة من السوريين يقيمون على الأراضي اللبنانية بطريقة غير مشروعة، كما أنّ هناك من انتهت بطاقة العودة المعطاة له، فضلاً عن قرب الحدود اللبنانية السورية وانفتاحها دون رقابة فاعلة وإمكانية اللجوء إلى سوريا والمكوث فيها بعيداً عن عيون الأجهزة الأمنية الرسمية السورية، أو الإنضمام إلى المجموعات المسلّحة الخارجة على القانون، ممّا يؤدّي إلى “ضياع الغريم”، وانتهاء جريمة القتل بمعرفة القتيل وفرار القاتل أو تجهيله وعدم القبض عليه.
“مسؤولية” مجلس القضاء!
وإزاء تكاثر الجرائم، واستمرار الحرب السورية، وعدم إيجاد حلّ جذري للنزوح السوري إلى لبنان، وضعف “النيّة” السياسية في معالجة الثغرات الأمنية الناجمة عن هذا النزوح، فإنّ مجلس القضاء الأعلى بات مسؤولاً عن وضع مخرج لائق لكثرة الملفّات، بإحداث غرفة ثالثة من محكمة الجنايات، وإضافتها إلى محكمتي الجنايات الموجودتين، تكون أساسية مثلهما، لعلّ هذا الأمر يساعد في تخفيض أعداد الملفّات، ولكنّه حتماً، لا يضع حلاًّ لاستمرار مسلسل الجريمة التي تبقى من مسؤولية السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية.
لأحكام صارمة تحمي المجتمع
وتبقى إشارة أخيرة، إلى أنّ هناك ملفّات جنائية وجنحية عالقة أو قيد النظر لدى محاكم الجنايات واستئناف الجنح وقضاة التحقيق والقضاة المنفردين في بيروت والمحافظات والمناطق، لو جرى احتسابها، فإنّها تعطي انطباعاً إضافياً على ما تعانيه المحاكم اللبنانية من إختناق غير مألوف، من جرّاء وفود المواطنين السوريين إلى لبنان وخروج بعضهم على القانون بارتكاب جرائم تقتضي مواجهتها بأحكام صارمة للتخفيف منها قدر المستطاع، وحماية المجتمع اللبناني الذي يكفيه بمفرده، ما يعانيه هو الآخر من أزمات على شتّى الصعد الاقتصادية والاجتماعية والحياتية والسياسية وصلت إلى حدّ تعطيل مؤسّسات الدولة وفي طليعتها رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي.
بطلا جريمة الطريق الجديدة.. سوريان
في شهر أيلول 2015، قتل الشاب اللبناني محمّد حياد حميّة داخل متجر والده لبيع الألبسة في محلّة الطريق الجديدة في بيروت على يد السوريين مصطفى عبد الباسط تحفة، وباسل سعدالدين الأحمد الشبلي اللذين يعملان لدى أبيه، وذلك بدافع السرقة.
وبعدما قتلاه، وضعاه في كيس، ولاذا بالفرار إلى سوريا، وهما موضع استنابة قضائية باستردادهما لم تحظ بجواب شاف لغاية الآن. ولا يزال الملفّ قيد التحقيق لدى قاضي التحقيق الأوّل في بيروت غسّان عويدات.
سوري يتواصل مع الإسرائيلي من لبنان
أنزلت المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن الطيّار خليل إبراهيم عقوبة الأشغال الشاقة مدّة خمس عشرة سنة غيابياً بحقّ السوري الجنسية محمّد جمعة الأقرع(والدته زكية، مواليد إدلب في العام 1976، رقم القيد 12 إدلب) وذلك لقيامه في الأراضي اللبنانية وخارجها، بالتواصل مع العدوّ الإسرائيلي، وهو على بيّنة من أمره.
سوري يطلق النار على مواطنه في بيروت
أطلق السوري وائل صادق الحموي( مواليد العام 1975) النار من مسدّس حربي على مواطنه إحسان يوسف جمعة في أحد المقاهي في محلّة عين المريسة في بيروت في 5 أيلول 2015 بسبب خلاف سابق بينهما ولاذ بالفرار. وقد أحيل في 21 كانون الأوّل 2015، على المحاكمة بصورة غيابية، أمام محكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضية هيلانة اسكندر، بموجب قرار اتهامي صادر عن الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضية ندى دكروب وعضوية المستشارين شربل رزق وبلال بدر.
سوريان يقتلان كويتيين بهدف السرقة
إستيقظ اللبنانيون على جريمة مروّعة وقعت في بلدة عاريا قرب الكحّالة في 9 آذار 2016، ذهب ضحيتها الكويتيان حسين النصّار ونبيل غريب، وسرعان ما أوقفت القوّة الضاربة في “فرع المعلومات” الفاعلين وهما السوريان عمّار س. (مواليد العام 1975)، وسمير م. (مواليد العام 1977) اللذان ارتكبا جريمتهما عن سبق الإصرار والترصّد بواسطة مطرقة حديدية، وذلك بهدف السرقة، وأحد القاتلين هو ناطور المبنى.
لولا النزوح السوري لأقفلت المحكمة
قالت قاضية ترأس إحدى محاكم الجنايات خارج بيروت في مجلس خاص، إنّه لولا النزوح السوري لكانت محكمتها قد أقفلت بسبب قلّة ورود الملفّات المتهم بها لبنانيون، فمعظم المتهمين والأظنّاء في الدعاوى الموجودة لدى محكمتها هم سوريون وفلسطينيون.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 6 – نيسان 2016).