تعليقاً على قرار قاضي التحقيق بمنع محامٍ من مزاولة مهنته/هيثم عزو وحسن بزي
المحاميان هيثم عدنان عزُّو وحسن عادل بزِّي:
يقتضي التنويه بدايةً بأنّنا لسنا بمعرض الدفاع عن أحد في هذه القضيّة، وإنّما نتصدّى لهذه المسألة نفعاً للقانون من وجهة نظر علمية صرف، مع تأكيدنا الحتمي على وجوب احترام المحامي لقسمه باحترام القاضي وخصوصاً ِلِما للسلطة القضائية من هيبة ووجوب تمتّع القاضي في المقابل بحسن اللياقة في التعامل مع المحامي إحتراماً منه أيضاً لقسمه لجهة التصرّف الشريف وذلكَ كي يبقى التعامل بينهما تكاملياً لا تصادمياً ينتج عنه في نهاية المطاف تعكير صفو العلاقة بين جناحي العدالة وهو ما يرتدّ سلباً على هذه الأخيرة.
حيث إنَّ حضرة قاضي التحقيق في بيروت أسعد بيرم كانَ قد أصدر بتاريخ 2020/11/13 قراراً قضائياً قضى فيه بالإستعاضة عن التوقيف الإحتياطي للمحامي هادي حبيش في الجريمة المنسوبة إليه بوضعه تحت المراقبة القضائية وفرض عليه موجبين لضمان تنفيذ المراقبة القضائية، تمثّلَ الأوّل بمنعه من مزاولة مهنة المحاماة لمدّة ثلاثة أشهر، في حين تمثّلَ الثاني فيه بإلزامه دفع كفالة مالية مقدراها 50 مليون ل.ل. وذلك سنداً لأحكام المادة 111 أصول جزائية والتي تنصّ على ما حرفيته:”لقاضي التحقيق، مهما كان نوع الجرم، وبعد استطلاع رأي النيابة العامة، أن يستعيض عن توقيف المدعى عليه بوضعه تحت المراقبة القضائية، وبإلزامه بموجب أو أكثر من الموجبات التي يعتبرها ضرورية لإنفاذ المراقبة منها:…هـ- عدم ممارسة بعض المهن التي يحظّر عليه قاضي التحقيق ممارستها طيلة مدّة المراقبة… ز- تقديم كفالة ضامنة يعيّن مقدارها قاضي التحقيق…”.
وحيثُ يقتضي التنويه بدايةً بأنَّ الجريمة المنسوبة للمحامي المدعى عليه -وبصرف النظر عن ثبوتها عليه – تتمثّل بإقدامه على اقتراف جرائم القدح والذمّ والتحقير بحقّ النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان(القاضي غادة عون) أثناء قيامه بمراجعة هذا الأخير بملفّ قضائي له صفة قانونية فيه باعتباره وكيلاً للمدعى عليها هدى سلوم، بما يفضي ذلك إلى اعتبار الجرائم المنوَّه عنها حاصلة حُكماً أثناء وبمعرض تنفيذ مهنته ومزاولته لها.
وحيثُ إنّ الإشكالية التي تتمخّض عن هذا القرار هي معرفة من جهة أولى مدى قانونية تطبيق قاضي التحقيق “ككاقضي ظنّ” أحكام المادة 111 المشار إليها أعلاه على محامِ مُلاحق قضائياً بجرم ناشئ عن مهنة المحاماة، واستطراداً من جهة ثانية معرفة مدى إمكانية منعه من مزاولة المهنة كتدبير قضائي استثنائي إنفاذاً لموجب المراقبة.
حيثُ ومن نحوٍ أوّل، إذا كانَ لقاضي التحقيق قانوناً حقّ الإستعاضة عن توقيف المدعى عليه، فيقتضي أن يكون له من باب أَولى حقّ توقيفه قانوناً سنداً لمبدأ قانوني عام مفادهُ:”الذي يستطيع الأكثر يستطيع الأقلّ “Qui peut le plus, peut le moins، وهذا يعني بالمفهوم المعاكس إذا كان لا يوجد حقّ لقاضي التحقيق في توقيف شخص لعلّة أو لسببٍ قانوني ما، فلا يكون له بالتالي حقّ الإستعاضة عن توقيفه طالما هذا الحقّ هو مرتبط وجودياً بالحقّ الأساسي الأوّل المُتفرِّع عنه والمتلازم في وجوده معه.
وحيثُ إنَّ المادة 75 من قانون تنظيم مهنة المحاماة تنصّ صراحةً على أنّهُ “لا يجوز “التوقيف الاحتياطي” في دعوى الذمّ أو القدح أو التحقير التي تقام على محام بسبب أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته مهنته”. ومن المعروف قانوناً أنَّ التوقيف الاحتياطي هو حقّ مُكرّس من حيثُ المبدأ لقضاء التحقيق دون غيره.
وحيثُ بالعودة إلى واقعات القضيّة موضوع التعليق وعطفاً على هذا النصّ المشار إليه يكون بالتالي من غير المُمكن توقيف إحتياطياً المدعى عليه المحامي هادي حبيش بسبب حصول جرائم القدح والذمّ والتحقير المنسوبة إليه أثناء تنفيذ مهنته في ملفّ قضائي مُوَكَّل فيه رسمياً وفقاً لما تمَّ إيضاحه آنفاً، باعتبار أنَّ المادة 75 من قانون تنظيم مهنة المحاماة تحجب حكماً تطبيق المادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجيز لقاضي التحقيق توقيف المدعى عليه احتياطياً وفقاً لشروط معيّنة محدّدة فيها وتحجب بالتالي وبالتبعيَّة تطبيق المادة 111 من ذات القانون وذلكَ طالما أنّهُ لا يمكنه في هذه الحالة استعمال قانوناً حقّ التوقيف ليستعيض عنه بوضع المدعى عليه تحت مراقبته القضائية، باعتبار أنَّ ليسَ لهُ أن يُقرِّر في هذه الحالة ما هو محجوب عنه قانوناً وما أفقدهُ إيّاه المشترع بنصّ خاص، إذ إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه ولا حقّ له فيه وهو ما ينسف بالنتيجة القرار القضائي موضوع التعليق برمّته.
حيثُ ومن نحوٍ ثانٍ، وعلى فرض صحّة التسليم جدلاً بأنَّه يحقّ لقاضي التحقيق الإستعاضة عن توقيف المحامي حبيش احتياطياً بوضعه تحت المراقبة القضائية بجرم حصل أثناء مزاولته لمهنته -وهو أمر ننفيه ولا نقرّ فيه للسبب الأوّل المنوّه عنه أعلاه -ولكن على سبيل الجدل والنقاش القانوني Et pour complément de droit، فإنّهُ مع ذلك يبقى من غير المُمكن لهُ – كقاضي ظنّ- منعهُ من مزاولة مهنة المحاماة تحت ستار إحدى موجبات إنفاذ المراقبة القضائية، باعتبار ذلك يصطدم لا محالة بعتبة نصّ المادة 99 من قانون تنظيم مهنة المحاماة التي حصرت حقّ تقرير منع المحامي من مزاولة مهنة المحاماة بالمجلس التأديبي لنقابة المحامين وخصوصاً في حال إقدام المحامي على عمل من شأنه أن يحطّ من قدرها، أو سلوكه مسلكاً لا يأتلف وكرامتها بنصّها صراحةً على أنَّ: “كلّ محام، عاملاً كان أو متدرّجاً، يخلّ بواجبات مهنته المعيّنة بهذا القانون أو يُقدم أثناء مزاولة تلك المهنة أو خارجاً عنها، على عمل يحطّ من قدرها، أو يسلك مسلكاً لا يأتلف وكرامتها يتعرّض للعقوبات التأديبية الآتية: 1- التنبيه. 2- اللوم. 3- المنع من مزاولة المحاماة مدّة لا تتجاوز الثلاث سنوات – الشطب من جدول النقابة”. وهذا يعني أنَّ المشترع ضَمنَ للهيئة التأديبية الخاصة لدى نقابة المحامين -ولقضاء الحكم بشكلٍ عام كما سنرى لاحقاً وخاصةً أنّهُ هوَ مّن يلفظ حكمه النهائي بشأن قرارات هذه الهيئة إزاء طعَن مُقدّم أمامه ضدّها – اختصاصاً نوعياً حصرياً في هذا الصدد، فلا يمكن بالتالي مُصادرته من قِبَل قضاء الظنّ ولو شاء المشترع غير ذلك لنصّ صراحةً على خلافه ولكان النصّ مختلفاً كما فعلَ في كثير من الأمور.
وحيثُ إنَّ ما يُعزّز صحّة هذا الرأي هو نصّ المادة 100 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والمعطوفة على المادة 77 من قانون تنظيم مهنة المحاماة والذي لم يعطِ لقاضي التحقيق خارج حالة الجرم المشهود، عند ملاحقته محامِياً، أن يفتّش مكتبه إلاَّ بعد أن يُعلم مسبقاً نقيب المحامين بالأمر، وألزمه بكافة الأحوال بعدم خرقه أثناء التفتيش سرّ مهنته وذلك لرغبةٍ أكيدة من المشترع في بقاء كلّ ما يتعلّق بمهنة المحامي خارج نطاق دائرة صلاحية قرارات قاضي التحقيق ولاسيّما أنَّ المشترع كان متشدِّداً في هذا الأمر بفرضه على قاضي التحقيق حتّى في حالة تفتيش مكتب المحامي المدعى عليه وجوب إعلام أوّلاً نقيب المحامين بالأمر والذي له أو لمن ينتدبه -بحسب المادة المشار اليها- أن يحضر أعمال هذا التفتيش لكون ذلك يتصل اتصالاً مباشراً ويرتبط بصورة وثيقة بمهنة المحاماة طالما أنَّ مكتب المحامي هو المكان الذي اتخذه عنواناً لممارسة مهنته فيه، فكيفَ يُعقل إذن للذي لا يمكنه خرق سرّ مهنة المحامي ولا تفتيش مكتبه قبل إعلام نقيب المحامين بالأمر أن يُعطّل كامل مهنة المحامي بمنعه من مزاولتها ودون الرجوع في هذا الصدد إلى نقابة المحامين قبل تقرير هذه النتيجة؟ إنَّ ذلك يؤكّد أنّ هذا المنع يخرج عن نطاق اختصاص قاضي التحقيق ويدخل حكماً ضمن اختصاص المجلس التأديبي لدى نقابة المحامين أو ضمن اختصاص قضاء الأساس كما سنرى لاحقاً في متن هذه المطالعة القانونية.
حيثُ ومن نحوٍ ثالث، يقتضي القول إنّه ولئن كان صحيحاً أنَّ نصّ المادة ١١١ أصول جزائية قد كرّس لقاضي التحقيق صلاحية منع المدعى عليه من ممارسة المهنة طيلة فترة الرقابة، إلاَّ أنَّهُ من الصحيح أيضاً قانوناً أنّه عند تضارب نصّ عام مع نصٍّ خاص، يُطبّق حصراً النصّ الخاص باعتبار أنَّ الثاني يتقدّم في التطبيق على الأوّل في لعبة المفاضلة بين القواعد والنصوص القانونية وهذه مسلّمة قانونية لا تقبل التشكيك. وأنّهُ ممَّا لا شكّ فيه في هذا الصددّ أنّ نصّ ٩٩ مِن القانون المتعلّق بتنظيم مهنة المحاماة يُعتبَر حُكماً بمثابة النصّ الخاص بالنسبة للنصّ العام الوارد في المادة ١١١ مِن القانون الإجرائي الناظم لعموميات أصول المحاكمات الجزائية ككلّ والذي يُطبَّق على جميع الحالات، ما لم يتعارض مع نصّ خاص وارد في قانون خاص.
وعليه، فإنَّ النصّ الخاص المتعلّق بالمادة ٩٩ المنوّه عنها -والذي حصرَ فقط بالمجلس التأديبي لنقابة المحامين حقّ منع محامٍ من مزاولة مهنته لمدّة محدّدة – يُعطِّل النصّ العام المتعلّق بالمادة 111 ويعطّل بالنتيجة صلاحية قاضي التحقيق في تقرير هذا المنع الذي فرضه على المحامي المدعى عليه وذلكَ لانعدام الاختصاص ولتضارب النصّ العام الذي استند عليه في تقرير النتيجة التي خلُصَ إليها بنصّ خاص وبالإستناد إلى التعليل الوارد أعلاه.
وحيثُ ما يُعزِّز صحّة وصوابية هذا الرأي هو نصّ المادة ١١١ نفسهُ الذي أعطى لقاضي التحقيق حقّ إلزام المدعى عليه بموجبات يعتبرها ضرورية لإنفاذ المراقبة القضائية إذ جاءَ في البند رقم -ه- منه ما حرفيّته: “عدم ممارسة بعض المهن …” وذلكَ في دلالة واضحة من المشترع الإجرائي الجزائي على كون تقرير هذا الموجب للرقابة ليسَ مطلقًا وإنَّما مقيَّداً ببعض المهن فقط وبالتالي عدم أحقّية قاضي التحقيق في استعمال هذا الحقّ في جميع المهن وإنّما في بعضها فقط (الحِرَفيّة) لكون بعض المهن ولا سيّما الحرّة المقوننة تخضع لأنظمة خاصة فُرضت آلية وإجراءات وشروط معيّنة لتقرير هذه النتيجة، هذا فضلاً عن خضوعها لقانون العقوبات الذي لا يُقرّر صحّتها إلاّ وفقاً لشروط محدّدة أيضاً وهو ما سنبيّنه في الحيثيّة التالية.
حيثُ ومن نحوٍ رابع، رُبَّ قائلٍ يقول بأنَّ نصّ المادة 358 من قانون العقوبات أعطت للقاضي صلاحية منع المحامي من ممارسة مهنته مدى الحياة إذا اقترف فعلاً منصوصاً عنه في المادة السابقة لها بحجّة الحصول على عطف قاض أو حكم أو سنديك أو خبير في قضيّة قضائية، فيكون له من باب أَولى حقّ تقرير هذا المنع لمدّة معيّنة.
إنَّ هذا الرأي يبدو للوهلة الأولى صحيحاً، إلاَّ أنّه يُرَدّ عليه بأنّهُ يتجاهل الأصول والمبادئ العامة المعمول بها قانوناً، إذ إنّهُ يقتضي دوماً عدم التغافل عنها وخصوصاً في الحقل الجزائي.
ومنَ المعروف في هذا الصدد أنَّ واحداً من أهمّ تلك المبادئ هو مبدأ الفصل بين قضاء الملاحقة والتحقيق والمحاكمة، باعتبار أنَّ لكلٍّ منهم نظامه القانوني الخاص والذي كرّسه المشترع حسناً لسير العدالة الجزائية. ومن المسلّم به قانوناً في هذا الصدد أنّ قضاء الملاحقة يبني ادعاءه على مُجرّد الشُبهة، في حين أنّ قضاء التحقيق يبني قراره على مُجرّد الأدلّة التي تعزّز الظنّ، بينما قضاء الحكم يبني حكمه النهائي على أدلّة دامغة تُثبِت بالدليل القاطع اقتراف الجرم باعتبار أنَّ الأحكام النهائية لا تُبنى على الشُبهات والظنون، بل على أدلّة الجزم والحزم واليقين، لأنَّ الأصل هوَ قرينة البراءة والشَكّ الناتج عن عدم كفاية الدليل، يُفسّر دائماً لمصلحة المدعى عليه، ولهذا منع المشترع تقرير العقوبة إلاَّ من قِبَل قاضي الحكم دون سواه.
وحيثُ تِبعاً لذلك يقتضي معرفة ما إذا كان منع محامٍ من مزاولة مهنته هي بمثابة عقوبة أو لا ليتقرَّر على ضوء ذلك معرفة ما إذا كان يحقّ أم لا لقاضي التحقيق تقريرها، باعتبار أنّه إذا كان ينطبق عليها قانوناً وصف العقوبة فلا تُلفظ ولا تُقرَّر حينها إلاَّ من قضاء الحكم، بينما إذا كانت بمثابة تدبير احتياطي فيمكن لقاضي التحقيق تبنّيها كإحدى موجبات إنفاذ المراقبة القضائية.
وحيثُ إنَّ تعريف العقوبة قانوناً هو جزاء ينطوي على الإيلام أو على الحرمان من حقّ أو من حرّية ما يُقرّره المشترع بنصٍّ خاص يندرج تحت باب العقوبات في قانونٍ عام أو خاص على شخص مسؤول جزائيا ًعن جريمة ارتكبها ويُوقعه قاضي الحكم عليه إذا ما ثبُت لديه بدليل قاطع مسؤوليته عن الجريمة المنسوبة إليه ولا يُنفّذ هذا الجزاء بحقّه إلاَّ بناءً على حكم قضائي مبرم صادر عن محكمة مختصة، أيَّ أنَّ العقوبة تخضع لطرق الطعن للوصول إلى حالة الإبرام، ما لم يوجد استثناء بنصّ خاص يجعلها المشترع فيه مبرمة بجعله الحكم الذي تضمّنها صادراً بالصورة الأخيرة وغير قابل للتظلّم.
وحيثُ إنَّ المنع من مزاولة مهنة المحاماة هو بمثابة عقوبة لكونها مهنة مُقوننة ولكون هذا المنع مُقونناً أيضاً بنصوص تشريعية فرضت شروطاً لتقريرها وأتاحت الطعن بها على عكس المهن الحرفية غير الخاضعة لنظام قانوني معيّن يفرض تحقّق شروط خاصة لتقريرها على المُمتَهن.
وحيثُ إنَّ ما يُؤكِّد أنَّ منع محام من مزاولة مهنة معيّنة هي بمثابة عقوبة قضائية هو المادة عينها من قانون العقوبات (358( – الذي يتسلّح بها أصحاب الرأي المناقض- والتي أعطت “لقاضي الحكم” صلاحية تقريرها مدى الحياة إذا توافرَ الشرط المنصوص فيها وهو اقتراف المحامي للفعل المنوّه عنه في المادة 357 السابقة لها بحجّة الحصول على عطف قاض أو حكم أو سنديك أو خبير في قضيّة قضائية.
كما أنَّ ما يؤكّد أنّ منع المحامي من مزاولة مهنة المحاماة هي عقوبة مسلكية هو نصّ المادة 99 من قانون تنظيم مهنة المحاماة والتي وصفتها صراحةً بالعقوبة وفرضت شروطاً لتقريرها وهي إخلال المحامي بواجبات مهنته أو إقدامه أثناء مزاولة تلك المهنة أو خارجاً عنها على عمل يحطّ من قدرها، أو سلوكه مسلكاً لا يأتلف وكرامتها والمعطوفة بدورها على المادة 111 من ذات القانون والواردة في باب العقوبات فيه والتي تُعاقب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من خمسة وعشرين ألف إلى مائة ألف ليرة لبنانية كلّ محام مارس المحاماة بعد منعه من ممارستها أو في أثناء مدّة منعه المؤقّت من ممارستها أو شطب اسمه من جدول المحامين بموجب قرار تأديبي مبرم”. وهذا يعني أنَّ المنع الموقّت من ممارسة مهنة المحاماة يكون فقط بقرار تأديبي صادر عن مجلس التأديبي لدى نقابة المحامين في حين أنّ المنع النهائي عن مزاولة المهنة يكون بقرار قضائي صادر عن قضاء الحكم دون قضاء التحقيق.
زد على ذلك، أنَّ ما يؤكّد أنَّ المنع من مزاولة المهنة بقرار من المجلس التأديبي هو بمثابة عقوبة لا تدبير احتياطي، هو خضوع القرار الصادر بشأنها للطعن سنداً لأحكام المادة 108 من قانون تنظيم مهنة المحاماة وذلك بالإعتراض وبالإستئناف محكمة الاستئناف النقابية والتي تتألّف من قضاة ثلاثة قضاة عدليين وعضوين من مجلس النقابة وضمن مهلة إسقاط قانونية محدّدة، أي أنَّ هذه العقوبة هي شأنها شأن أيَّة عقوبة قضائية أخرى مع الفارق بأنّها عقوبة مسلكية تخضع للرقابة القضائية ولكنّها صادرة عن قضاء حكم خاص بالمحامين متمثّل بالمجلس التأديبي لدى نقابة المحامين له حقّ إصدار هكذا حُكم وبدليل استعمال المشترع في نصّ المادة 101 من هذا القانون لفظ حُكم حيثُ نصت على أنَّ: “لمجلس التأديب عند حُكمهِ على محامٍ بعقوبة المنع موقّتاً من ممارسة المهنة أن يقضي بفقرة خاصة من قراره بحرمان ذلك المحامي من حقّ انتخابه عضواً في مجلس النقابة مدّة لا تتجاوز عشر سنوات”. وما يُثبت أيضاً أنَّ المجلس التأديبي الذي يقرّر منع محامٍ من ممارسة المهنة كعقوبة هو بمثابة قضاء حكم خاص مسلكي -عدا عن خضوع أحكامه للطعن كما أسلفنا- هو نصّ المادة 105 من القانون عيّنه والتي نصّت على أنّ مجلس التأديب يعتمد طرق التحقيق والمحاكمة التي تضمن حقوق الدفاع وحسن سير العدالة وحقّ المحامي المحال أمامه بتوكيل محام، تماماً كما هو حال المحاكمة في الجرائم العادية أمام القضاء.
وحيثُ إنّه ما يُثبِت بالتالي على أنّ منع المحامي من مزاولة مهنته -سواء لمدّة محدّدة أو مدى الحياة- لا يُمكن أن تندرج تحت وصف إحدى موجبات إنفاذ المراقبة القضائية التي يقرّرها قاضي التحقيق وإنّما هي في الواقع والقانون بمثابة عقوبة قضائية أو مسلكية يقرّرها قضاء حُكم عادي مختصّ بالمحاكمات الجزائية أو يقرّرها قضاء حُكم خاص مختصّ بالمحاكمات التأديبية هو النصّ الوارد عليها في قانون العقوبات العام المتمثِّل بالمادة 358 منه والذي يُطبِّقها “قاضي الحُكم العادي” المتمثِّل في الحالة الراهنة بالقاضي المنفرد الجزائي -كونها عقوبة جنحية معاقباً عليها بالحبس لحدّ الثلاث سنوات كحدّ أقصى- وكذلك النصّ الوارد عليها من قانون تنظيم مهنة المحاماة المتمثِّل بالمادة 99منه والذي يُطبِّقها “قاضي الحُكم الخاص” المتمثِّل بالمجلس التأديبي لدى نقابة المحامين.
وحيثُ إنَّنا نخلُص إلى القول بأنَّ منع محامٍ من مزاولة مهنة لا يمكن إلباسه شكل إحدى موجبات المراقبة القضائية لأنّهُ يشكّل في الحقيقة “عقوبة” قد تتخذّ الشكل المسلكي أو الشكل القضائي وبالتالي متى ما كان تقريرها قضائياً فلا يمكن بالاستناد إلى التعليل المنوّه عنه آنفاً لفظها سواء من قضاء الحكم الجزائي دون قضاء التحقيق -باعتبار أنّ العقوبات يقرّرها قضاء الحُكم- كي لا يتمّ تعطيل حقّ مهني للمحامي والحدّ من حرّيته المهنية بناءً على ظنون وشبهات مِن قِبَل قضاء الظن ودون أدلّة تقطع الشكّ باليقين على ثبوت الجريمة المنسوبة إليه وهوَ ما لا يمكن التثبُّت منه إلاَّ من قِبَل قضاء الحكم بوصفه قضاء أساس نهائي وخاصةً لأنَّ قانون العقوبات كرّس صراحةً لقاضي الحكم دون غيره من القضاة صلاحية منع المحامي مزاولة مهنته كونه هو من يلفظ العقوبة سواء أكان الجرم منصوصاً عنه في الشريعة الجزائية العامة )قانون العقوبات) أو في الشريعة الجزائية الخاصة في باب العقوبات منها)قانون تنظيم مهنة المحاماة(.
وحيثُ يقتضي الإشارة أخيراً إلى أنّه لا يمكن لقاضي التحقيق التسلّح بالمادة 358 عقوبات للقول بحقّه في فرض هذه العقوبة طالما أنّه قاضٍ، وذلكَ لأنَّ العقوبات تُلفظ من قضاء الحكم النهائي بكونها حقّاً مكرّساً له وخاصةً أنّ هذه الذريعة تخرق مبدأ الفصل بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم، وبالتالي تدمج نظامهما القانوني بعضهما ببعض، وهو ما لا يستقيم قانوناً ولاسيّما أنّه لا يمكن في هذه الحالة التفسير بطريق الإستدلال القياس Raisonnement par analogie بعطف نصوص القانون الموضوعي )قانون العقوبات) على نصوص القانون الإجرائي )قانون أصول المحاكمات الجزائية( لاختلاف البنيان القانوني، أيّ لكونهما نظامين تشريعيين مختلفين من جهة أولى، ولأنَّ المبدأ قانوناً هو عدم إمكانية إجراء القياس في الحقل الجزائي بما يضرّ المدعى عليه من جهة ثانية، باعتبار أنّ القياس من أجل التجريم ممنوع، بينما من أجل التبرئة مسموح، ولهذا يُحظَّر على قاضي التحقيق الجزائي أن يَتَّبِع القياس لفرض عقوبة على المدعى عليه في هذه الحالة قد تتخذّ شكل المنع من مزاولة المهنة، لأنَّ في ذلكَ استحداث لقاعدة قانونية لم تَرد بتشريع أجازَ لهُ المشترع فيه حقّ تقريرها وهو ما يتعارض مع مبدأ عام مآله: “لا عقوبة ولا صلاحية بلا نصّ”.
بناءً على مجمل ما سبقَ وتقدّم، نرى برأينا المتواضع أنَّ قرار قاضي التحقيق موضوع التعليق واقعٌ في غير موقعه القانوني السليم.
“محكمة” – الجمعة في 2020/11/20
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.