القاضي جورج رزق يرثي أخته وابنها وحفيدها بعدما قضوا نتيجة الإصابة بـ “كورونا”
بقلم القاضي جورج رزق:
“أنّى لي أن أفهم الموت وأنا لم أفقه الحياة بعد” (كونفوشيوس)
«”كلّ خطوة في الحياة هي خطوة نحو الموت” (دي لافينيه)
وكأنّنا في لبنان في أحسن حال، وكأنّ عائلاتنا موفورة العيش، والحال في بلدنا بالتمام والكمال، حتّى وفَدَ إلينا الموت بقوّة وشراسة، محمولًا على أكفِّ وباءٍ قاتلٍ خبيثٍ، أصغر من أن يُرى بالعين المجرّدة، بقياس 125 nm، ولكنّه مخيف جدًّا ومروّع أدخل الهلع إلى قلوب سكّان الأرض كلّها، المدعو كورونا (covid 19)، وراح يحصدنا الواحد تلو الآخر، فالإصابات بلغت حدّ الآلاف، والوفيات حدّ المئات يوميًا، ما جعل لبنان في مرتبة متقدّمة، إصابات ووفيات، وفي سرعة الإنتشار نسبة لمساحته وعدد سكّانه، وقد انقسم لبنان واللبنانيون في صراعهم ضدّ الوباء الذي أصاب الأفراد والعائلات بلا هوادة، فوجد له بيئة حاضنة وبلغ انتشاره سرعة قياسية لعدّة أسباب، وأوّلها عدم تقيّد المواطنين، أو عدد كبير منهم، بالإرشادات الطبّية الرسمية الصادرة عن لجنة الكورونا الحكومية، وعن وزارة الصحّة العامة وعن نقيب أطباء لبنان في بيروت البروفسور شرف أبو شرف الذي بادر منذ البداية، إلى حمل لواء المواجهة لهذا الوباء، وكان السبّاق وأوّل من طالب الحكومة والمسؤولين بإقفال البلاد لاستيعاب الوباء وذلك عبر ظهوره في مختلف وسائل الإعلام بشكل مكثّف وقام بنشر الإرشادات الطبّية والإثباتات العلمية ووسائل التوعية وفقًا للمعايير المحدّدة في دول العالم سواء العربية والأجنبية، في أوروبا وأميركا وغيرها، والمعتمدة في مواجهة هذا الوباء.
كلّ شيء كان متوقّعًا إلاّ ما حصل في لبنان من اللامبالاة وعدم تحمّل المسؤولية من قبل الكثيرين، ناهيك عن عدم التحضير للكارثة قبل وقوعها، فحصل ما لم يكن في الحسبان وانتشر الوباء، وكان لنا شخصيًا النصيب الكبير منه، وحلّ على عائلاتنا بما يشبه الزلزال، فأصيبت عائلة شقيقتنا نوال سبع واكيم وعائلة ابنتها لولا نجيب أنطون، وعائلة إبنها البكر ميشال واكيم والأحفاد، وعائلة ابنتها الإعلامية ريتا نديم الحاج، وبنتيجة المعالجات الطبّية والاستشفائية، شفي البعض منهم، إلاّ أنّنا فجعنا بفقدان شقيقتنا نوال وابن ابنتها رودولف أنطون وابنها ريشار واكيم، وجميعهم كانوا في العناية المركّزة في المستشفى بعد صراع مع الوباء في غرفة الintubation لاكثر من مدّة شهر بعد إصابة ريشار بالوباء، كما أصيب والداه سبع ونوال، وشقيقه ميشال وعائلته، وشقيقته ريتا وعائلتها، وكان جميعهم ملازمين لمنازلهم ومتقيّدين بالقرارات الرسمية المختصة بالوباء الذي أصابهم الواحد بعد الآخر،
ترى ماذا أقول في هذا المصاب الجلل، أمام هول هذه الفاجعة العائلية الأليمة، فقدان ثلاثة أحباء في أقلّ من ثلاثة أسابيع، الواحد تلو الآخر، وماذا أقول فيهم، في نوال، في رودولف، في ريشار؟
نوال يا شقيقتي الحنونة، أيّتها الإنسانة المؤمنة الفاضلة والمثالية، يا أيّتها السيّدة الجليلة المحبّة الوفية المتفانية في سبيل عائلتها وعائلات أولادها وأقاربها والأصدقاء، التي، بلسان الجميع، دون منّة مني، ولا من الأقربين، كنت مثال الأمّ والجارة والصديقة والمرأة القدوة في الأخلاق والنبل والتهذيب، كنت تزيّنين المنزل بطيب عطرك وصفاء قلبك ونقاء روحك الأبيّة، جامعة للشمل وشدّ أواصر العائلة بمحبّتك وإنسانيتك، فكان الجميع “يحجّون” إليك في حلو الأيّام ومرّها، وأنت المظلّة للجميع، المحافظة على المسافة الواحدة بينهم، فيتعلّمون منك الصدق والوفاء، وكنت تهتمّين بالجميع، إلاّ بنفسك، كنت المرأة التي لم تكن تريد شيئًا لنفسها، فمصالح الكلّ هي قبل مصلحتك، ودومًا، حتّى على حسابك، فكنت “كالإبرة التي تكسو الناس وهي عريانة”.
أوليست “حياة المرأة سلسلة من المشاعر والحبّ والتضحية” كما يقول بلزاك؟ هكذا أنتِ، وهكذا كنت في مسيرتك تجسّدين هذا القول، وقول حافظ ابراهيم:
“الأمّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعبًا طيّب الأعراقِ”
أوليس “مثل المؤمن مثلُ النحلة، لا تأكل ولا تضع إلاّ طيبًا”؟ (الحديث الشريف)
ترى ماذا عساي أقول لها، لو بقيت على قيد الحياة، عن رودي وعن ريشار، وقد أوصتني في آخر اتصال معها بالإهتمام بهما “لأنّهما في العناية المركّزة “ناسية نفسها وأنّها هي أيضًا، كانت في غرفة العناية!
أولم يقل جبران النبي، “المحبّة لا تعطي إلاّ ذاتها، ولا تأخذ إلاّ من ذاتها”؟
أمّا أنت يا رودولف، يا عزيزي!
أيّها الشاب الوسيم، الطموح، المناضل، الواعد، فقد كان طموحك بمستوى وسامتك ومحبّتك لأهلك ولعائلتك وإخلاصك لهم، لذا لازمت والدك نجيب وتعلّقت به، وعملت معه وتدرّبت على يديه وثابرت على العمل في مكتبه، وتحت ناظريه، وقليلًا ما كنت تفارقه، فعملت خبيرًا محلّفًا لدى المحاكم في الشؤون العقارية، وانتسبت إلى نقابة الإستشاريين العقاريين في لبنان، وانطلقت بعدها إلى العالم التجاري والاقتصادي الرحب، مجال والدك، فأبيتَ، وأبى طموحك المستمرّ، إلاّ أن تعمل على تطوير العمل حتّى غدا مكتبكما في طليعة المكاتب العاملة في هذا المجال، وحقّقت النجاح الذي سعيت إليه بكلّ جدّ ونشاط، بجرأتك وشخصيتك المحبّبة إلى الجميع،
أوليس “الطموح أشبه بالسيل الجارف، فلا ينظر خلفه”؟
أولم يكن لسان حالك قول نيتشه: “ليست هذه الدنيا طوع البائسين، إنّها محطّ الرجال الطامحين المبدعين”!
يكفيك فخرًا أنّك نشأت، وترعرعت، على الإيمان والمحبّة، وتربيّت تربية وطنية صالحة، فأحببت وطنك كنفسك وكعائلتك، وولديك الطفلين ساندرو وكريستي، ووالديك نجيب ولولا وشقيقتك الدكتورة كريستيل وشقيقك المهندس رودريك، وكلّهم مفجوعون وحزينون لفقدك المفاجىء الذي يدمي القلوب، وكنت محطّ أنظار أبناء بلدتك الشوفيّة المحبّبة إليك سرجبال، وإلى والدك الذي شيّد لكم فيها دارةً واسعةً جمع فيها الأقارب والأصدقاء، وحفظتم فيها الكثير من الذكريات الحلوة بين فيء أشجارها وخرير مياه نهرها، ولطالما كنت تقصدها باستمرار لطيب اللقاء مع الأحبّة، كما أحببت بلدتك الثانية، منصورية المتن، التي احتضنتك صغيرًا ونشأت فيها، وكبرت بين أهلك، جدّك وجدّتك سبع ونوال، وخالاتك ريتا وجولي وأخوالك ميشال، وريشار”رفيق سفرك البعيد”.
وها إنّك تعود اليوم إلى مسقط رأسك، إلى سرجبال، مرفوع الرأس، وأهلك مكسورو الخاطر، لكي تحتضنك في ربوعها، فنمْ قرير العين يا رودي الحبيب.
أمّا أنت يا ريشار العزيز،
فماذا أقول فيك، وكنت سندًا لوالديك تقوم بخدمتهما بكلّ محبّة وإخلاص، فتمضي أكثر وقتك معهما، ومع شقيقك ميشال الذي كنت تعمل معه في مجال الإعمار، كما كنا ننتظر زواجك من “البنت الحلال”، الذي كان والدك المفجوع لفقدك سبع يتمنّى عليك ذلك وينتظره بفارغ الصبر، ولا أحد يصدّق كيف استقوى عليك وباء الكورونا وخطفك بهذه السرعة الفائقة المليئة بعلامات الاستفهام…
ولم يتسنّ لك أن تفرح بنفسك وأن تفرح الآخرين، فانتقلت إلى العالم الآخر وصرت “عريسًا في السماء”، بعدما تطهّرت على الأرض وذقت كلّ هذا العذاب المرّ أثناء استشفائك وصراعك مع الوباء،
أولم يقل إبن الرومي:
” توقي الداء خير من تصدٍّ لأيسرهِ وإن قربَ الطبيب”؟
ترى من سيحافظ على دار والديك لكي يبقى مفتوحًا، وأنت العازب الوحيد، وعلى والدك سبع المفجوع الذي أصابه الوباء أيضًا، ولكنّه تغلّب عليه، لكي يبقى معكم، وماذا أقول له عندما سيسأل عنكم أنت ونوال ورودي؟
وإنّني لمردّد مع أبو القاسم الشابي قوله المعبّر:
“حقًّا، إنّ في روضة الحياة لأشواكًا بها مزقّت زنابق نفسي”
و”ما بين طرفة عين والتفاتتها يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ”
وإنّي لا أشكّ لحظةً أنّ شقيقاتك وشقيقك هم الذين سيقومون بكلّ واجب في إبقاء منزلكم مفتوحًا، ووالدكم معزّزًا مكرّمًا في صدر هذا المنزل الرحب،
حقًّا سيبقى الموت سرًّا عميقًا، والبقاء سرّ، والحياة السرّ الكبير،
“إنّكم لن تقدروا أن ترقصوا حتّى تتسلّم الأرض جميع أعضائكم”
و”إنّ سرّ الموت يلتمس في قلب الحياة، لأنّ الحياة والموت واحد، كما أنّ النهر والبحر واحد (جبران النبي).
وداعًا نوال، شقيقتي الحنونة، والوالدة القدوة والجدّة المؤمنة، وداعًا “ستّ الحبايب”، ستّ الكلّ، في رحاب الله الواسعة، وملكوته السماوي بين الأبرار والصدّيقين، وسيبقى سريرك وحيدًا في غرفتك، فارغًا، إلاّ من المحبّة والمهابة والوقار، ينشر الدفء والعطر والحنان في الأرجاء، بعضنا لن يجرؤ على الإقتراب منه حياءً، وبعضنا الآخر سيقبّله كلّ صباح مع صياح الديك وزقزقة العصافير، ولن نعتاد على رحيلك المفاجىء الحزين ولن نصدّقه مهما طال الزمن، وسنبقى على يقين من أنّك باقية على العهد وساهرة على الجميع، من فوق، من الأعالي، ولو أنّ رحلتك القصيرة في هذا العالم قد انتهت، وقد بدأت رحلتك البعيدة إلى العالم الآخر،
وداعًا يا حبيبيَّ، ريشار ورودولف، في حضن نوال الدافىء الحنون، في رحاب الله وقدسيته، وبين ملائكته،
أمّا أنتِ يا لولا، أيّتها الأمّ المفجوعة، فإيّاك واليأس، ولن يكون استلامك أيّتها العزيزة، إلاّ إلى الله ولمشيئته،
” اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه لا تيأسنّ فإنّ الصانع الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته فما ترى حيلةً في ما قضى الله”.
“محكمة” – الجمعة في 2021/2/19