الصلاحية الحاجبة والحصرية للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في انفجار مرفأ بيروت/عصام إسماعيل
د. عصام نعمة إسماعيل:
إنّ مسألة اختصاص الجهات القضائية هي مسألة تتعلّق بالإنتظام العام، بحيث تلتزم كلّ محكمة حدود اختصاصها كما رسمه لها المشترع.
وهذه الصلاحية لا تفترض ولا تؤخذ بالقياس، بل يلتزم القضاء بحدودها المرسومة دستورًا وقانونًا، وقد اعتاد المتخاصمون تحوير أيّ واقعة لجعلها داخلة ضمن اختصاص القضاء الجزائي من أجل الضغط على المدعى عليه، أو لمآرب أخرى، وكثيرًا ما تستخدم وسيلة تحوير قواعد الاختصاص من أجل تقديم دعوى هي بطبيعتها مدنية، أو إدارية، أمام القضاء الجزائي.
هذه الرغبة في التجاوز والسعي لمنح القضاء الجزائي سلطانًا على كافة الدعاوى لم يكن يومًا محلّ قبول قضاء الحكم الذي لا يتردّد بإعلان عدم اختصاصه للنظر في الدعوى بالرغم من قبول النيابات العامة في بعض الحالات للدعوى والسير بها جزائيًا.
ولم يتوقّف هذا الأمر عند حدود التنازع في إطار المراجعات المدنية والإدارية، بل نجد في كثيرٍ من الحالات تدخّل القضاء الجزائي في قضايا منح المشترع صلاحية البتّ بها إلى هيئة قضائية أخرى. إلّا أنّ هذا التدخّل بقي محصورًا في إطاء قضاء التحقيق والإدعاء وليس لدى قضاء الحكم الذي كان حازمًا في عدم موافقة النيابة العامة ولا قضاة التحقيق في مواقفهم المتجاوزة لحدود النصّ.
إنّ الحماسة والقرب من الرأي العام والتوجّه العام، لا يبرّر لقضاة التحقيق للحلول محلّ المشترع سيّما الدستوري منه، فهو عندما ينشئ هيئة قضائية للنظر بنوعٍ محدّدٍ من المنازعات فلا يكون للقضاء أيًّا كانت الاعتبارات تجاوز النصّ والخروج على قواعد الاختصاص. وإذا كان هناك خلل ما يحول دون ملاحقة المرتكب فيمكن للرأي العام لا سيّما الحقوقي منه الضغط نحو تعديل النصّ الدستوري، ولكن من المؤسف أن نراهم يفسّرون النصّ الدستوري بطريقة تتوافق مع الهوى وليس مع الدستور. وهذا ما يذكّرنا بمصيبتنا القائمة على كثرة فقهاء السلاطين الجاهزين لتقديم التفسير للنصّ وفق ما يرضي طالبه (زعيمًا كان أو زبونًا أو جمهورًا) وليس وفق ما يقتضي أن يكون عليه التفسير المنسجم مع روح الدستور.
ولقد كان لمجلس القضايا في مجلس شورى الدولة موقف حازم في هذه المسألة عندما قضى بعدم اختصاصه النظر في الطعن بمرسوم دعوة الهيئات الناخبة لكون الصلاحية للمجلس الدستوري (بالرغم من أنّ المجلس الدستوري في تاريخ إصدار الحكم كان معطّلًا بسبب اعتكاف عدد من أعضائه عن حضور الجلسات) وممّا جاء في هذا القرار:” .. أمام حصول بعض التعارض في كلّ من اجتهادي المجلس الدستوري ومجلس الدولة، حرص هذان الأخيران على توضيح صلاحياتهما في إطار الأعمال التمهيدية للإنتخابات النيابيّة، وأنّ الأعمال التمهيدية تعتبر مندمجة بالانتخاب الذي تحضّر له، وأنّ مجلس شورى الدولة يطبّق نظرية توحيد الصـلاحية عند عدم وجود نصّ معاكس، وأنّه لا محلّ للحديث عن فراغ قانوني في المبدأ بوجود هيئة أخرى صالحة، وأنّه لا محلّ للكلام على “امتناع عن إحقاق الحقّ” عندما يكون مرجع آخر (المجلس الدستوري) صالحًا للنظر في الطعن المقدّم هذا فضلًا عن أنّ الخشية من تعارض الأحكام لا تقلّ أهمّية وخطرًا عن مبدأي الفراغ والإمتناع المذكورين أعلاه(قرار رقم 2006/701 -2007 تاريخ 2007/7/18 أنطوان جوزف أوريان/ الدولة اللبنانية – مجلس الوزراء – وزارة الداخلية والبلديات – وزارة المالية).
وكذلك رسمت محكمة التمييز حدودًا لعمل المحقّق العدلي في قضيّة انفجار المرفأ، عندما قبلت طلب ردّ المحقّق العدلي بسبب تجاهله الحصانات المقرّرة في المادة 40 الدستور، فما بالكم لو استمّر بتجاوز حدود اختصاصه وقرّر اتهام أحد الرؤساء أو الوزراء خلافًا لأحكام المادتين 70 و80 من الدستور، فهل يمكن لمحكمة التمييز أن تبدّل اجتهادها وتقرّ للمحقّق العدلي بهذا التجاوز؟
وهنا من المفيد التذكير بمقاطع من قرار محكمة التمييز رقم 2021/5 تاريخ 2021/2/18 الذي جاء فيه: “وحيث إنّ ما ورد في جواب المحقّق العدلي لجهة قوله بعدم التوقّف عن ملاحقة أيّ مسؤول وعدم التوقّف أمام أيّ خطّ أحمر فهو قول في محلّه ويدخل في صميم عمله كمحقّق عدلي يسعى لكشف حقيقة الجرائم التي يحقّق فيها وكشف الفاعلين والمسهمين فيها مهما علا شأن المسؤول الذي يكشفه التحقيق ودون التوقّف عند أيّ خطّ أحمر، ولكن يجب أن يتمّ كلّ ذلك ضمن حدود القانون وبما يحترم الأصول الإجرائية المنصوص عليها قانونًا. وحيث إنّ جواب المحقّق العدلي بأنّه “لن يتوقّف أمام أيّ حصانة” فإنّه يستدعي التدقيق فيه واستخلاص ما يمكن أن يستدلّ منه في ما خصّ ما يدلي به طالبًا النقل لجهة “تعمّد المحقّق العدلي الادعاء عليهما متجاوزًا الحصانة النيابة المقرّرة لهما بموجب المادة 40 من الدستور .
ويتبيّن من الجواب المذكور أنّ المحقّق العدلي يسند موقفه هذا إلى هول الكارثة الإنسانية الناتجة عن الجرائم التي يحقّق فيها، … ونحن نعتبر أنّها بالفعل كارثة ومصيبة إنسانية كبرى عصفت بآلاف المتضرّرين منها، إلّا أنّ حياد القاضي هو في تمسكه بتطبيق القانون وليس في تقصّد مخالفته أو عدم التوقّف عنده ولو كان ذلك وفقًا لعرف القاضي لغايات نبيلة إنسانية”.
بحسب هذا الاجتهاد، فإنّه إذا لم يكن للمحقّق العدلي أن يتجاوز الحصانة المقرّرة في المادة 40 من الدستور، فكيف له أن يتجاوز الاختصاص المحدّد في المادة 80 من الدستور، وكيف سيصدر قراره الاتهامي بإحالة رئيس حكومة أو وزير أمام المجلس العدلي بينما يجب أن تتمّ هذه الإحالة بحسب المادة 80 من الدستور أمام المجلس الأعلى؟
فلقد ورد في المادة 80 من الدستور ما يأتي:”يتألّف المجلس الأعلى ومهمّته محاكمة الرؤساء والوزراء…”.
يبيّن هذا النصّ أنّ من يحاكم الوزراء هو هذا المجلس حصرًا، وبحسب المادة 70 من الدستور فإنّ من يتهم الوزراء هو مجلس النوّاب حصرًا أيضًا، حيث تنصّ المادة 70:”لمجلس النوّاب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم ..”.
وتظهر حصرية اختصاص المجلس النيابي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من خلال تفسير المادة 29 من القانون رقم 13 تاريخ 1990/8/18 التي عالجت مسألة تعدّد المتهمين بحيث أوجبت إحالة الأشخاص غير المنصوص عنهم في المادتين الستين والسبعين من الدستور، الذين يظهر التحقيق تدخّلهم أو اشتراكهم في الجرم إلى المرجع المختص.
وفق هذه المادة، فإنّ الملاحقة في ذات الملفّ تتمّ أمام مرجعين، المجلس الأعلى في ما خصّ ملاحقة الرؤساء والوزراء، والقضاء العدلي المختص في ما خصّ بقيّة المدعى عليهم. ولم يكن جائزًا وفق صراحة هذا النصّ أن نتحدّث عن الولاية الشاملة للقضاء العدلي بمحاكمة الوزراء التي كانت قد اعتمدتها محكمة التمييز في معرض النظر في الطعن بقرار الهيئة الاتهامية التي أقرّت صلاحيتها بملاحقة وزير النفط السابق شاهي برصوميان، وممّا جاء في هذا الحكم:”إنّ الصلاحية المعطاة للمجلس النيابي باتهام الوزراء عن الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليهم ومن ثمَّ محاكمتهم عنها أمام المجلس الأعلى، إنّ هذه الصلاحية ليست إلزامية بل ممكنة، وفي حال استعمالها من قبل المجلس النيابي فإنّها تحجب صلاحية القضاء العادي الذي هو السلطة صاحبة الولاية الشاملة للنظر في كلّ الجرائم التي يوكلُ أمر النظر فيها حصرًا إلى مرجعٍ آخر، وبالتالي يعود إلى هذا القضاء العادي الحقّ والصلاحية والصفة لمباشرة الدعوى العامة ومتابعتها ليس فقط بالنسبة لجرائم الوزراء العادية بل حتّى بالنسبة للجرائم المحدّدة في المادة70 من الدستور، في حال لم يستعمل المجلس النيابي بالأفضلية صلاحياته، كونها واردة في نصٍّ دستوري(محكمة التمييز قرار رقم 99/70 تاريخ 1999/3/24).
إلّا أنّ محكمة الجنايات التي نظرت في هذه القضية، رفضت الأخذ بما قضت به محكمة التمييز وعلّلت سبب رفض هذا القرار بالآتي:” إذا اعتبرت محكمة التمييز في قرارها المؤرّخ في 1999/3/24 أنّ القضاء العدلي صالح للتحقيق مع الوزير واتهامه، فإنّ قرار المحكمة لا يعدو كونه صادرًا في مرحلة التحقيق الابتدائي، وبالتالي لا يقيّد هذه المحكمة التي تضع يدها على الدعوى بوصفها من قضاء الحكم وليس من قضاء التحقيق، أيّ أنّه لا يلزمها، بل يكون عليها أن تعلن عدم اختصاصها إذا تبيّن لها أنّ الأفعال الجرمية المسندة إلى المتهم تدخلُ تبعًا لنوعها في اختصاص محكمة استثنائية هي المجلس الأعلى لمحاكمة رئيس الوزراء والوزراء. وأنّ الدفع بانتفاء الصلاحية رهنٌ بما إذا كانت الأفعال الواردة في قرار الاتهام المشفوع بإدعاء النيابة العامة تندرج في إطار أخطاء الخدمة أيّ الوظيفة أم في إطار الأخطاء الشخصية التي يمكن فصلها ماديًا أو فكريًا عن الوظيفة، فإذا صنِّفت في عداد النوع الأوّل، فلا يكون القضاء العدلي صالحًا للنظر في الدعوى المساقة ضدّ المتهم والعكس بالعكس. وبصرف النظر عن ثبوت الوقائع المبينة آنفاً أو عدمه، يتبيّن منها أنّها متصلة بموجبات المتهم كوزير للنفط وغير منفصلة عنها ماديًا أو فكريًا، وأنّها تدخل في صلب صلاحيته كرئيس للإدارة في وزارته وتندرج ضمن مفهوم الإخلال بالواجبات المترتّبة عليه بالمعنى المقصود في المادة70 من الدستور (قرار محكمة جنايات بيروت تاريخ 2002/12/16).
وكانت قد سبقتها أيضًا، الهيئة العامة لمحكمة التمييز في حسم مسألة تعيين المرجع صاحب الصلاحية لملاحقة الوزراء واعتبرت أنّ الصلاحية هي للمجلس الأعلى واستندت في تعليل موقفها إلى المقاربة بين أحكام المادة70 من الدستور والمادة42 من القانون رقم 90/13 اللتين نصّتا على أنّ للمجلس النيابي حقّ اتهام الوزير بما يمكن أن يرتكبه من أفعال لها الصفة الجزائية بمفهوم قانون العقوبات، وللمجلس الأعلى حقّ محاكمته بموجب هذه الأفعال على أن يتقيّد في هذا الصدد بالوصف القانوني المعتمد وبالعقوبة المقرّرة لهذه الأفعال وفقًا لما هو منصوص عليه في القانون، وأنّ صلاحية المرجعين هي حصرية وخاصة بكلٍّ منهما حاجبةً لصلاحية أيّ مرجعٍ آخر، مقيّدةً فقط بطبيعة الفعل المرتكب ومدى تحقّق صفته كفعلٍ مخلٍّ بالموجبات المرتقبة على رئيس مجلس الوزراء والوزراء، أو صفته كجريمة عادية، الأمر الذي يحول دون إمكان القول عن توافر صلاحية مزدوجة في هذا الصدد للمجلس النيابي وللقضاء الجزائي العادي بالنسبة إلى الفعل نفسه.
وقد وضعت الهيئة العامة لمحكمة التمييز معيارًا موضوعيًا يحدّد الفاصل الذي يفرق بين أفعال يرتكبها الوزير ومؤلّفة لإخلال بالموجبات المترتّبة عليه، وأفعال يرتكبها مؤلّفة لجرائم عادية، بحيث إنّ الأفعال المرتكبة من الوزير التي تشكّل الإخلال بالواجبات المترتّبة عليه والمعنية في المادة 70 من الدستور والخاضعة لاجراءات الملاحقة من قبل المجلس النيابي وللمحاكمة أمام المجلس الأعلى تستمدّ مفهومها من الطبيعة السياسية لعمل الوزير وجوهر مهامه الوزارية كما هي مقرّرة في القوانين والقواعد المرعية، ويفهم بالأفعال المؤلّفة للواجبات المترتّبة على الوزير موضوع المادة 70 من الدستور، الواجبات الداخلة ضمن صلاحيته المتصلة بصورة مباشرة بممارسة مهامه القانونية الوزارية، فلا يدخل في هذا المفهوم وتبقى خاضعة لصلاحية القضاء الجزائي العادي دون مجلس النوّاب باعتبارها جرائم عادية الأفعال الجرمية المرتكبة من الوزير في “معرض ممارسته لمهامه، أو تلك المرتكبة منه في حياته الخاصة، كما لا يدخل في هذا المفهوم أيضًا الأفعال المرتكبة منه ذات الصفة الجرمية الفاضحة التي تؤلّف تحويلًا للسلطة عن طريق إحلال المصلحة الخاصة مكان المصلحة العامة ممّا يمنع بسبب طابعها هذا دون إمكانية وصفها بالأفعال المتصلة بصورة مباشرة بعمل الوزير ومهامه (الهيئة العامة لمحكمة التمييز قرار رقم 2000/7 تاريخ 2000/10/27).
وتمّ تكريس هذا المبدأ في قضيّة وزير الزراعة علي عبدالله حيث ورد في قرار محكمة التمييز:”يقتضي تحديد المقصود “بالواجبات المترتّبة على الوزير وفق المادة 70 من خلال الفقرة الثانية من المادة 66 من الدستور التي تنصّ على أنّه يتولّى الوزراء إدارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين كلّ بما يتعلّق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خصّ به؛ ومن خلال القوانين والقواعد المرعية الإجراء؛ وبالتالي من خلال جوهر مهامه الوزارية والطبيعة السياسية لعمله؛ وجوهر مهام مجلس النوّاب وطبيعة عمله وتحمّل الوزير إفراديًا تبعة أفعاله الشخصية تجاهه؛ والعلّة المنبثقة من هذه الأسس والتي حملت على وضع نصّ خاص واستثنائي يخضع بموجبه الوزير لرقابة هذا المجلس القضائية، فإنّ الواجبات المترتّبة على الوزير والمقصودة في المادة 70 هي تلك الداخلة ضمن صلاحيته والمتعلّقة بصورة مباشرة بممارسة مهامه القانونية الوزارية، دون تلك التي يقوم بها في معرض ممارسته لمهامه، أو تلك المرتكبة منه في حياته الخاصة، أو تلك التي تتسم بالصفة الجرمية الفاضحة التي تشكّل تحويلًا للسلطة عن طريق إحلال المصلحة الخاصة مكان المصلحة العامة ممّا يحول بسبب طابعها هذا، دون إمكانية وصفها بالأفعال المتصلة مباشرة بعمل الوزير ومهامه”.
ورأت المحكمة أن:” كون المادة 70 من الدستور والمادة 18 من القانون رقم 90/13 قد استعملتا عبارة “لمجلس النوّاب” “أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء”… لا يجيز الإستنتاج بأنّ الدستور والقانون المذكور قد نصّا على صلاحية مجلس النوّاب كسلطة ملاحقة على سبيل الإستفاضة أو الاستطراد تاركًا للقضاء العدلي الصلاحية لممارسة تلك الملاحقة بحكم سلطته الشاملة، لاصطدام هذا الإستنتاج بما تقدّم من اعتبارات بالإضافة إلى ما سيلي بيانه منها – علمًا بأنّ استعمال عبارة “لمجلس النواب” يجد تفسيره في كون الدستور، وكذلك المادة 18 قد قصدا من وراء هذه الصياغة، إبقاء الملاحقة وبالتالي المحاكمة، بشأن ارتكاب الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات، خاضعة لتقدير مجلس النوّاب لمدى ملاءمة مثل تلك الملاحقة والمحاكمة وذلك على ضوء مصلحة الدولة العليا والمصلحة العامة فاستعملا صيغة الجواز والخيار وليس صيغة الوجوب، ولا يمكن تحميل هذه الصياغة أكثر من هذا المعنى. وعليه فإنّه لا صلاحية للقضاء الجزائي سواء كسلطة اتهام أم كقضاء حكم، للنظر “بالإخلال” بواجبات الوزير عندما يكون متمثّلًا “بعلّة” ما ولا تتوافر فيه عناصر الجرم الجزائي، وذلك لعدم جواز الملاحقة عند عدم وجود تلك العناصر، ولعدم جواز فرض عقوبة ما لم ينصّ عليها القانون عملًا بمبدأ شرعية العقوبات المكرّس في المادة السادسة من قانون العقوبات – وأنّه ينتج عن ذلك أنّ صلاحية مجلس النوّاب بالاتهام بالإخلال بالواجبات المترتّبة على الوزير هي حصرية سواء أكان الفعل المكوّن للإخلال جرميًا أم لا. وحيث إنّه إذا كان تَرْك الملاحقة لمشيئة مجلس النوّاب يؤدّي عملياً، إلى منح الوزير نوعًا من الحصانة والإمتياز ويجعله بمنأى عن الملاحقة، في حال أحجم هذا المجلس عن مباشرتها، فإنّ ذلك لا يبرّر الخروج على ما قرّره الدستور من ترك الملاحقة خاضعة لتقدير مجلس النوّاب…(محكمة التمييز الجزائية قرار تاريخ 2004/6/7 الوزير السابق علي عبدالله/ الحقّ العام).
إستنادًا لما تقدّم، فإنّ اختصاص المجلس الأعلى مرتبط بكون الفعل المتهم به الوزير يشكلّ إخلالًا بواجباته الوزارية أو خيانةً عظمى، وجاءت محكمة التمييز في قضيّة الوزير شارل رزق لتكرّس هذا التفسير لمعنى الإخلال بالواجبات المحدّد في الأحكام السابقة، فقضت بأنّه:”يقصد “بالواجبات المترتبة على الوزير” المهام الموكلة لهذا الأخير الداخلة ضمن صلاحياته والمتعلّقة بصورة مباشرة بممارسة مهامه القانونية الوزارية بحيث إنّ العمل الذي يقوم به خارج حدود صلاحيته ومهامه أو الذي لا يكون مفروضًا عليه القيام به تنفيذًا لمهامه الوزارية، بل يقدم عليه بدافع من مصلحته الشخصية أو بهدف الإضرار بالغير أثناء أدائه للواجبات المترتّبة عليه وفي معرض ممارسته لمهامه، لا يمكن اعتباره داخلًا ضمن مفهوم الواجبات المعنية في المادة 70 من الدستور أو المادة 18 من القانون رقم 1990/13، بل من قبيل الأفعال الجرمية التي تخضع للملاحقة والمحاكمة أمام القضاء العدلي. وحيث إنّه يتبيّن من مضمون الشكوى المباشرة المقدّمة من المدعي أنّ هذا الأخير ينسب للمستدعي فيها جرائم التحريض على قتله وعلى الإقتتال الطائفي وتعكير الصفاء بين عناصر الأمّة والقدح والذمّ به من خلال الوثيقة التي نشرتها جريدة الجمهورية المأخوذة عن موقع “ويكيليكس” منسوب مضمونها إلى أقوال أدلى بها المستدعي خلال لقاء جمعه بالسفير ف. حول أقوال نسبت إلى المدعي تناول فيها الطائفة السنّية بنعوت…، وحيث إنّه انطلاقًا من المبدأ المشار إليه أعلاه، فإنّ الأفعال المشكو منها المنسوبة إلى المستدعي الدكتور شارل رزق في الشكوى المباشرة، وعلى فرض ثبوتها ونسبتها إليه، لا تندرج في نطاق المهام الوزارية التي كانت موكلة إليه أثناء توليه مهام وزارة العدل، فلا تخضع بالتالي لأحكام المادتين 70 من الدستور و18 من القانون رقم 1990/13 (محكمة التمييز قرار رقم 4 تاريخ 2013/1/3 شارل رزق/عون).
بالمقابل، قضت محكمة التمييز الجزائية أنّ ما نسب إلى المدعى عليه الوزير السابق جان لوي قرداحي من أفعال على فرض صحّة نسبتها إليه هي أفعال قام بها المدعى عليه خلال تولّيه وزارة الاتصالات وبصفته وزيرًا للإتصالات وهي أفعال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمهامه الوزارية والمتعلّقة بتسيير المرفق العام. وحيث إنّ ما نسب إلى المدعى عليه وبمعزلٍ عن التوصيف المعطى من قبل المدعيتين يدخل ضمن إطار الأفعال المتعلّقة بواجبات الوظيفة وإنّ البحث في ما إذا كانت تشكّل إخلالًا بهذه الواجبات يخرج عن صلاحية القضاء العدلي (محكمة التمييز الجزائية قرار رقم 2011/548 تاريخ 2011/12/8 شركة الاتصالات الأميركية وشركة مجموعة الاتصالات الأميركية/ الوزير جان لوي قرداحي).
خلاصة القول، إنّ المحقّق العدلي ليس له صلاحية اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء في قضيّة انفجار مرفأ بيروت، لأنّه في حال صحّة ما نسب إليهم، فإنّه إمّا يكون إهمالًا وظيفيًا وسوء تقدير لاتخاذ الموقف فيدرج ضمن الإخلال بالواجبات، وإمّا يكون قصديًا وفي هذه الحالة، فإنّه يرقى إلى مرتبة الخيانة العظمى، وفي الحالتين، فإنّ الإختصاص يكون للمجلس الأعلى.
وإذا كان قد حصل خلل أو ريبة في إجرءات تحريك الإدعاء أمام هذا المجلس، فإنّ الحلّ وببساطة يتمّ من خلال الضغط لتعديل قانون أصول المحاكمة أمام المجلس الأعلى أو لناحية إلغاء هذا المجلس من خلال تعديلٍ دستوري.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/8/4
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.