ما هي حقيقة الإستقالة والإستيداع في القضاء؟/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
تكاثر الحديث همسًا في أروقة العدلية ومجالسها المغلقة عن توجّه عدد من القضاة إلى تقديم طلبات استيداع إلى مجلس القضاء الأعلى، أو رفع كُتُب بإنهاء خدماتهم في ملاك القضاء العدلي تحديدًا، وذلك هربًا من الوضع الإقتصادي المزري الذي يمرّ لبنان به منذ العام 2020 حيث ضعُفت القيمة الشرائية للعملة الوطنية وفقدت قدرتها على الصمود تجاه الإرتفاع الجنوني للدولار الأميركي، وجموح الغلاء المتفشّي في كلّ المواد الغذائية والإستهلاكية والأدوية وما يحتاجه الإنسان للبقاء على قيد الوجود.
وما لبث هذا الكلام الداخلي أن ظهر إلى خارج العدلية عبر قنوات إعلامية معتمدة لدى قضاة بعضهم معتاد على تسريب محاضر تحقيقات أوّلية خلافًا للقانون وبما يوجب الملاحقة المسلكية والجزائية، وهيئة التفتيش القضائي تتغاضى عن مخالفتهم الصريحة للقانون، وبعضهم لوّح بالإستقالة والإستيداع كلاميًا وشفهيًا، وبعضهم ينتظر ولادة مجلس قضاء أعلى جديد لكي يبادر ويفعل لأنّ الأمر رهن قبوله وهو قلّما يعترض أو لا يوافق، وبعضهم وجد فرصة عمل ممتازة برأيه في دول الخليج العربي ودول أوروبية وأميركية وبرواتب مغرية ماديًا وبات ينتظر موافقة رسمية على تحرّره من الوظيفة القضائية لكي ينطلق في رحلة عمل جديدة إنْ لم يوفّق فيها، يكون قد عاش في بلد يقدّر الإنسان ويعزّز الكرامة الإنسانية على أقلّ تقدير.
ومن حقّ أيّ شخص في أيّ مكان كان ومهما كانت نوعية عمله، أن يفتّش عن مورد رزق أفضل ممّا هو عليه، وذلك أملًا في تحسين مستوى معيشته، خصوصًا وأنّ رواتب شريحة كبيرة من اللبنانيين ومن بينهم القضاة، تُدفع بعملتهم الوطنية، وقد تدنّت قيمتها بشكل كبير عمّا كانت عليه عندما كان صرف الدولار الأميركي الواحد يساوي 1515 ليرة لبنانية، وهي لم تعد تكفي لتقطيع الأيّام العشرة الأولى من كلّ شهر، مهما حاول المرء أن يخفّف من النفقات والمصاريف اليومية ويتخفّف من الأقساط المتوجّبة عليه ويتخلّف عن سدادها بمعنى تأجيلها إلى وقت الفرج، مع الإشارة هنا إلى أنّ رواتب القضاة غير متساوية بطبيعة الحال، وتختلف بين قاض وآخر بحسب درجته، وهم يتقاضون سنويًا ما يقارب رواتب الأربعة شهور من صندوق تعاضد القضاة تضاف إلى رواتبهم الشهرية المعتادة.
غير أنّ دخول العدلية ليس كالخروج منها، إذ إنّ هناك قانونًا واضح النصّ يُفترض بطالبي الإستيداع أن يكونوا على اطلاع كاف عليه لئلّا يكونوا موضوع ملاحقة مسلكية على أقلّ تقدير.
فالإستيداع لا يُطلب اعتباطيًا، ولا يُعطى عشوائيًا، بل وفق شروط محصورة بتحقيق هدفين لا ثالث لهما، وهما: المعالجة الطبّية والصحّية لصاحب العلاقة شخصيًا عند إصابته بحادث جسيم، أو استكمال العلم تحصيلًا لشهادة إضافية أو مكمّلة لما لديه يقوم خلالها بدراسات تتوخّى الإدارة منها نفعًا عامًا، ويعود بها على المصلحة العامة بالنفع العام.
ولا يمكن أن يسمح للقاضي تحت عنوان الإستيداع أن يترك القضاء للعمل خارج لبنان، ومن يُقدم على هذه الخطوة يعرّض نفسه للملاحقة المسلكية أمام هيئة التفتيش القضائي، إذ إنّ أيّ عمل مأجور يُحاسب عليه، وهذا ما لا ينتبه له كثر معتبرين في قرار أنفسهم أنّه بإمكانهم السفر للعمل ولو بصفة قضائية.
كما أنّ المدّة الزمنية للإستيداع ليست مفتوحة، بل محدّدة بين سنة واحدة وثلاث سنوات كحدّ أقصى، فتعطى في المرّة الأولى لسنة واحدة فقط، ثمّ تجدّد مرّتين إذا رغب المعني بذلك وفرضت الضرورات عليه تجديد الإستيداع.
ويترتّب على من ينال موافقة على الإستيداع من مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، خسارة راتبه الشهري ووقف تدرّجه بحيث يتأخّر عن زملائه الذين دخل معهم إلى القضاء، فضلًا عن توقّف حساب التقاعد طوال فترة وجوده خارج الملاك.
وكلّ هذه الآلية موجودة ضمن نظام الموظّفين الصادر بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 10 حزيران من العام 1959 وتعديلاته، ولا سيّما المادة 52 منه التي توضح شروط منح الإستيداع على الشكل التالي:
1- يعتبر الموظّف في الإستيداع عندما يوضع عفوًا أو بناء على طلبه خارج الملاك فينقطع عنه راتبه، ويفقد حقّه في التدرّج وحساب التقاعد طيلة المدّة التي يقضيها خارج الملاك.
2- يوضع الموظّف من الفئة الثانية وما دون في الإستيداع بقرار من الوزير بعد موافقة هيئة مجلس الخدمة المدنية. أمّا موظّفو الفئة الأولى، فيجري وضعهم في الإستيداع بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء بعد موافقة هيئة مجلس الخدمة المدنية.
3- يجوز وضع الموظّف في الإستيداع بناء على طلبه إذا أصيب بحادث جسيم، أو في حالة مرض زوجه أو أحد فروعه، أو لأجل قيامه بدراسات تتوخّى الإدارة منها نفعًا عامًا، شرط ألّا تتجاوز مدّة الإستيداع سنة قابلة للتجديد مرّتين .
4- يجوز وضع الموظّف في الإستيداع عفوًا في الحالات التي ينصّ عليها القانون.
5- على الإدارة المختصة أن تتثّبت من أنّ الموظّف الموضوع في الإستيداع بناء على طلبه، لا يخالف الغاية التي من أجلها وضع في الإستيداع. ولها أن ترجع في أيّ وقت عن قرارها القاضي بالموافقة على طلب الإستيداع.”
وبالنسبة إلى كيفية حصول القاضي على الإستيداع، فإنّه يُقدّم استدعاء بهذا الشأن إلى مجلس القضاء الأعلى لكي ينال موافقته خلال وجوده واجتماعه، وكذلك عند تجديد الوضع في الإستيداع، ثمّ تجهّز وزارة العدل مرسومًا كون القضاة من موظّفي الفئة الأولى، يتضمّن البناءات المطلوبة وتحديد اسم القاضي والغاية من الإستدعاء، ويوقّعه وزير العدل ووزير المالية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية وينشر في الجريدة الرسمية.
وسبق لعدد لا بأس به من القضاة في فترات زمنية مختلفة، أن وضعوا أنفسهم في الإستيداع بناء لطلبهم لمتابعة الدراسة في الخارج ووضع دراسات تفيد المصلحة العامة، والمشاركة في أحد برامج الدراسات العليا في العلوم القانونية والقضائية، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: علا رمضان، ربيع معلوف، كارول جعارة، ندين جرمانوس.
وعند انتهاء مدّة استيداع القاضي الرامي إلى القيام بدراسة تتوخّى الإدارة منها نفعًا عامًا، يعاد حتمًا إلى وظيفته الأصلية إذا كانت شاغرة، وإلّا فإنّه يعيّن في مركز يماثلها فئة، وإذا ما عُرضت عليه وظيفة أقلّ مع الإبقاء على راتبه الأصلي ورفضها يحال على التقاعد أو يصرف من الخدمة بحسب منطوق المادتين 51 و 53 من نظام الموظّفين المذكور آنفًا.
ولا يمكن لرئيس مجلس القضاء الأعلى أن يبتّ منفردًا بأيّ استدعاء يتضمّن طلب وضع في الإستيداع، أو طلب إنهاء الخدمة(الإستقالة)، بعكس ما يمكنه أن يفعله بصفته الرئيس الأوّل لمحاكم التمييز، فالشخص واحد ولكنّ الصلاحيات متفاوتة، والأمر يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء مجتمعًا، وحاليًا لا يوجد مجلس قضاء بعدما انتهت ولاية المجلس السابق في 28 أيّار من العام 2021، ممّا يعني أنّ كلّ كلام عن استقالات واستيداع في القضاء في الوقت الراهن، والإصرار على نشره في وسائل الإعلام بين الفينة والفينة، يصبّ في خانة التهويل بانتفاخ الإنهيار المنتشر في كلّ القطاعات في لبنان، وليس من مصلحة الشعب اللبناني أن ينهار القضاءُ ويتفكّك، لأنّه مؤشّر على فقدان الأمل بعودة الروح إلى جسد الوطن.
“محكمة” – الإثنين في 2021/9/13
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.