تعليق على قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز باعتبار محكمة التمييز مختصة للنظر بطلب ردّ المحقّق العدلي/هادي خليفة
بقلم المحامي هادي خليفة:
بمعرض النظر بطلب تعيين المرجع المختص للبتّ بطلب ردّ قاضي التحقيق العدلي المقدّم من وزيرين سابقين مدعى عليهما بجريمة انفجار مرفأ بيروت الواقعة في 4 آب 2020 – والمحالة أمام المجلس العدلي – أصدرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بتاريخ 2021/11/25 القرار رقم 2021/38 موضوع هذا التعليق،
أتى هذا القرار خارج السياق القانوني المطلوب من أعلى مرجع قضائي في لبنان وبشكل يمكن وصفه بالفتوى القضائية أكثر منه بالإجتهاد القضائي ، وهو لا يجوز إعتماده في النظام الحقوقي والقضائي في لبنان.
فإنطلاقًا من ذلك،
فإنّني سوف أتناول في معرض هذا التعليق الأسس القانونية التي كان على الهيئة العامة لمحكمة التمييز الوقوف عندها في طلب تعيين المرجع المقدّم أمامها.
في ظاهرة غريبة عن أصول حقّ التقاضي، إنهالت على المحاكم طلبات ردّ لعلّة الإرتياب المشروع ضدّ قاضي التحقيق العدلي المعيّن كمحقّق عدلي للتحقيق بجريمة العصر بعد أن تمّ تعيينه بقرار صادر عن وزيرة العدل بالتوافق مع مجلس القضاء الأعلى سنداً للفقرة الأخيرة من المادة 360 أ.م.ج، وقدّمت هذه الطلبات من قبل عدد من المدعى عليهم الملاحقين في جريمة إنفجار مرفأ بيروت الذين كانوا أعضاءً في السلطة التنفيذية وهم رئيس حكومة ووزراء.
كان الهدف الوحيد من كثافة هذه الطلبات كفّ يد قاضي التحقيق العدلي عن متابعة السير بالدعوى العامة وعن إجراء التحقيقات والإستجوابات اللازمة ، بعد أن تماهت النيابة العامة التمييزية مع هذه الطلبات خلافاً للمهام المناطة بها في جريمة مسّت أمن الدولة.
أصدرت المحاكم الناظرة في طلبات ردّ المحقق العدلي تباعاً قرارات قضت بردّ تلك الطلبات سواء لعلّة عدم الإختصاص النوعي للنظر بها أو لعلّة أنّ قاضي التحقيق العدلي لا يدخل ضمن فئة قضاة محكمة التمييز كي يعود للمحكمة العليا أمر النظر بها.
إثر صدور تلك القرارات القضائية التي حسمت بصورة قاطعة عدم إمكانية النظر بطلبات ردّ قاضي التحقيق العدلي لوجود فراغ تشريعي يحول بدون عقد إختصاص أي مرجع قضائي تكون له الولاية القضائية للنظر بتلك الطلبات، تقدّم بتاريخ 2021/10/27 كلّ من الوزيرين السابقين المدعى عليهما في جريمة إنفجار مرفأ بيروت غازي زعيتر وعلي حسن خليل بطلب أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز يطلبان فيه تعيين المرجع القضائي للنظر بطلب ردّ قاضي التحقيق العدلي،
وتقدّمت النيابة العامة التمييزية بتاريخ 2021/11/9 بمطالعتها في طلب تعيين المرجع وطلبت إعتبار المجلس العدلي هو صاحب الإختصاص للنظر بطلبات الردّ المقدّمة ضدّ قاضي التحقيق العدلي.
قبلت الهيئة العامة لمحكمة التمييز طلب تعيين المرجع في الشكل بعد أن قاربت مسألة الردّ وكأنها تنظر في دعوى نزاعية لتحديد الإختصاص بين محكمتين، وأغفلت مقاربة طلبات ردّ القضاة من باب الخصوصية الكاملة التي تطغى على مدى قبول هذه الطلبات ، لاسيما وأنّ طلبات ردّ القضاة تتعلق بشخص القاضي المشكو منه، وإنّ النصوص القانونية الواردة في قانون أصول المحاكمات المدنية المتعلّقة بطلبات الردّ أعطت الإختصاص الحصري compétence exclusive لمحكمة الإستئناف للنظر بطلبات ردّ قضاة محاكم الدرجة الأولى وقضاة محكمة الإستئناف بمن فيهم قضاة النيابة العامة الإستئنافية وقضاة التحقيق، ولمحكمة التمييز للنظر حصراً بطلبات ردّ قضاة هذه المحكمة بمن فيهم قضاة النيابة العامة التمييزية،
كما أنّ الهيئة العامة أغفلت أن النصوص القانونية المتعلّقة بطلبات ردّ القضاة يجب تطبيقها بصورة ضيقة جداً étroite- بدون جواز توسيع نطاقها حرصاً على إستقرار المرفق العام القضائي، لاسيما وأن القرارات التي تصدر تبعاً لها، لها مفعول إنشائي – effet constitutif – وليس إعلانياً déclaratif وهي غير خاضعة لأي طريق من طرق الطعن، وتخضع المحاكمة فيها لأصول قانونية غير عادية تطغى فيها الإجراءات المختصرة procédures abrégées –
لم تتوقّف الهيئة العامة لمحكمة التمييز أمام هذه المرتكزات القانونية عند قبولها شكلاً الطلب المقدّم أمامها في حين كان يجب عليها ردّه لهذه الجهة.
أفرغت الهيئة العامة لمحكمة التمييز مُصدرة القرار موضوع هذا التعليق القرارات الصادرة عن كل من محكمتي الإستئناف والتمييز من مضمونها عند قبولها طلب تعيين المرجع في الأساس بعد أن أفتـت بأن قاضي التحقيق العدلي هو قاضٍ من قضاة محكمة التمييز بعد اعتمادها المقارنة بين القضاة الذين يتشكّـل منهم المجلس العدلي وقاضي التحقيق العدلي بعد إسنادها هذه الفتوى الى المادة 357 أ.م.ج لتصل الى ان قاضي التحقيق العدلي هو قاضٍ من قضاة المحكمة العليا،
خلافـاً لهـذه النتيجـة،
فإنّ المادة 357 أ.م.ج حدّدت بصورة واضحة لا لبس فيها بأنّ القضاة الذين يؤلّفون أعضاء المجلس العدلي هم من قضاة محكمة التمييز،
في حيـن،
أنّ المادة 360 أ.م.ج التي تناولت كيفية تعيين المحقق العدلي لم تربط هذا التعيين برتبة قضائية معينة يقتضي أن ينتمي اليها المحقق العدلي، وبالتالي يمكن تعيين المحقق العدلي من بين قضاة مختلف درجات المحاكم لدى القضاء العدلي، كما يمكن تعيينه من بين القضاة العدليين التابعين لإحدى الأجهزة التابعة لوزارة العدل، فلا يمكن تالياً إعتبار أنّ هذا التعيين يجعل من القاضي المعيّن كمحقق عدلي من قضاة المحكمة العليا على خلاف ما ذهب اليه القرار موضوع هذا التعليق.
وعليه،
وعوض أن تجاهر علناً الهيئة العامة بأن الفراغ التشريعي الواقع في النظر بطلب ردّ المحقّق العدلي هو سيد الموقف ويحجب عنها أمر النظر بطلب تعيين المرجع، فضّلت اللجوء الى فتوى لا أساس قانونيًا لها عبر إسقاط رتبة قضائية على المحقق العدلي لم يمنحه إياها القانون، فتكون الهيئة العامة بقرارها موضوع هذا التعليق قد أحلّت نفسها مكان المشرّع ، وأتى قرارها بالتالي مخالفاً لمبدأ فصل السلطات المنصوص عنه في الدستور، وهو أمر فيه من الخطورة إذا تمّ إعتماده كوسيلة متاحة فيصبح للمشرّع الحق بإصدار القوانين الإعتدائية على الأحكام والقرارات القضائية وعندها تتحلّـل بصورة نهائية بقايا مفهوم دولة القانون في لبنـان.
“محكمة” – الأحد في 2021/11/28