الوزير المرتضى: لا سبيل إلى قيادة سفينة الوطن إلى شواطئ السلام إلاّ بتحقيق العدالة الموضوعية
أكّد وزير الثقافة القاضي محمّد وسام المرتضى أن “لا سبيل إلى قيادة سفينة الوطن إلى شواطئ السلام والأمان والعِزّة والاستقامة إلا بتحقيق العدالة الموضوعية غير المعتورة بتسييس أو المشوبة باستنسابية أو الموصومة بخرق الأحكام القانونية والدستورية”، مشدّدًا على” أننا لن نتهاون في بذل ما يؤول إلى حفظ المسيرة الوطنية، بالعمل على تسديد المسار بيراع الحق والموقف الثابت الصلب الذي لا تراجع عنه ولا تبديل فيه.”
كلام المرتضى جاء خلال حفل افتتاح متحف المطران عصام درويش في زحلة اليوم.
وهنا النصّ الحرفي لكلمة الوزير القاضي المرتضى:
“فخامةُ السيّدة الأولى منى الهراوي، راعيةُ الثقافة، المسكونةُ على الدوام بهمّين متلازمين: حفظِ الوحدة الوطنية والحرصِ على صورةِ لبنان الحضارية،
سعادة السفراء،
معالي العطاء الذي لا ينضُبْ، السيّدة ليلى الصلح حمادة، التي تحمل بصمتٍ أحمالًا ثقالًا ليبقى “ميثاقُ الرياض” سدًّا صامدًا في وجه أعاصير الشرذمة والتقوقع، ويستمرَّ “إباءُ الماجد” مزروعاً فينا فلا تنال منا كلُّ محاولات التجويع والتطويع والتركيع والتطبيع،
سيدنا المطران درويش، المنهلُ العذب الكثيرُ العطاء، المدرسةُ التي وحّدَت ثالوثًا أرضيًّا هو: تثبيتُ الإيمان المسيحي، وحفظُ الهوية العربية، وصونُ مبدأ العيش سويًّا؛ والأنموذج الذي علّم بالعمل، كيف تكون مواجهةُ تحديّات الواقع الراهن، وسبرُ أغوار الموروثِ وتظهيرُه مُتحفًا- مَعْلَمًا، تتطلّعُ الأجيالُ منه إلى مستقبل مشرقي بهيّ،
سيدنا المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، الذي ثنّى في اسمه الإبراهيميةَ الجامعةَ إليها المؤمنين برسالة التوحيد كافةً، فنحن كلنا يا أحبةُ ابراهيميون. وكلُّنا نرتجي بل نثقُ بأن المطران الجديد كسلفه مسكونٌ بإقصاءِ ما يفرّق، وبالاجتماع حول كنه الرسالة السماوية الأم (رسالة سيدنا إبراهيم) التي هدفُها عبادةُ الله الواحد ورحمةُ الإنسان ِلأخيه الإنسان وحُبُّه واللطفُ به. فما الفرق يا أحبةُ بين المؤمنين الإبراهيميين المسلمين والمسيحيين سوى “فرق أحد المتكاملين مع الآخر” كما يروي المطران خضر عن الإمام الصدر…. دعاؤنا لكم يا سيدّنا وآمالنا معقودة عليكم بأن يوفقكم الله إلى الربط العضوي بين الدعوة الدينية والاستمساك بالوحدة الوطنية وخدمة الفقراء ودفعِ الظالمين، وهذا هو جوهر الرعاية الروحية كما قال المسيح: “لأنكم فعلتم هكذا بأحدِ إخوتي هؤلاء الاصاغر، فبي فعلتم”.
أصحاب السعادة،
أيها الحضور الكرام،
هو الشرقُ كلُّه متحفٌ لأوابدِ التاريخ، ومجتمَعٌ لخلاصاتِ الحضارات التي انصهَرَتْ معًا في مِرجَلِ العصور، حتى انتهَتْ إلينا اليومَ، أو نحن انتهَينا إليها، كما هي، بلادًا وشَعْبًا وثقافةً وأنماطَ عيش. كلُّ شيءٍ فينا بَضْعةٌ من الماضي الذي يبقى حيًّا على صورةٍ ما، وإنِ اختلفَتْ تجلّياتُه وطرائقُ التعبير عنه من زمنٍ إلى زمن.
وهذا السهلُ البقاعي الفسيح الذي تكوَّنَ من انشقاق الجبال طبيعيًّا إلى سلسلتين غربيةٍ وشرقية، تجاوزَ في دوره كلَّ فالقٍ جيولوجي، فصار للبشرِ صفحةَ خصْبٍ وديوانَ لقاء، جمع الشرق إلى الغرب، فإذا هو أهراءُ روما وبيتُ مَقْدِسِها، منه تتزوَّدُ وفيه تتعبَّد.
خواطرُ شتّى تسرَّبَتْ عفوًا إلى الذاكرة، غَداةَ تلقيتُ الدعوةَ إلى هذا الاحتفال. تجمَّعَتْ هكذا، كما تتجمعُ أشياءُ المتاحف من كلِّ صوب، أَخْذًا بهذه المناسبة الغالية على قلبي التي أُعلن فيها أمامكم وأمام الملأ إدراج متحف المطران عصام درويش على اللائحة الرسمية للمتاحف في لبنان لما فيه من غنى ولما له من رمزية. والحقيقة أنَّ من صُلْبِ واجبات الدولة أن تُسهم في حفظِ التراثِ الخاص لكلِّ مجموعة من مجموعاتها الوطنية، باعتباره في المحصِّلةِ تراثًا عامًّا يغتني به الوطن بكامل أطيافه، كما تغتني به الثقافةُ الإنسانية في الحاضر والمستقبل. ذلك أنَّ المتاحفَ تؤبِّدُ الزمنَ الفائتَ غيرَ المتجسّمِ، على شكلِ محسوساتٍ تلمسُها الأيدي وتراها العيون. فإذا جاء زائرو هذا المتحف، في الآتيات من السنوات والعقود والقرون، ليشاهدوا ما فيه من أيقونات قديمة، وأوانٍ كنسية، وثيابٍ كهنوتية، وكتبٍ طقسية، وسوى ذلك من المحتويات، فإنهم لا بدَّ مُسترجِعون بحواسِّهم فعلَ القداسة في الشعب المؤمن؛ وأساليبَه في العيش والصلاةِ وممارسة الفرائض. هكذا يصبح الغابرُ قَيدَ الآتي، ويظلُّ حيًّا ما بقيت الحياة، ميراثُ بيزنطية الديني الذي احتضنَتْه منذ العام 1727 للميلاد، زحلَةُ ومطرانيتُها للروم الملكيين الكاثوليك.
على أنَّ الثقافة التي سينشرُها هذا المتحفُ ليست في تأبيد الزمن القديم فحسب، بل في حركيَّةِ المعرفة المتطورة نحو الأمام. إنْ كانت الأواني المعروضةُ فيه ثابتةً لا تتبدل، باعتبارها تخصُّ الماضي، فإنَّ المكتبة الإلكترونية الملحقةَ به تشكِّلُ تطلعًا دائمًا إلى مواكبة التطور المعرفي، وتقاطعًا مع الغدِ في مقاربة الثقافة الحديثةِ وآلياتِها الرقمية. من هنا يصبح لهذا الموضعِ وظيفتان: حمايةُ الماضي وصناعةُ المستقبل.
والدورُ الذي لعِبته طائفةُ الروم الملكيين الكاثوليك في لبنان والشرق، يندرجُ بعامةٍ في هذا السياق. فليس لأحد أن يطمس الدور الأساس للبطريرك مغبغب في نشأة الكيان، فالطمس جحود ونسألك اللهم أن لا تجعلنا من الجاحدين… أما القيمون على شؤونِ هذه الطائفة الدينية من البطاركة المتعاقبين والأساقفة الأجلّاء، كصاحبَي السيادة المطران عصام درويش وخَلَفِه المطران ابراهيم ابراهيم، فهم على الدوام رعاةٌ ساهرون على ثبات أبنائهم، وبخاصةٍ الشبيبةِ منهم، في إيمانهم وقيمِهم وأرضهم، وعاملون بلا هوادةٍ على تنشئتِهم تنشئةً وطنية جامعة، كضمانةٍ لتجذّر مفاهيم العيش سويًّا في زحلة والبقاع لدى جميع المواطنين دون استثناء، باختلاف انتماءاتهم، فهذا هو بالحقيقةِ ما ينبغي له أن يبقى عنوان لبنان. وعلى النهجِ نفسِه سار أبناء هذه الطائفة، منذ ما قبل الاستقلال حتى اليوم، في أداءِ أفضل الأدوار البنّاءة في الحياة السياسية والإدارية والقضائية والوطنية. من هنا يصير هذا المتحفُ جامعًا للقيم اللبنانية الأصيلة، بمقدار ما يجمع من تراثٍ بيزنطي مقدّس. فبوركت جهود المطران درويش في ما فعل، وبوركت جهود المطران ابراهيم في ما سيفعل، وهنيئًا لجميع القيادات والمواطنين في زحلة بهذا المتحفِ ذاكرةِ الكنيسة… والوطن.
أيُّها الأحبة:
دعوني في هذا المحضر المبارك أدخلُ من بوابة الشعر إلى رحاب الوطن وميادين عدالته واستقامته واستمراريته…
يقول حليم دَمّوس:
إلى من أهملوا الحق المضاعا أُسدّد نحوهم هذا اليراعا
أرى وطنًا تهدده الليالي كبيتٍ في العواصف قد تداعى
وما الباني على رملٍ بناءً كمن يبني على صخرٍ قلاعا
وكل سفينة بالركب تنجو إذا رُبانُها حرس الشراعا
نحن في سفينة الوطن التي إن رضيَ بعضنا أن تُخرق فسنغرق جميعًا، وإن ارتضينا أن نحميها فحق حمايتها واجبٌ على الجميع، وأرى أن ربابنة سفينة الوطن هم القضاة، والمثقفون والمفكرون.. وأهل السياسة أيضًا، فليس صحيحًا أن المسؤولية تُلقى على عاتق فئة دون أخرى: “كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته” كما في الحديث الشريف؛ فنحن إذًا جميعُنا مسؤولون عن قيادة هذه السفينة إلى شواطئ السلام والأمان والعِزّة والاستقامة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحقيق العدالة الموضوعية غير المعتورة بتسييس أو المشوبة باستنسابية أو الموصومة بخرق الأحكام القانونية والدستورية؛ العدالة تُحقّ الحق وتثلج قلوب المكلومين، أما مستغلّوا النكبات سبيلاً لتحقيق المكتسبات فالعدل والعدالة منهم براء فكيف هو الحال اذا كانت أعمالهم تصبُّ في مصلحة من يريدون شق عصا وحدةِ الوطن ولحمةِ طوائفه ومكوناته؟ لذلك أوكّد أمامكم أننا لن نتهاون في بذل ما يؤول إلى حفظ المسيرة الوطنية، بالعمل على تسديد المسار بيراع الحق والموقف الثابت الصلب الذي لا تراجع عنه ولا تبديل فيه.
أيها السيدات والسادة.
حوصرت زحلَة فصمدت ثم قامت ونفضت عنها غبار الحصار وما رافقه من موتٍ ومآسٍ ودمار، وها هي أبيّةٌ بهيّة. وزحلَة فرعٌ من أصلٍ هو لبنان، الذي سيتجاوز مثلها الحصار المفروض عليه وينهض أبيًّا بهيًّا قويًّا، عربيًّا مشرقيًّا، مسلمًا ومسيحيًّا، رسالةً ثقافيةً وحضاريةً للإنسانية جمعاء والأهم درسًا لأعداء الإنسانية بأن هذا البلد هو وقف الله وحصن الإيمان به…. وبأننا لسنا قبائل ونرفض أن نتحول إلى قبائل… وبأننا أصحابُ ميثاقٍ وعهدٍ بأن يحفظ كلٌّ منا الآخر في كينونته وإيمانه، وأن نجهد جميعُنا كي لا ينال منا حقدٌ أو مكرٌ أو حبائل.
وقبل ختام كلمتي تعالوا نتذكر معًا تلك الأغنية الجميلة التي أصبحت بمنزلة نشيد زحليٍّ رسمي: “زحلة يا دار السلام فيكي مربى الأسودي”. إنني من هنا من عروس البقاع، أدعو بصراحة كاملة إلى اعتماد هذه الأغنية شعارًا لكلّ لبنان، فإننا نريد لوطننا لبنان أن يكون كما هو مضمونها… دارَ سلامٍ لأبنائه ولمريدي السلام وعرينَ أسودٍ جاهزين ومجهّزين للدفاع عنه في وجه كلّ اعتداء يتعرضُ له من أعداء الإنسانية المتربصين صهاينةً كانوا أم تكفيريين.
عشتم ، عاشت زحلة ، وعاش لبنان.”
“محكمة” – الثلاثاء في 2021/12/28