عندما ينقل قضاة”العسكرية” مفردات خاطئة إلى القضاء العدلي: “جرم الفرار” نموذجاً
كتب علي الموسوي:
ينقل بعض القضاة العدليين العاملين في القضاء العسكري الإستثنائي عند إعادتهم إلى القضاء العادي ضمن تشكيلات ومناقلات شاملة أو جزئية، أو فردية، عدوى مفردات وجرائم خاصة بالعسكريين إلى أيّ مؤسّسة عسكرية أو أمنية انتموا، وواردة بشكل صريح، في قانون القضاء العسكري ومعاقب عليها في هذا القانون، ويحاولون ربّما من دون انتباه، تطبيقها على المدنيين الملاحقين أمام القضاء العدلي أو المتقاضين في الدعاوى التي يمكن أن يكونوا طرفاً فيها بغضّ النظر عن صحّة الجرم وثبوته، أو عدم وجوده في الأساس.
فلم يأت قانون العقوبات اللبناني على ذكر أيّ نصّ يتعلّق بالفرار، وتحديد العقوبة المناسبة، لأنّه لا يوجد في الأصل جرمٌ إسمه فرار، وهو فعل يأتيه العسكريون والأمنيون لأسباب ودواع خاصة بهم، إذ يقومون بترك ثكناتهم والوحدات العسكرية التابعين لها بغفلة عن مرؤوسيهم والمسؤولين عنهم ويتوارون عن الأنظار داخل البلاد أو خارجها، ممّا يجعلهم قيد الملاحقة أمام القضاء العسكري لارتكابهم أحد جرائم التملّص من الواجبات العسكرية وفقاً لمنطوق المواد 108 وما يليها لغاية المادة 119 من قانون القضاء العسكري، وهي كلّها تتحدّث عن مسألة الفرار، والعسكري الفار، والمتعاونين معه، والعقوبة السجنية التي يستحقّها بمفرده أو مع آخرين، لقاء إتيان هذا الفعل الجرمي الذي يمسّ بالهيبة العسكرية ومكانتها وعقيدة الدفاع عن الوطن.
أمّا المواطن المدني المنخرط في عمل أو وظيفة رسمية أو لدى القطاع الخاص، فلا يعتبر تركُهُ لهذا العمل وعدم رجوعه إليه، سواء أكان برضاه أو قسراً، فراراً، وليس من حقّ النيابة العامة الاستئنافية أن تجعله جرماً جزائياً يعاقب عليه القانون، كما أنّه ليس من حقّها أن تسميه فراراً، أو تطلق عليه هذه التسمية المبالغ فيها، على غرار ما فعل النائب العام الاستئنافي في بيروت سابقاً القاضي جوزف معماري خلال فترة تولّيه مسؤوليته القضائية المذكورة، إذ طلب إصدار بلاغ إداري بـ”جرم فرار” بحقّ عاملة أجنبية هربت من منزل مخدومها.
فقد كانت المديرية العامة للأمن العام تدوّن “محضر ضبط” بفحوى تحقيق حول ادعاء كفيل بفرار خادمته الفيليبينية بموجب إحالة من النيابة العامة الاستئنافية في بيروت في 13 آب من العام 2009، وبعد ضبط إفادة الكفيل الذي تقدّم بشكواهُ رفْعاً للمسؤولية، إتصل القائم بالتحقيق، وهو ضابط عدلي مساعد للنائب العام الاستئنافي في بيروت، بهذه النيابة بشخص القاضي جوزف معماري، وأطلعه على تفاصيل الموضوع، فأشار عليه الأخير بـ”ختم المحضر، وترك أمر البتّ بوضع إقامة الخادمة لمدير عام الأمن العام، وإصدار بلاغ إداري بحقّها بجرم فرار”.
وليس خافياً على أحد أنّ فرار هذه العاملة الأجنبية من منزل مخدومها لا يشبه فرار العسكري من خدمته العسكرية، ولا يمكن بأيّ حال إعطاء وضعها، وإن حمل في طيّاته خطأ ما، الوصف الجرمي نفسه لما قد يرتكبه عسكري يترك قطعته العسكرية، فرحيلها عن المنزل تحت عباءة الفرار، ليس جرماً يعاقب عليه قانون العقوبات اللبناني الذي لم يأت في كلّ مواده وأحكامه وأبوابه وفصوله والجنايات والجنح المنشورة فيه، على ذكر عبارة “فرار”، ممّا يدلّل على انتفاء هذا الجرم أصلاً وإلاّ كان المشرّع قد أورده في سياق الجرائم المعاقب عليها.
وترك العامل الأجنبي أو العاملة الأجنبية منزل المخدوم، ومهما كانت المسوّغات والأسباب، لا يعتبر جرماً جزائياً يعاقب عليه قانون العقوبات اللبناني، وذلك لانتفاء النصّ القانوني كلّياً الذي يقول بوجود جرم فرار، ولا يمكن للنيابة العامة إنشاء جرم وإلباسه للناس.
يذكر أنّ القاضي جوزف معماري كان يشغل منصب معاون مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة قبل نقله بموجب تشكيلات قضائية إلى منصب نائب عام إستئنافي في بيروت خلفاً للقاضي عبدالله بيطار، ويبدو أنّه من شدّة تأثّره بما مرّ عليه من حالات فرار عسكريين، والادعاء عليهم بهذه الجنحة، إعتقد خاطئاً أنّ الفرار جرم يطاول المدنيين أيضاً، ويمكن، بالتالي، تطبيقه على كلّ حالة فرار، ومنها فرار عاملة أجنبية من منزل صاحب العمل.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 13 – كانون الثاني 2017).