النقيبة القوّال في حفل تأبين القاضي عبد اللطيف الحسيني: أرشَّ على ذكراه شيئًا من ماء الزّهرِ الطرابلسي
النقيبة ماري تراز القوال*:
في عالمِ القضاة مقولةٌ يردِّدُها جُلُّهم: أن الواحدَ منهم يأتي إلى طرابلسَ عن غيرِ رِضًى، ويغادرُها على كَرْه. ذلك أن في المدينةِ، بل في الشّمالِ كلّه، سحرًا إنسانيًّا ينسكبُ على القلوبِ والخلجات، فإذا القادمُ من بعيدٍ، نزيلُ قُربى وصاحبُ دار، وفردٌ من عائلة صغيرة تضم من القضاة ما دون الخمسين، ومن المحامين أكثر بكثير، فينعقدُ ما ينعقدُ من الأخُوَّةِ والصداقاتِ، على مرضاةِ الحقِّ واحترام التحفظ. إنه الاجتهادُ الأول الذي يكتبُه كلُّ قاضٍ يأتي إلى الشّمال، والمصنَّفُ الأخيرُ الذي يحملُه معه، أو يتركُه خلفَه، حين يغادرُ إلى التقاعدِ أو إلى مناصبَ أخرى.
هذا الكلامُ يا سادتي… ليس لي. لكنه خلاصةُ ما سمعتُه من الرئيس عبد اللطيف الحسيني، صبيحةَ التقَيْنا مصادفةً على مدخلِ نقابةِ المحامينَ في طرابلس، منذ مدةٍ غيرِ بعيدة. دار الحديثُ بيننا وقوفًا عند البوابة الخارجية، إذ كان يستعجل الرجوع إلى بيروت لانشغالاتٍ لم يبُحْ بها. لَوَدِدْتُ حين بَلغَني نَعِيُّهُ، لَوَ انّني أكثَرْتُ من الإصرارِ عليه يومذاك بالبقاء؛ فلقد مضّني أن ينقضي في شِبْهِ طَرْفةِ عين، موعدُنا الأخيرُ غيرُ المرتقَب، وإن كانت ستبقى محفورةً في البال طويلًا طويلًا، تلك الدماثة المنسكبةُ من شفتَيْه… انسكابَ العدالةِ من توقيعه على القرارات والأحكام ومضبطات الاتهام.
في تشرين الثاني من العام 2010، انتُخِبْتُ إلى عضويةِ مجلس النقابة بجانب النقيب الحبيب بسام الداية، وكان الرئيس الحسيني قد غادر رئاستَه الأولى في طرابلس، مُخْليًا مركزَه لخلفِه الرئيس الصديق رضا رعد. والرئيس الأول عندنا مع النقيب، هما اللذان يرعيان علاقاتِ القضاء بالمحاماة، في كل ما يعتريها. فما كان لي والحالةُ هذه أن أعيشَ شخصيًّا أبعادَ تلك العلاقات معه على صعيد العمل النقابي. لذلك لن أَشْغَلَ هذا المنبر بأداءِ شهادةٍ عنه بالسَّماعِ، لا يُبيحُها القانونُ أصلًا، في الوقت الذي سمعتم فيه شهاداتِ عَيانٍ أجمعَتْ على مناقبِه. أنا هنا لأمرٍ واحدٍ فقط: أن أرشَّ على ذكراه شيئًا من ماء الزّهرِ الطرابلسي؛ وبعضًا من شذا الأرزِ في أعالي جرحه المفتوح على جانبَي قرنتِه السوداء، حيثُ اتّشحَ الأبيضُ بالأحمر منذ أيام، ومَسْحةَ زيتٍ من كورةٍ “بها الزيتونُ صَومَعَةُ الدَّهْرِ”، وانحناءةَ ظلٍّ باكٍ من الضنيّةِ إلى المنية، وخضرةً من أقاصي عكارَ المنسِيّةِ في حِضْنِ الحِرمان، وغمامةَ صيفٍ من سماء إهدن، وغُصّةَ ليمونٍ من البترون. أنا هنا بكلِّ هذا الميراث الشِّمالي، لأعلنَ بأعلى حناجرِ الوفاء أن عبد اللطيف الحسيني، كان واحدًا من أهل تلك الأرض، في قَيدِ عاطفتِه إن لم يكن في قيدِ نفوسِه، في هواه إن لم يكنْ في هُوِيَّتِه. وأن لبنانَ، إذ يفقدُ وجوهًا قضائيةً مثلَه بالموتِ أو بالتقاعد أو بالاستقالة، يخسرُ وُجهةَ التعافي والخلاص. ولأعلن أيضًا أننا في الوقت عينِه مؤمنون بأن في السلطةِ القضائية أغلبيةً عظمى من ذوي العلم والأخلاق والمناقب، عليهم يُعوِّلُ الناسُ كلُّهم لأن المهابة لا تزالُ تقطرُ من صمتِهم، وصبرِهم على ضَنْكِ الوطن.
فيا أيها الراحلُ العزيز
حزنُ غيابِك يحتلُّ منعطفاتِ الكلام، ولا يتركُ لشَكَاةٍ أخرى أن تزاحمَه الطريق.
لذلك سأصمتُ عن مآسينا الكثيرة، تلك التي لا تنفعُ فيها الخطاباتُ بل الأعمال. ولكن مِن أينَ نأتي بالعمل… والزمنُ الراهنُ للتعطيل؟
على هذه الأرضِ من مَقعدٍ في القضاء سِرْتَ إلى أعلى، ناشرًا حُسْنَياتِكَ اللطيفةَ حيثما حللْت. الآن أنتَ على “مَقْعدِ صِدْقٍ عند مليكٍ مقتدِر”. فسلامٌ عليكَ ورَوْحٌ ورَيْحان.
* ألقت نقيبة المحامين في الشمال ماري تراز القوال هذه الكلمة الرثائية في حفل تأبين القاضي الدكتور عبداللطيف الحسيني اليوم في “بيت المحامي” الملاصق لقصر عدل بيروت.
“محكمة” – الخميس في 2023/7/6