أوقف أربع سنوات بجرم “خمس مناقيش زعتر” ولولا العميد خليل جابر لبقي أكثر/علي الموسوي
المحامي المتدرّج علي الموسوي:
أعان الله من يتمّ توقيفه بجرم ما ولا يجد قاضيًا مسؤولًا وذا ضمير حيّ يقرأ ملفّه ويُمعن النظر في طيّاته وسطوره، فقد يبقى موقوفًا سنوات وسنوات ولا أحد يسأل عنه، ثمّ يخرج في نهاية المطاف ليس بريئًا وحسب، بل مكلّلًا بكفّ التعقّبات لانعدام وجود جرم في الأصل.
هذا ما حصل مع ق.ع.ر. الذي نسب إليه إقدامه على إدخال خمس مناقيش زعتر دسّت المخدّرات في عجينتها، وبقي قيد التوقيف الاحتياطي ورهن المحاكمات إلى أن مثل أمام رئيس المحكمة العسكرية الدائمة العميد الركن الإداري خليل جابر الذي قلّب صفحات الملفّ مرارًا وتكرارًا ومنذ الجلسة الأولى خلال عهده الذي بدأ في شهر آذار 2023، من دون أن يعثر على ما يؤكّد التهمة المنسوبة إلى ق.ع.ر..
لا بل وجد العميد جابر أنّ الملفّ يحتوي على تقرير رسمي صادر عن مكتب المختبرات الجنائية في المباحث العلمية في الشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي يؤكّد بشكل قاطع وحاسم أنّ مناقيش الزعتر الخمسة خالية كلّيًا من أية مواد مخدّرة، فما كان منه إلّا أن سارع على الفور إلى تسريع جلسة المحاكمة على الرغم من أنّ المحامي أصرّ على استدعاء شاهدين! فصرف جابر النظر عن سماعهما لعدم الجدوى ولوجود دليل قاطع بوجوب إعلان كفّ التعقّبات نتيجة انتفاء الجرم.
ماذا في تفاصيل هذه الحادثة الغريبة التي شهدتها المحكمة العسكرية؟
أوقف ق.ع.ر. وأدخل إلى نظارة قصر عدل بيروت ونسب إليه إقدامه بتاريخ 29 أيّار 2019 “على محاولة ترويج المخدّرات ومحاولة إدخالها إلى السجن” نتيجة الإشتباه بخمس مناقيش زعتر. نعم خمس مناقيش. إعتقد من اشتمّ رائحة الزعتر أنّ العجينة محشوة بالمخدّرات. يا له من زعتر خلّاب يفقد الحواس قدراتها. خمس مناقيش حوّلت حياة ق.ع.ر. إلى جحيم جعلته يبقى خلف القضبان أربع سنوات ونيّف، وقد مرّ ملفّه على ضبّاط وقضاة كثر ولم ينتبه أيّ واحد منهم إلى أنّ الملفّ نفسه الذي تتناقله الأيدي يمينًا ويسارًا يحتوي على دليل البراءة وأكثر.
إزاء الاعتقاد بوجود مخدّرات في العجينة من دون وجود سبب مقنع لهذا الإعتقاد ولهذا الوهم المكلف إنسانيًا، أحيلت المضبوطات أو بالأحرى المناقيش الخمسة، إلى مكتب المختبرات الجنائية. كان الزمن يومذاك يشير إلى 7 حزيران 2019، أيّ بعد تسعة أيّام على هذا الاكتشاف العظيم حيث استلم المختبر من مكتب المخدّرات المركزي ” مع التكليف، مغلّفًا ورقيًا مختومًا بالشمع الأحمر وبعد فضّه تبيّن أنّ بداخله خمس مناقيش زعتر موضّبة بأوراق بيضاء ضمن كيس نايلون”.
وأجري التحليل اللازم على المناقيش باستخدام جهاز التحليل الكروماتوغرافي الغازي والموصول بكاشف طيف الكتلة المزدوج(GC-MS-MS) ليتبيّن أنّ المناقيش لا تحتوي على أيّة مواد مخدّرة، وأنّه جرى استهلاك المناقيش خلال إجراء التحاليل المخبرية عليها. ووقّع التقرير ثلاثة أخصائيين في الكيمياء الحياتية والعامة هم: ف.ح.، د.ج.، ع.ع. وأرسلت النتيجة في 24 حزيران 2019 إلى المحكمة العسكرية، وأودعت ملفّ ق.ع.ر. الذي كان يمضي محكوميته في ملفّ آخر لا علاقة له لا بمناقيش زعتر، ولا مناقيش جبنة، ولا مناقيش كشك، أو كوكتيل أو مناقيش لحم بعجين.
أنهى صاحب الحظّ العاثر ق.ع.ر. محكوميته في الملفّ الأوّل في العام 2021، لكنّه بقي أسير سجن رومية بسبب “تهمة” المناقيش غير المخدّرة، وبقي يتنقّل بين السجن وقاعة المحكمة العسكرية كلّما حان موعد المحاكمة مشفوعًا بعدم وجود محام يتابع أحيانًا، وعدم انتباه قاض يقرأ أحيانًا أيضًا خصوصًا وأنّ طلبات إخلاء السبيل جوبهت مرارًا بالرفض، وكالعادة ترفق بعبارة “بالنظر إلى ماهية الجرم!” وهي العبارة الأكثر استسهالًا للتخلّص من “ضخامة الملفّ” مع أنّ مجريات التحقيق هي البوصلة التي تحدّد المسؤوليات إنْ وجدت.
في يوم المحاكمة المشهود. مثل ق.ع.ر. مخفورًا من دون قيد أمام العميد خليل جابر الذي كعادته قرأ الملفّ مليًّا وتهيأ للمحاكمة وإصدار الحكم. سعى المحامي إلى تأجيل الجلسة مصرًّا على سماع شاهدين. لم يستطع العميد جابر أن يتقبّل هذا الإصرار، لا بل لن يقبل ببقاء صاحب الخمس مناقيش مسجونًا نتيجة خطأ ما في التقدير، أو نتيجة “غلطة شاطر وهي بألف”. لم يطاوعه ضميره أن يرجئ المحاكمة. المحامي يشدّد على استدعاء الشاهدين، والعميد جابر يصرّ على ضرورة السير بالمحاكمة من دونهما، إلى أن اتخذ قراره النهائي بصرف النظر عن هذين الشاهدين.
وما هي إلّا دقائق معدودة، حتّى انتقلت هيئة المحكمة إلى غرفة المذاكرة وأصدرت حكمها بكفّ التعقّبات عن ق.ع.ر. لعدم توافر عناصر الجرم المنسوب إليه.
يوم الجمعة الواقع في 20 تشرين الأوّل 2023 يوم عظيم في تاريخ المحكمة العسكرية الدائمة بفضل رئيسها العميد الركن الإداري خليل جابر الذي يدلّل مرّة جديدة على نظرته الإنسانية إلى الملفّات والدعاوى قبل القانون. وهو يوم عظيم أيضًا لذاك المتهم بالمناقيش الخمسة والذي ربّما فقد شهية تذوّقها والاستمتاع بـ”قرمشتها”!
ملاحظة أخيرة لمن يودّ إحضار مناقيش إلى سجن ما، أن ينتبه جيّدًا إلى أنّه لا يوجد دائمًا شخص اسمه خليل جابر يقرأ ويدقّق ويتحمّل مسؤولية ما يفعل!
“محكمة” – الإثنين في 2023/10/23
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.