أبحاث ودراسات

سبق الادعاء الدولي في قضايا الأحوال الشخصية/سماهر برهان

المحامية سماهر برهان الطويل:
إنّ الدفع بسبق الادعاء، هو بمفهومه القانوني دفع إجرائي يؤدّي إلى رد الدعوى في الشكل عندما ترفع نفس القضية أمام محكمتين مختلفتين ومختصتين للفصل بالنزاع، وهذا ما كرّسته المادة 54 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني التالي نصّها:” يتوافر الدفع بسبق الادعاء عندما تقام الدعوى نفسها أمام محكمتين مختلفتين كلتاهما مختصتان بنظرها”. فيكون الهدف من هذا الدفع هو رفع يد محكمة مختصة عن دعوى مقامة أمامها وفق الأصول لأنّ الدعوى نفسها كانت قد أقيمت سابقاً أمام محكمة مختصة أخرى ولا تزال عالقة(1) أمّا شروط الدفع بسبق الادعاء فهي يجب أن تكون الدعوى نفسها عالقة أمام محكمتين مختصتين مختلفتين، ويجب أن تتمتع كل من المحكمتين بالاختصاص الدولي والنوعي والوظيفي والمكاني للنظر في الدعوى المقامة أمامها(2) ويجب أن يكون للدعويان ذات الموضوع والسبب والخصوم، وهذا يعني أنّ الدفع بسبق الادعاء لا يقبل متى كانت كل من الدعويين مسندة إلى سبب مختلف عن الآخر(3).
بالنسبة لأصول تقديم الدفع، بالمبدأ فالمحكمة التي وضعت يدها لاحقاً على النزاع، ترفع يدها عن الدعوى وتحيلها إلى المحكمة الأولى سنداً للمادة 56 أ.م.م.(4) ويجب ألا يكون هناك تنازع على الاختصاص بين هاتين المحكمتين لأننا نصبح أمام حالة مختلفة عن سبق الادعاء ألا وهي تعيين المرجع لتحديد من هي المحكمة المختصة للبت بالنزاع وفقاً لقواعد الاختصاص والصلاحية.
هذه القواعد معمول بها على الصعيد المحلي والداخلي، ولكن ماذا بالنسبة لسبق الادعاء الدولي وخاصّة في قضايا الأحوال الشخصية هل يأخذ به القضاء اللبناني؟
بدايةً، سنتوقف عند المذاهب الأجنبية ونظرتها إلى موضوع سبق الادعاء الدولي، أي إذا دفع المدعى عليه الدعوى بسبق الادعاء أمام محكمة أجنبية، فهل يٌقبل الدفع؟
هناك مذهبان في القوانين الأجنبية، الأول يعتبر أنّ الدفع بسبق الادعاء يقبل ولو كانت الدعوى السابقة أمام محكمة أجنبية، ويأخذ بهذا المذهب كل من القانونين الألماني والسويسري، والثاني يعتبر أنّ سبق الادعاء أمام محكمة أجنبية لا يمنع المحاكم الوطنية من النظر بالدعوى الثانية المقامة أمامها، ويأخذ بهذا المذهب القانون الإيطالي.
وفي فرنسا يأخذ القسم الأكبر من الفقه والإجتهاد بالمذهب الثاني، إلا أن بعض الاجتهاد الفرنسي الحديث أخذ بالمذهب الأول. ولكن القوانين التي تأخذ بالمذهب الأول تشترط أن يكون حكم المحكمة الأجنبية، العالقة أمامها الدعوى السابقة، قابلاً للتنفيذ أمام المحاكم الوطنية أما إذا كان غير قابل للتنفيذ، كما لو كانت هناك معاهدة دولية تعطي المحاكم الوطنية الاختصاص الحصري للنظر بالنزاع، فلا يعتد عندها بسبق الادعاء أمام المحكمة الأجنبية(5).
أمّا بالنسبة للبنان فقد أخذ قسم بالمذهب القائل بعدم قبول الدفع بسبق الادعاء الدولي، وقسم أخذ بنظرية سبق الادعاء الدولي كون المادة 74 من قانون أصول المحاكمات نصّت على التالي: يخضع الإختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية مبدئياً للأحكام المتعلّقة بالإختصاص الداخلي دون تمييز بين لبناني وأجنبي”. وإنّ عبارة “مبدئيا”ً الواردة في نص المادة 74 تركت مجال الإجتهاد مفتوحاً أمام القضاء اللبناني في هذا المجال، ونحن بدورنا سنوضّح ذلك عبر القرارات القضائية الصادرة في هذا الموضوع عن القضاء اللبناني.
في قرار صادر عن الهيئة العامة لمحكمة التمييز تحت الرقم 44 تاريخ 2008/12/15 جاء فيه:
“نظرية سبق الادعاء الدولي لا تسري في مسائل الدفاع أو الدفوع التي تبقى خاضعة لقواعد الإجراءات في دولة ذلك الاختصاص، ولا يوجد في اقامة الدعوى أولاً أمام محكمة أجنبية أو وجود دعوى تحتوي على طلبات متلازمة أمام تلك المحكمة سبباً يخول المحكمة الوطنية احالة الدعوى إلى القضاء الأجنبي، خلافاً لما هو عليه الأمر في الاختصاص الداخلي، طالما أنّ لا نص يلزم بتلك الإحالة في الاختصاص الدولي. فضلاً عن أنّ الاجتهاد غير مستقر في لبنان بالنسبة لنظرية سبق الادعاء الدولي وهذا الأمر متروك لتفسير المحاكم الدينية ولا رقابة للهيئة العامة على التفسير المعتمد لدى هذه المحاكم، وبالتالي لا وجود لمخالفة صيغة جوهرية في هذه الحالة.”(6)
من خلال القرار أعلاه، نجد أنّ الهيئة العامة لمحكمة التمييز والتي هي من صلب صلاحياتها ممارسة دور رقابي على المحاكم الشرعية والمذهبية في لبنان التي تنظر بقضايا الأحوال الشخصية، رفضت الأخذ بنظرية سبق الادعاء الدولي في هذا المجال، واعتبرت أنّه لا يوجد نص يلزم بذلك في الاختصاص الدولي، وأعطت المحاكم الدينية حريّة التفسير في هذا الموضوع، أي الأخذ أو عدم الأخذ بالدفع بسبق الادعاء الدولي.
وهذا برأينا يعود إلى التفسير الضيّق لعبارة “مخالفة صيغة جوهرية” المذكورة في المادة 95 أم.م. من قبل الهيئة العامة لمحكمة التمييز، جاء في المادة الأخيرة بندها الرابع التالي:” تنظر محكمة التمييز بهيئتها العامة التي تنعقد بالنصاب المحدد في قانون تنظيم القضاء: … 4- في الإعتراض على قرار مبرم صادر عن محكمة مذهبية أو شرعية لعدم اختصاص هذه المحكمة أو لمخالفته صيغاً جوهرية تتعلّق بالنظام العام.” فإذاً في ضوء المادة السابقة، إنّ القرارات الصادرة عن المحاكم الدينية تبطل لمخالفتها صيغاً جوهرية تتعلّق بالنظام العام. ولكن المادة 95 أ.م.م. لم توضح مفهوم صيغة جوهرية فلذلك كانت هذه المهمة على عاتق الإجتهاد الذي عمِل على تحديد مفهومها.
واعتبر أن عبارة “الصيغة الجوهرية” المقصودة في نص المادة 95 أ.م.م. تعني، في ضوء المادة 59 أ.م.م. وكما حدّدت مفهومها الهيئة العامة بقراراتها الحديثة، إجراء من إجراءات المحاكمة، ومخالفتها تشكل عيباً في الشكل(7) والعبارات: إجراء، عيب في الشكل والصيغة، المذكورة في المادة 59 أ.م.م.، تتعلّق بالإجراءات الشكلية للمحاكمة، وبالتالي تدل على أنّ عبارة الصيغة المذكورة في المادة 95 أ.م.م. والتي تشكل مخالفتها سبباً للإعتراض هي إجراء من إجراءات المحاكمة(8).
وهي تتميّز عمّا هو موضوع الدفوع الإجرائية الأخرى كالدفع بعدم الإختصاص، كما أنّها تختلف عن الدفوع الموضوعية وعن الدفوع بعدم القبول(9).
لذلك، وجدنا أنّ الإجتهاد إستمر على أن مفهوم الصيغة الجوهرية يتعلّق بالإجراءات الشكلية المحضة المتعلّقة بإجراءات المحاكمة دون ما هو متعلّق بالدفوع الإجرائية، وطبعاً سبق الادعاء الدولي يعدّ من الدفوع الإجرائية. ففي كلّ الأحوال، الهيئة العامة لمحكمة التمييز حتى وإن خالفته المحاكم الدينية لا تنظر بهذه المخالفة من الأساس واستفاضت أكثر واعتبرت أنّه أصلاً لا يوجد نص مادة يلزم بالأخذ بسبق الادعاء الدولي.
أمّا من جهة أخرى، فهناك محاكم أخذت بالدفع بسبق الادعاء الدولي، وقد صدر قرار عن المحكمة الإبتدائية في جبل لبنان الناظرة في قضايا الأحوال الشخصية بتاريخ 22 شباط 2024، قضى بقبول الدفع بسبق الادعاء أمام المحكمة الفرنسية والذي يتعلّق بمتنازعين زوجين يحملان الجنسيتين (اللبنانية والفرنسية) ومقيمين في فرنسا قرّرا البدء بدعوى طلاق أمام محكمة العائلة في باريس لاعتبارها أنّ الحكم الذي سيصدر في الخارج قابلاً للإستحصال على الصيغة التنفيذية لاحقاً في لبنان(10). طبعاً الأخذ بنظرية سبق الادعاء الدولي ولإمكانية تطبيقها يجب أن يكون للقرار المحتمل الذي سيصدر بالخارج إمكانية لتنفيذه في لبنان، أيّ أن لا يصطدم مع النظام العام اللبناني، لأنّه لا يمكن تنفيذ حكم صادر في الخارج يرتطم مع النظام العام اللبناني، وتنبّهت المحكمة لهذا الشرط والذي هو ذات أهمية كبيرة يوازن بين السعي إلى احترام العدالة الدولية واحترام النظام العام اللبناني في نفس الوقت.
ولهذا القرار الأخير أهمية كبيرة في تطوير المسار الإجتهادي تطبيقاً للقانون الدولي الخاص في لبنان والأخذ بنظرية سبق الادعاء الدولي في الدعاوى يؤدّي إلى تطبيق مبدأ حسن سير العدالة وتفادي صدور أحكام مختلفة أو متناقضة في الدعوى الواحدة، تفادي الصعوبات والإشكاليات في التنفيذ وتفادي إرهاق المحاكم اللبنانية بدعاوى بدأها المتقاضون أمام محاكم أجنبية. لذلك على الهيئة العامة لمحكمة التمييز أن تسعى إلى تطبيق نظرية سبق الادعاء الدولي وأن تنظر في هذه المراجعات أمامها طالما لا يوجد نص قانوني يمنع الأخذ بدفع سبق الادعاء الدولي، لا بل المجال مفتوح وفقاً لما وضحناه مسبقاً بشأن المادة 74 أ.م.م. وكون الهيئة العامة لمحكمة التمييز هي أعلى سلطة رقابية على محاكم الأحوال الشخصية في لبنان فعليها بلورة وتنظيم الدفع بسبق الادعاء الدولي وأن لا تترك الحرية المطلقة للأخذ به أو عدم الأخذ به أمام تلك المحاكم وفقاً لاستنسابيتها ولتفادي التسلط من قبل تلك المحاكم الإستثنائية في هذا الموضوع، وطالما الدفع هو إجرائي شكلي فلا شيء يمنع الهيئة العامة لمحكمة التمييز من النظر بالمراجعات المتعلقة به طالما يبقى ضمن إطار الشكليات المتعلّقة بالمحاكمة ولإرساء قواعده في حال توفره أو استبعاده في حال عدم إمكانية الدفع به، وذلك عبر إبطال القرار الصادر عن المحاكم المختصّة بالأحوال الشخصية عند المخالفات المتعلّقة بهذا الدفع، وسعياً إلى احترام العدالة الدولية ولاستقرار الحقوق في قضايا الأحوال الشخصية، لتفادي التناقض في القرارات القضائية المتعلّقة بالدعوى الواحدة ولحسن سير العدالة.
المراجع:
(1) جورج الأحمر، المحاضر في الجامعة اللبنانية كلية الحقوق والعلوم السياسية، من مقرره سنة ثانية حقوق، أصول المحاكمات المدنية مبادئ عامة، ص 54.
(2) نصري دياب، نظرية وتطبيق أصول المحاكمات المدنية، المنشورات الحقوقية صادر، طبعة 2009، ص 258.
(3) تمييز مدني، غرفة أولى، قرار رقم 67 تاريخ 2007/10/29، صادر في التمييز 2007.
(4) المادة 56 من قانون أصول المحاكمات المدنية،الجديد الصادر في 1983/9/16، تنص على التالي: “على المحكمة التي أدليَ أمامها بسبق الإدعاء أو بالتلازم مع دعوى مقامة سابقاً لدى محكمة أخرى أن ترفع يدها عن الدعوى وتحيلها إلى هذه المحكمة، باستثناء الحالة التي تكون فيها المحكمة المقدمة إليها الدعوى لاحقاً قد أصدرت قراراً فاصلاً في احدى نقاط النزاع أو التي تكون فيها ناظرة في الدعوى الأصلية بينما الأخرى تنظر في دعوى مسندة الى موجب الضمان التبعي، وحيث يجب عندئذٍ أن تحال الدعوى من المحكمة التي أقيمت لديها أولاً والتي يدلي بالدفع أمامها الى المحكمة الثانية…”.
(5) حلمي الحجار وهاني الحجار، الوسيط في أصول المحاكمات المدنية، دراسة مقارنة، الجزء الأول، منشورات الحلبي الحقوقية، طبعة 2018، ص 75-76.
(6) تمييز مدني: هيئة عامّة، قرار رقم 44، تاريخ 2008/12/15، الجبيلي\الدين، منشور في “رقابة الهيئة العامة لمحكمة التمييز على الأحكام الشرعية والمذهبية والروحية”، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى 2013، ص 212 – 213.
(7) كبريال سرياني وغالب غانم، قوانين التنفيذ في لبنان، الجزء الرابع، تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم المذهبية والشرعية، المنشورات الحقوقية مطبعة صادر، 2003 ، ص 62 -61.
(8) الياس أبو عيد، أصول المحاكمات المدنية بين النص والإجتهاد والفقه دراسة مقارنة، الجزء الأول، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الثانية 2011، ص 618.
(9) كبريال سرياني وغالب غانم، مرجع سابق، ص 65 – 66.
(10) جان تابت، تعليق منشور في مجلّة محكمة تحت عنوان” تعليق على قرار بقبول الدفع بسبق الادعاء الدولي لصالح محكمة العائلة بباريس بدعوى طلاق بين متنازعين”، على الموقع الالكتروني التالي: www.mahkama.net آخر زيارة للموقع 2024/11/1.
“محكمة” – الثلاثاء في 2024/11/5

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!