حكم نوعي للقاضي طارق بو نصار بحقّ طبيبين بجرم الشهادة الكاذبة بقضيّة صوفي مشلب/علي الموسوي
المحامي المتدرّج علي الموسوي:
… وأخيرًا نجح القضاء في كسر الحصانة المعطاة للأطباء ليس عندما يرتكبون أخطاء طبّية تنعكس سلبًا على حياة الإنسان وصولًا إلى فقدانه الحياة، بل عندما تشكّل نقابتهم لجانًا لطمس حقيقة الخطأ الطبّي الموجود بالإستناد إلى تقارير علمية مدروسة باقتدار وليس أوهامًا وافتراءات وخيالات لا علاقة لها بالواقع، فتقدّم تقريرًا مشوبًا بالكذب ممّا يحتّم اللجوء إلى القضاء لملاحقة المعنيين بإعطاء شهادة كاذبة حتّى ولو كان بين هؤلاء الأطباء نقيبًا لهم.
وهذه هي قوّة القضاء والمحاماة الواقفة في ضفّة الادعاء الشخصي في كشف الأمور على حقيقتها والتمسك بالعدالة وصولًا إلى حكم عادل ومنصف وبما يؤمّن الحماية لكلّ مواطن من التعرّض لخطأ طبّي ما وبما يعطيه الأمان بقدرته على ملاحقة المخطئ والإقتصاص منه بالقانون.
وما حتّم هذا القول، هو الحكم النوعي الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في المتن طارق بو نصّار إبن العائلة المؤمنة بإنسانية الإنسان قبل أيّ شيء آخر، في الدعوى المقامة من فوزي مشلب بولايته الجبرية على ابنته القاصر صوفي مشلب التي تعرّضت لخطأ طبّي أدّى إلى ضرر كلوي وتلف دماغي أفقدها حواسها وشلّ أطرافها، ضدّ نقيب الأطباء في بيروت السابق ر. ص. ورئيسة لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء في بيروت ك. س. بجرم إعطاء الشهادة الكاذبة، وكأنّ الإنسان لا يكفيه ما أصابه من ضرر معنوي ونفسي ومادي نتيجة الخطأ الطبّي فتتعاون لجنة أطباء وتتكافل في ما بين أعضائها لإخفاء هذا الجرم المتعارض كلّيًا مع الطبّ وروحية هذه المهنة السامية.
وقد تلاقت إرادة القضاء المستند إلى وقائع وأدلّة ملموسة لا يمكن التغاضي عنها، مع إصرار ذوي الطفلة مشلب ووكيليها القانونيين المحاميين أيمن جزيني وجورج خوري على استعادة حقّ مهدور وتحصيل حكم تاريخي هو الأوّل من نوعه في تاريخ القضاء لجهة الحكم على طبيبين بينهما نقيب سابق بجرم الشهادة الكاذبة، فضلًا الإنحياز لمصلحة مقترفي الخطأ الطبّي لأنّهم من أبناء مهنتهما، على قول الحقيقة وإعطاء الحقّ لأصحابه، وكأنّه لا يوجد قانون ولا دولة، فجاء هذا الحكم الحامل للرقم 2024/218 والصادر بتاريخ 30 تشرين الأوّل 2024، ليكسر حاجز الخوف من مقاربة أيّ ملفّ يتعلّق بخطأ طبّي، أو بمسعى إخفاء هذا الخطأ سواء أكان صغيرًا أو كبيرًا، وقد تبيّن في حالة صوفي مشلب أنّه قاتل للحياة ويستحقّ الفاعل مهما علا شأنه وكبر حجمه، العقاب اللازم.
واللافت للنظر أنّ لجنة التحقيقات المنتخبة نقابيًا، لجأت إلى فرضيات عديدة ليس لتبيان ما حدث مع مشلب، وإنّما للتستّر على الخطأ الطبّي “ومغمغة الموضوع” بتقرير رمادي، فيما واجبها يحتّم عليها مساندة الحقيقة حتّى ولو كانت صعبة ومُرّة، فأعطت تصوّرات مختلفة منها أنّ الخطأ حاصل “لأسباب خلقية وجينية” ويعود “للولادة المبكرة” وغيرها من المزاعم “والإبتكارات التهرّبية” و”التخريجات” غير المقنعة، ومع أنّه جرى إبداء المخاوف والقلق من تصرّفات اللجنة، إلّا أنّه لم يصر إلى تجميدها واستبدالها بأخرى، وهذا دليل إضافي على الحماية التي تعطيها نقابة الأطباء لأعضائها ولقراراتها حتّى ولو كانت خاطئة، وهو ما حتّم في نهاية المطاف إقامة هذه الدعوى بجرم إعطاء شهادة كاذبة، مع الإشارة إلى أنّ الدعوى المتعلّقة بالخطأ الطبّي لا تزال قيد النظر والمحاكمة أمام القاضي المنفرد الجزائي في بيروت فاطمة جوني وقد قطعت أشواطًا متقدّمة باتجاه معرفة الحقيقة تمهيدًا لاتخاذ الموقف القانوني المناسب، وإصدار الحكم المطلوب بما يحمي كلّ إنسان قد يتعرّض يومًا ما لخطأ طبّي يضرّه أو ينهي رحلته في هذه الدنيا الفانية.
وحسنًا فعل القاضي بو نصّار في مستهلّ حيثيات حكمه بالتشديد على موجب الموضوعية الإلزامي لمهام نقابة الأطباء وما يتفرّع عنها من أجهزة ولجان بخصوص “نقل الحقيقة الكاملة عند سرد واقعات الحالة الطبية المعروضة أمامها كما تثبتت منها دون زيادة أو نقصان، ويوجب استبعاد ما أمكن من فرضيات توصلاً لتحقيق الغاية المنشودة من إجراء التحقيق لأنّ الحذر والدقّة واجبان في هذه الحالات المتعلّقة بصحّة الإنسان ومستقبله”، فضلًا عن “المساهمة في الدفاع عن حقوق الإنسان في الشأن الصحّي”.
وبحث القاضي بو نصّار جرم الشهادة الكاذبة في التقرير الطبّي والقائمة في الدرجة الأولى على تقديم معلومات مغلوطة أو تحريف الحقيقة أو إغفالها عن قصد أو دون انتباه وذلك بهدف الإضرار بالإنسان وإفادة الآخر منه بطريقة ملتوية وليس بالضرورة أن يكون معدًّا لتقديمه للقضاء، إذ يكفي أن يكتب بلغة مغايرة للحقيقة، فكيف والحال إذا كان يتوجّب رفعه إلى القضاء لكي يبنى عليه موقف قانوني مصيري باسم العدالة؟
ولم يكتف بو نصّار بالبحث المُركّز، بل دعم موقفه باجتهادات صادرة عن محكمة التمييز كمرجع أعلى في هكذا حالات يتمّ اللجوء إليها دومًا وفي كلّ الجرائم والدعاوى وخصوصًا في ظلّ غياب النصوص أو غموضها حيث لا مفرّ من اعتماد الإجتهادات الصحيحة والواضحة.
وثبت بحسب سطور الحكم المؤلّف من 20 صفحة “فولسكاب” أنّ الطبيبين ر.ص. وك.س. ومن موقعيهما المختلفين، إرتكبا الأفعال المادية لجرم إعطاء شهادة كاذبة في طيّات التقرير المشكو منه، والأهمّ أنّ نيّتهما كانت “متجهة إلى ذلك، فخلصا إلى نتيجة لا تتماشى بشكل كاملٍ مع الحقيقة لتكون في صالح فريق ضدّ الآخر دون مبرّر واضح، مع تيقّنهما أن من شأن التقرير أن يلحق ضرراً بمصالح الجهة المدعية” حتّى ولو لم يكن مضمون هذا التقرير ملزمًا ولكن يعوّل عليه في بعض الحالات والإستشارات والإرشادات والتوجيهات وخصوصًا إذا كان معدًّا لأن يقدّم للقضاء لكي يفصل في النزاع بشكل قانوني حاسم، وهذا بحدّ ذاته خطر على الإنسان والمجتمع برمّته في ظلّ تضمّنه معلومات صحّية وطبّية غير صحيحة.
وأكّد القاضي بو نصّار أنّه كان يتوجّب على الطبيبين المدعى عليهما “ذكر جميع الواقعات والتقارير والآراء المختلفة بعناية ودقّة وموضوعية، لا أن ينتقيا منها ما يناسب رأيهما أو توجّههما أو النتيجة التي أراداها مسبقاً لأنّ في ذلك تضليلاً ينعكس بآثاره على توزيع المسؤوليات”، وهذا يعني بطبيعة الحال، إنحيازًا يتنافى ومهنة الطبّ والموجب الملقى على كلّ طبيب مهما كانت الضغوطات والتدخّلات والمغريات.
وخلص الحكم إلى إدانة الطبيبين وحبس كلّ واحد منهما سنة واحدة جرى استبدالها بغرامة مالية زهيدة مقارنة بعملهما، ورفع في المقابل، التعويضات المالية عن الأضرار اللاحقة نتيجة الشهادة الكاذبة إلى مليار ليرة لبنانية، وهذا هو المهمّ بالنسبة إلى عائلة مشلب.