مقالات
إدمون كسبار … تصفيق المحكمة الفرنسية لقانونيته الناجحة/ناضر كسبار
ناضر كسبار(نقيب المحامين السابق في بيروت):
عندما تتكلم عن تاريخ القانون في لبنان، يقفز الى الاذهان فوراً إسم النقيب الشيخ إدمون كسبار. فهو كما قال عنه المطران خليل ابي نادر، “أب القانون” في لبنان. كما ساهم في صياغة قوانين كثيرة ومتعددة، وكان عضواً فاعلاً وبارزاً في اللجنة التشريعية التي كانت مؤلفة من كبار القضاة والمحامين واساتذة الفقه في لبنان من امثال صبحي المحمصاني وبدري المعوشي وسواهما. وهذه اللجنة كانت تناقش نصوص القوانين قبل إقرارها وترفع توصياتها امام المراجع المختصة.
ولئن حالت ظروف كثيرة دون انصرافه الى التأليف، إلا ان كتابه حول الوصايا والهبات والإرث لا يزال مرجعاً مهماً وفريداً من نوعه يحتوي على كل الاحكام لدى الطوائف المسيحية والدرزية والإسلامية من سنية وشيعية حول هذه المواضيع. وكان اسلوبه السهل الممتنع.
نظافة الكف
وكان النقيب كسبار يعتبر ان نظافة الكف هي من اهم الميزات عند الانسان.
وفي هذا المجال يروي انه بعد تسلم الرئيس جمال عبد الناصر الحكم في مصر، ابعد جميع مسؤولي العهد السابق ما عدا واحدا لانه كان نظيف الكف وهو مكرم عبيد.
ويضيف الشيخ ادمون قائلاً ان نظافة كف مكرم عبيد جعلت الرئيس عبد الناصر يحبه ويحترمه وقد حضر شخصيا مراسم جنازته عند وفاته.
***
يقرأ الفاتحة
وبحكم تدرجه في مكتب والده الشيخ الياس كسبار، كان متضلعا في الفقه الاسلامي. وكان يروي أنّه في أحد اجتماعات القانونيين العرب، وكان هو يترأس وفد لبنان بكونه نقيباً للمحامين، اعتقد جميع الحاضرين ان هذا المحاضر في اصول الشريعة هو مسلم حتماً، وهو شيخ لا بحكم لقب لبناني موروث، بل بحكم كونه فقيهاً مسلماً. ولذلك، يروي، طلب منه ان يقرأ الفاتحة على ضريح الجندي المجهول في البلد المضيف باسم المجتمعين. ففعل.
***
شيخ المحامين
جاء في مجلة العدل لعام 1989، العدد 1 عن النقيب إدمون كسبار ما يلي:
1- “…ومما يؤثر ان الحكومة اللبنانية اثر اعلان وفاة النقيب الشيخ إدمون كسبار، قرّرت أن تمنحه وساماً من اعلى الرتب بعد وفاته. الا ان ذلك إستحال عليها لأنّه تبين ان الشيخ كان قد منح كل الاوسمة اللبنانية. وهذا حدث طريف وملفت يدل على ما كان للرجل من منزلة عالية في بلده لبنان.
والشيخ إدمون وان لم يخلف سوى مؤلف حقوقي واحد هو كتابه “الوصايا والهبات والارث” إلا ان له مقالات ودراسات وتعليقات ومحاضرات قانونية وقف كلّ وقته وموهبته لها، ممّا يشكّل في مجموعه سلسلة من المؤلّفات غير المجموعة. وهذا ما يجمع عليه أهل المحاماة والقضاء في لبنان حتّى لقّب بالمحامي الأوّل وبشيخ المحامين”.
***
أنت أوّلهم لو أنّني انتصرت
كان النقيب الشيخ ادمون كسبار ينتقد دائما الحكم الذي اصدره القضاء الفرنسي ضد الماريشال بيتان. فقد رافق النقيب كسبار محاكمة الماريشال من خلال الصحف والاخبار والجريدة الرسمية الفرنسية، وكان يقول: ان من يسمع الشهود او يقرأ وقائع المحاكمة ومستندات الدعوى لا بد ان يعتبر ان الماريشال انقذ فرنسا من دمار كامل.
مضيفا:”ولكن للسياسة احكامها، ولا يمكنك ان تكون في الوسط، فإمّا ان تكون بطلاً كديغول أو خائناً كبيتان. الا تذكر قصة الماريشال “ناي”. لقد سأله رئيس المحكمة. من هم شركاؤك في المؤامرة”؟
– فأجابه:”كلهم سيدي الرئيس وانت أوّلهم لو أنّني انتصرت”.
***
سأكون بينكم بودادي
وقبل وفاته بشهرين القى النقيب ادمون كسبار محاضرة في نقابة المحامين في بيروت بعنوان “الكتاب المضمون وقطع مرور الزمن” جاء في مقدمتها:”علينا ان نربط دائما بين الامس واليوم والغد. فكما حاضرت في الماضي احاضر بينكم اليوم. واتطلع بشوق كبير الى اليوم الذي سيحاضر فيه كل منكم. فإذا فاتني ان اشهد ذلك اليوم فثقوا بأنني سأكون بينكم بودادي ودعائي..”
وانهمرت دموعه وانخفض صوته. ولكنه كعادته تجاوز الغصة واكمل المحاضرة.
***
أهمية المرافعة
وكان النقيب كسبار يعتبر ان المرافعة في الدعوى ضرورية وبخاصة لدى وجود نقاط بحاجة الى التفسير. ولم تقتصر مرافعته على لبنان فحسب بل تعدتها الى بلدان اجنبية كثيرة في سوريا والاردن ومصر وبريطانيا وبخاصة في فرنسا.
وامام محكمة بداية باريس التجارية كانت للنقيب كسبار مرافعة رائعة في قضية مهمة نترك له سرد وقائعها:
استدعاني البطريرك عريضة ذات يوم واخبرني بأن محكمة بداية باريس التجارية اصدرت حكماً ضده بالصورة الغيابية والزمته بدفع مبالغ كبيرة بحجة انه خالف عقدا بينه وبين احد التجار الفرنسيين.
وانه اوكل الى النقيب تولوز (من كبار المحامين الفرنسيين امر الاعتراض على الحكم والدفاع في الدعوى. وطلب مني غبطته ان اسافر الى باريس لانني محامي البطريركية وان اتعاون مع النقيب تولوز في تلك الدعوى المهمة. وفي باريس، اختلفت مع النقيب تولوز بشأن دفع قانوني يتعلق بعدم صلاحية المحكمة التجارية لأنّ البطريرك ليس تاجراً بل هو مرجع ديني، ولا يجوز ان تكون الدعوى امام محكمة التجارة.
وكان النقيب الفرنسي ينظر إليّ نظرة فوقية متعالية وكأنّه يريد ان يقول: انت من بلد صغير كان في حمايتنا منذ عدة سنوات وتريد ان تعلمنا القانون، وازاء الاصرار من قبلي وافق النقيب تولوز على مضض على اثارة هذا الدفع القانوني وطلب مني ان اترافع امام المحكمة بشأنه. ولا انكر انني تهيبت الموقف وبقيت نهاري السبت والاحد في غرفتي احضر المرافعة، وعندما دخلت الى المحكمة نهار الاثنين وجدت القاعة تغص بالمحامين الفرنسيين الذين جاؤوا “يتفرجون” على هذا المحامي الآتي من بلد صغير ليترافع في فرنسا. وترافعت مركّزاً على ان البطريرك هو رئيس طائفة ومسؤول عن الاوقاف. والوقف الذي لا يعرفه القانون الفرنسي هو مؤسسة قانونية دينية مستمدة من الشريعة الاسلامية، الهدف منه عمل الخير لا المتاجرة. ترافعت ساعة كاملة. وعندما انتهيت بادرني رئيس المحكمة وخلافا لكل عرف امام المحاكم بالقول ان المحكمة تسمح لنفسها بتهنئة النقيب كسبار الآتي من لبنان هذا البلد العظيم. واحب ان اشير هنا الى انني من الذين يعرفون مؤسسة الوقف لأنّني كنت رئيساً لمحكمة في الجزائر.
ويضيف النقيب كسبار:
عندها انفجرت القاعة بالتصفيق بعد هذا الثناء من رئيس المحكمة، وايضاً خلافاً لكلّ عرف وصدر الحكم بعد ايام وربحنا الدعوى على اساس ما ادليت به.
وبعد مرور شهرين تقريباً، وانا في مكتبي في بيروت دخل علي النقيب وجدي ملاط وكان لا يزال احد معاوني في المكتب، والبهجة تغمر محياه ليقول: يا معلمي انظر الى الحكم منشور في مجلة داللوز ذكر فيه انك المحامي في القضية، ومجلة داللوز لا تنشر سوى الاحكام المهمة التي تصدر عن المحاكم الفرنسية.
ويقول الوزير والنائب السابق الاستاذ نهاد بويز والذي كان مع النقيب كسبار في تلك القضية: كانت وقفة عز وشموخ للمحامي اللبناني، وكان النقيب كسبار ساحرا ومجليا وعظيما من لبنان.
***
اطلب المهلة لذات الاسباب
وكان النقيب كسبار يحترم القاضي عاطف النقيب الذي كان ضليعا في الفقه القانوني بالاضافة الى علمه وخبرته ونزاهته.
حضر مرة جلسة امام المحكمة التي كان الرئيس النقيب يترأس هيئتها وطلب مهلة للجواب. فدون الرئيس السؤال الآتي:
– ان الرئاسة تسأل النقيب كسبار عن سبب طلبه مهلة جديدة لتقديم لائحته؟
فأجابه النقيب كسبار:
– ارجو ان تدونوا على المحضر: لذات الاسباب التي حدت بالمحكمة الكريمة الى عدم اصدار حكمها في دعوى فلان ضد فلان في موعده.
وكان النقيب كسبار يقصد ان كثرة الضغط في العمل منعت المحكمة من إصدار حكمها في دعوى هو وكيل فيها في موعده، وبالمقابل ان كثرة اعماله منعته من تحضير اللائحة في الموعد المحدد.
***
بعد أن اخترع الفينيقيون العملة
والنقيب إدمون كسبار، الذي عين وزيرا عدة مرات وكان نقيبا للمحامين لولايتين، بقي محافظا على روح النكتة على الرغم من ان الجميع يعلم انه كان قاسيا في علاقاته مع الاخرين مهما علا شأنهم.
من طرائفه، حضر مرة احد الموكلين الى مكتبه وكان قد ربح له قضية مهمة جدا وقال له بتأثر:
– يا شيخ إدمون. انا مخجول منك ولا اعلم كيف اكافئك لانك ربحت في الدعوى.
فأجابه الشيخ إدمون فورا وهو يضحك:
– بعد ان اخترع الفينيقيون العملة لم يعد من داع للخجل يا صديقي.
***
بين مختار سن الفيل وبكفيا
وعندما عين وزيرا للداخلية زاره صديقه الشيخ موريس الجميل وقال له غاضبا:”اريد منك خدمة شخصية. اريد قرارا بإقالة رئيس بلدية سن الفيل امين شاوول لانه يعمل لصالح لائحة إنتخابية ضدنا في المتن”.
وامين شاوول هو من اعز اصدقاء النقيب كسبار. فهو مدير غرفة نقابة المحامين في بيروت منذ عشرات السنين وصديق كل المحامين. وتظاهر الشيخ إدمون بالغضب واستدعى سكرتيره وقال له:
“نظم لي قراراً بإقالة رئيس بلدية سن الفيل ورئيس بلدية بكفيا وآتني به فوراً لتوقيعه”.
فانتفض الشيخ موريس قائلا:
“وما دخل رئيس بلدية بكفيا؟”
وبلهجة الغضب ذاتها يجيب النقيب:
– “قبل دخولك الى هنا إتصل بي الرئيس شمعون واشتكى من رئيس بلدية بكفيا لانه يعمل لصالح لائحة آل الجميل في المتن. فهل اصدقك ولا اصدقه واخدمك ولا اخدمه؟”
فرد الشيخ موريس قائلا: “اذا هيك بلاها”.
وانصرف، وبقي امين شاوول في مركزه.
***
لن يخسر حسنة قداس
وكان النقيب كسبار على حد قول المحامي اميل بجاني يتحلى بروح النكتة السريعة فيحضرها اذا شاء يستلذ سماعها ويتقنها جارحة.
فذات يوم قرأ وفاة اسقف عرف ببخله فعلق قائلا:
– حتى اذا خسر نفسه فلن يخسر حسنة قداس لخلاصها.
***
بين صرم وصرم
والملفت للنظر هو ان النقيب كسبار لم يكن يوفر نفسه من امور حصلت معه شخصيا.
ففي مقابلة مع إذاعة صوت لبنان اخبر انه عندما كان في احد الصفوف الثانوية وقف لإلقاء قصيدة في الصف وكانت الكلمة الاولى فيها:
“صرم” ولكنه بدأها ب”صُرم” فصرخ فيه المعلم فورا:
– صرماية برقبتك، “صَرم”.
ويضيف انه عندما كان لا يزال يافعا، ذهب مع والدته للقيام بواجب التعزية. وبعد تناول القهوة قال:”دايمة”.
***
بين النسيم والزمهرير
وبقي النقيب كسبار يتحلى بروح النكتة والدعابة حتى آخر ايامه. فقبل وفاته بشهرين اخبرني انه كان يجلس مرة مع عدد من زملائه المحامين تحت شجرة العدلية الشهيرة وكان يتناقش معهم في عدة مواضيع قانونية، عندما حضر احد المحامين وكان معروفاً عنه بأنه ثقيل الظل وبدأ يتجادل معهم بقصد المجادلة ليس إلا. فسأله الشيخ إدمون الذي لم يكن يعرفه سابقاً:
– شو قلت لي اسمك؟
فأجابه:
– نسيم
فقال له مازحاً:
– اوف، اذا كان النسيم هيك فكيف الزمهرير؟”
***
ما أكثر أسماءك وأبخس أسعارك
وحصلت معه طرفة مرة في المحكمة عندما نظم احد الخبراء تقريرا غير متطابق مع القانون بالاضافة الى انه كان خاليا من اية معلومات مفيدة للمحكمة: وقد جاء ضد مصلحة موكلي النقيب.وكان الخبير متشاوفا بعض الشيء وقد كتب تحت اسمه عددا من الالقاب. فانتقد الشيخ ادمون تقرير الخبير الخالي من اية معلومات امام المحكمة مع العلم ان الخبير عدد الالقاب التي يحملها والجامعات التي تخرج منها وقال:
– هذا الوضع يشبه قصة صاحب القطة التي اخذها الى السوق لبيعها، فمر به اول شخص وسأله: كم سعر هذا القط؟ فأجابه بكذا. فأكمل الشخص طريقه قائلا له: سعره مرتفع ثم سأله شخص آخر: بكم هذا البس؟ فأجابه: بكذا. فقال له: سعره مرتفع. واكمل طريقه. ثم مر به شخص ثالث وقال له: كم سعر هذا السنور؟ فقال: بكذا. فأكمل طريقه وهو يقول: سعره مرتفع. ثم مر رابع وسأله: كم سعر هذا الهر؟ فأجابه بكذا. فأكمل طريقه قائلا له: سعره مرتفع. عندئذ رمى صاحب القطة هذه الاخيرة قائلا: ما اكثر اسماءك وابخس اسعارك.
واضاف الشيخ ادمون: وهكذا الامر بالنسبة لتقرير الخبير الذي جاء خاليا من اية معلومات في حين ان صاحبه يحمل الالقاب العديدة.
***
ادمون كسبار وبترو طراد
وروى النقيب ادمون كسبار للصحافي الاستاذ وليد عوض انه حضر كمحام متدرج احدى مرافعات الرئيس المحامي بترو طراد في العشرينات فنسي ما حوله وذاب في كلمات الرجل. ولما انتهى الرئيس طراد من مرافعته وخرج تجاه شجرة قصر العدل الشهيرة انطلق نحوه الشيخ ادمون وقال له:”كل ما ارجوه يا سيدي هو ان اصبح في يوم من الايام محاميا مثلك” فربت بترو طراد على كتف المحامي الشاب المتدرج وقال له: كل ما ارجوه لك ان تصبح محامياً افضل مني.
***
حكم الصين اسهل من حكم لبنان
ويروي ان الرئيس سامي الصلح زاره مرة في مكتبه ليوكل اليه الدفاع عنه في دعوى مهمة. وانه بعد تناول طعام الغداء في المكتب المذكور، إستراح على كنبة واغمض عينيه. وبعد دقائق معدودة فوجئ به يتوجه الى “مختار مخيش” بالسؤال عن عدد سكان الصين. فأجابه سكرتيره: بحدود النصف مليار (كان ذلك في اوائل الخمسينات) فرد الرئيس الصلح بعفوية: تأكد ان حكم الصين اسهل بكثير من حكم لبنان. ثم اغمض عينيه مجددا ونام.
وكان الشيخ إدمون يردد: هذا اصدق كلام في السياسة اللبنانية.
***
مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل
وفي محاضرة ألقاها في نقابة المحامين في بيروت في العام 1983 بعنوان:
“هل ان قطع مرور الزمن المسقط باقامة الدعوة يتلاشى مفعوله بترقين الدعوى او بالتنازل عنها” وبعد عرض قرار صادر عن محكمة الاستئناف برئاسة القاضي الكبير خليل جريج والذي نقضته محكمة التمييز، عاد واورد رأيا للقاضي جريج يحبذ فيه موقف محكمة التمييز.
وفي هذا المجال يقول النقيب كسبار:
“اكتفى بسرد هذا الرأي الذي له اهمية خاصة انه صادر عن الرئيس جريج الذي كان يترأس محكمة الاستئناف مصدرة القرار الاستئنافي الذي اشرنا اليه آنفا والذي نقضته محكمة التمييز، فبرجوعه عن رأيه اظهر الرئيس جريج جرأة تستحق التقدير والتهنئة. وهذا شأن العلماء نسجله له متذكرين كتاب عمر بن الخطاب وهو اول قاض في الاسلام الى ابي موسى الاشعري، هذا الكتاب الذي يعد آية من آيات الله في قواعد الفقه وسنن الانصاف:
“ولا يمنعك قضاء قضيته امس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك ان ترجع الى الحق، فإنّ الحق قويم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”.
“محكمة” – الأربعاء في 2024/11/27