الموت يسرق من العدالة وجهها.. وداعًا منيف حمدان/سالي البستاني
المحامية سالي إيلي البستاني*:
طقْ، طقْ، طقْ.
هوَت المطرقة القضائية على سندانِها، مرّة، فمرّتين، فثلاث مرات، معلنةً الحكمَ اليقين: رحل الحمدانيّ عن محيطِ الأقواس.
حكمٌ خطّه المنونُ بجَورِه المعتاد، ليذيّلَه بالترحيل المؤبّد، الترحيلِ الى عل، لمنيفٍ نافَ ربواتِ الأعالي وهو بعدُ ههنا، نافَها على سلّمِ من العزّة والرُفعةِ والشكيمة، فغدا أرزةً شمّاء لا يقدرُ عليها الموتُ، وإن حكم.
بصدور الحكم، جفّت الحناجر، وشحّتِ المقَل، فتقيّدَت الألسنة، وحُبِسَتِ الأنفاس، واعتُقِلَ الكلامُ في قفصِ الأفواه، فأطبقَ الصمتُ على اللحظات القريبة والآفاقِ البعيدة، وما خرقه الا بعض همهماتٍ من ألمٍ وحسرة، إلى أن..
إلى أن وطأ الخبرُ مسامعَ تيميس.
ومن منكم لا يعرف تيميس، سيما إن عرفَ المنيفَ؟
تيميس هذه هي ربّةُ العدالة التي لبدت وسطَ قصر العدل طوالَ سنواتٍ مديدة، فراقبَت وارتقبت، وما نبسّت ببنتِ شفة مهما جازَتها المصائب واجتازتْها النوائب.
أمّا اليوم، اليومَ رأيتها وقد انتفضت على جمودها، تتراكضُ يمنةً ويسرةً في قاعة “الخطى الضائعة”، كمن أصابته نوبة هستيريّة، تصيحُ ألماً لسقوطِ كبيرِ أعمدتِها، تصرخُ: أينهُ ذاك القاضي الذي قادَ من أجلها أعنفَ المعارك، ممتشقاً سلاحَ القانون ورمحَ الإنسانيّة؟ أينه ذاك الجبّارُ الذي خدمها بعمقِ الثقافة، وصفاءِ الضمير، وأنفةِ التواضعِ، وثباتِ المبادئ، فاندثرَ الباطلُ في أمرتِه، وارتعشَ الفاسدُ في حضرتُه، وارتفعَ الحقُّ من حفرتِه؟
وهل منّا مَن يلومُ تيميس، وقد طالتها الفاجعة في الصميم؟ فاليومَ رحلَ “منيف حمدان”، الاسمُ الخالد، فوقّع برحيله تاريخ القضاء وختَم.
* تدرّجَت في مكتب الراحل الكبير القاضي السابق والمحامي الدكتور منيف حمدان بين العامين 2014 و2017.
“محكمة” – الاثنين في 2024/12/9