أبحاث ودراسات

السلطة القضائية بين الواقع والمرتجى/فؤاد مطر

المحامي فؤاد مطر:
إن السلطة القضائية المستقلة هي ركيزة أساسية للنظام الديمقراطي القائم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتوازنها، وتعاونها، الذي أكدته الفقرة (ه) من مقدمة الدستور، التي فرضت أن تكون السلطات بنظام شمولي سلطوي.
إن السلم الأهلي، وسيادة القانون، وإعادة عجلة الإقتصاد، وسمعة لبنان، مرهونة باستقلالية السلطة القضائية، وحسن سير القضاء.
ولكي يمارس القضاء دوره الطبيعي في حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، لا بد ان تؤمن له الضمانات المعنوية والمادية كافة لتأدية رسالته دون أية قيود أو مؤثرات أو ضغوط أو تدخلات مباشرة من أية جهة كانت ولأي سبب كان.
وسوف نتناول :
1- إستقلالية السلطة القضائية في النصوص.
2- تدخل السلطة السياسية.
3- ضمانات استقلالية السلطة القضائية.
1- إستقلالية السلطة القضائية في النصوص :
إن السلطة القضائية في لبنان تتمتع بحماية، ولكنها محدودة للغاية، فلم يخصص الدستور اللبناني للسلطة القضائية إلا مادة وحيدة وردت في الفصل الأول الذي يحمل عنوان ” أحكام عامة” هي المادة عشرين منه التي تناولت السلطة القضائية، وأناطت بالمشرع مسؤولية وضع نظام يقدم للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة، كما أكدت على أن القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم، دون ان يترجم الدستور اللبناني بنصوص صريحة تمكّن السلطة القضائية من تحصين ذاتها، وتبيان عناصرها، بل ترك أمر تنظيمها للقوانين العادية الخاصة.
لذا لا نجد هنالك هيئة خاصة تتولى السلطة القضائية، فهنالك هيئات تمارس القضاء إلى جانب الجسم القضائي المؤلف من القضاء العدلي، ومجلس شورى الدولة، وديوان المحاسبة، والقضاء الشرعي والمذهبي والروحي.
كما تنص المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات المدنية على أن القضاء سلطة مستقلة تجاه السلطات الأخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها وإلا يحد من استقلالها أي قيد لا ينص عليه الدستور.
وينص القانون القضاء العدلي أيضاً على أن القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم من السلك القضائي إلا وفقاً لأحكام هذا القانون.
إن هذه النصوص العامة أدت الى تسلط السلطة السياسية ومخالفتها لمبدأ إستقلالية السلطة القضائية مستغلةً عدم وجود نصوص قانونية تحصن هذه السلطة من التدخل السياسي.
2- في تدخل السلطة السياسية:
إن السلطة القضائية مرتبطة بالسلطة التنفيذية من نواح عدة، لا سيما تلك المتعلقة بتسمية القضاة، وبمجلس القضاء الأعلى، والمجلس الدستوري، وانفراد السلطة التنفيذية بشخص وزير العدل، ورئيس مجلس الوزراء أحياناً، في ممارسة سلطة تنظيم الهيئات القضائية الثلاث، العدلي والإداري، والمالي، وتصدر التشكيلات القضائية وفق ما ينص عليه قانون القضاء العدلي بمرسوم يتّخذ بناءً على إقتراح وزير العدل، حتى شكل ثوب القضاة يعين بقرار من وزير العدل، كذلك تعيين رئيس هيئة التفتيش القضائي، والمفتش العام.
إن المعايير والأصول المتبعة في إدارة العمل القضائي لا تحمي القضاة من مداخلات السلطة التنفيذية لا سيما المناقلات والترقيات.
إن رئيس السلطة التنفيذية هو رئيس النيابات العامة، وهذا اختراع مستهجن يؤدي الى تدخل سلطوي بشؤون القضاة، ويعتبر خرقاً فاضحاً لمبدأ الفصل بين السلطات، ويظهر من جراء ذلك أن النيابات العامة، وقضاة التحقيق، موظفين لدى السلطة التنفيذية أكثر مما يظهر كممثلين لأمن المجتمع.
إن هذه التبعية تفرز فساد سياسي وعدوى تنتقل أحياناً الى الجسم القضائي وتجعله جهازاً وظيفياً يعيق ارتقائه الى مستوى سلطة مستقلة.
في ظل هذه البدعة تبقى القوانين التي تصون الحريات العامة وحقوق الإنسان، والمواثيق، والعهود الدولية، المنصوص عليها في الدستور اللبناني، ألعوبة بيد السلطة السياسية دون أي رقيب، أو حسيب.
ومن المعيب ان تلحظ إعتمادات هذه السلطة في سياق الاعتمادات المخصصة لوزارة العدل، وكأن القضاء أحد مرافق العامة، التابعة للسلطة التنفيذية، واعتبار القضاة كموظفين يطبق بشأنهم قانون الموظفين رغم أن لهم نظاماً خاصاً.
إن التبعية تظهر جلية وواضحة في أمور عديدة منها وعلى سبيل المثال لا الحصر، ووفقاً لأحكام قانون القضاء العدلي من خلال تعيين ثمانية أعضاء مجلس القضاء الاعلى العشرة بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل، وهذا ما يتطلب تعديلاً ضرورياً ينسجم مع قناعتنا بأن القضاء سلطة مستقلة، كذلك الأمر بالنسبة الى خضوع الرئيس الأول لمحكمة التمييز، والمدعي العام التمييزي، ورئيس أعضاء هيئة التفتيش القضائي، والنيابات العامة لسلطة وزير العدل، وكذلك فيما يتعلق بتطبيق أنظمة موظفي الدولة على القضاة.
كلنا نلمس بأن القاضي المهدّد بالتأديب إذا أزعج السلطة السياسية، أو إذا خاف من تشكيله تأديبياً، سيصبح من الصعب عليه إتخاذ قرارات حرّة مستقلّة.
وبالنسبة للمجلس الدستوري الذي لا يستطيع مراقبة القوانين، إلا إذا تمت مراجعته من قبل السلطة السياسية، حيث ان مراجعته محصورة برئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، وعشرة نواب، ورؤساء الطوائف، فيما يتعلق بأمور محددة حصراً تتعلق بطوائفهم، وبالرجوع إلى نصوص القوانين المتعلقة بهذا المجلس، نلاحظ ان تعيين القضاة فيه مرتبط بشكل أساسي بالسلطة السياسية، فخمسة من أعضائه معينون من مجلس النواب، بالإنتخاب بالأكثرية المطلقة من عدد الإعضاء الذي يتألف منه قانوناً في الدورة الأولى بالأكثرية النسبية من أصوات المقترعين في الدورة الثانية، والخمسة الآخرون يعينهم مجلس الوزراء بأكثرية ثلثي عدد أعضاء الحكومة، وقد جرى تعديل على آلية الترشح لعضوية المجلس الدستوري، وجرى ربطها بإجراء مقابلة مع لجنة نيابية، مما يزيد من الضغط السياسي على مسألة التعيين، وبهذا تبقى السلطة السياسية قادرة على شل عمل المجلس الدستوري.
وبطبيعة الحال أدى ذلك إلى نزاعات وصراعات طالت قرارات عذا المجلس، وتوجيه إنتقادات لها، ووصفها بالقرارات السياسية، وانجازها لمصالح زمرة السلطة السياسية.
3- ضمانات إستقلالية السلطة القضائية:
إن القضاء في لبنان لم يرتق بعد الى مستوى السلطة والاستقلالية، وبهدف أن يصبح بمنأى عن السلطة السياسية، وخارج من تباعيتها، وتصنيفها الوظائفي، وتحويلها الى جهاز امني يحمي السلطة السياسية من المعارضة الشعبية والحراك المدني، إزاء ذلك لا بد من التعاون خاصة بين الحقوقيين لوضع الأطر والآلية القانونية للخروج من هذه المأساة والهرطقات التي تمس روح الدستور، والقانون، والعلم، والنزاهة، والحيادية، والأخلاق.
وبما ان السلطة القضائية هي سلطة دستورية، مستقلة، ومتوازنة، ومتعاونة، مع بقية السلطات، فلا بد من جعل رأس هذه السلطة القضائية منوط بمجلس القضاء الأعلى، وجعل رئيس هذا المجلس رئيساً لهذه السلطة، فهو يحسن السهر على حسن سير القضاء، وكرامته، واستقلاله.
إن الاصلاح يبدأ بقضاء مستقل عن السياسة، وتوفير كل الضمانات الضرورية التي تمكنه من التصدي لكل مخالف يسيء في تطبيق القوانين مهما علا شأنه، وتأمين أكبرقدر من الفصل بين عمل القضاء وبين تدخل السياسة في شؤونه، وأموره، وقضاياه، وصد أصحاب النفوذ، المرتكبين مهما عظم مقامهم، وردع المتطاولين والمتدخلين في شؤون القضاء، وماتحقة المعتدين على الحق العام، والأملاك العامة، والمال العام.
أمام هذا الواقع، وابتغاءً للمرتجى، لا بد من إقرار آلية واقعية لتثبيت استقلال القضاء والقضاة، وإلغاء التأثير السياسي عنهم، وهذا يحتاج الى مناخ سياسي كي لا يبقى القضاء عرضة للتجاذبات، أقلها، وبشكل واضح وفاضح في تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى، والنائب العام التمييزي، ونقترح الآتي:
1. رفع وصاية السلطة التنفيذية التي تجعل من القضاء وظيفة إدارية تسلبه مقومات السلطة المستقلة.
2. استقلال مجلس القضاء الأعلى واعتباره المرجع الصالح لكافة شؤون السلطة القضائية والمسؤول عنها.
3. تأمين استقلالية القضاء عن طريق انتخاب كامل أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وتخصيص القضاء بموازنة مستقلة عن موازنة الدولة، بإعتبار أن صندوق قصر العدل يدخل أموالاً من الرسوم وغيرها تفوق النفقات الإدارية السنوية لوزارة العدل، وذلك عن طريق مجلس القضاء الأعلى الذي يحدد موارد هذه الموازنة وأوجه انفاقها ويحصر به إعدادها وإدارة كافة الشؤون المالية والمادية الخاصة بالسلطة القضائية.
4. تحصين القضاء من المداخلات السياسية بشأن التعينات في المناصب عبر إعادة تنظيم واقع النيابات العامة، وقضاة التحقيق، وإدراجها ضمن النظام القضائي، وتأمين استقلالها الكامل عن السلطة التنفيذية.
5. اختبار القضاة عن طريق المبادرات ورفع يد السلطة السياسية عن المناقلات.
6. إعادة النظر جذرياً في تأليف وتشكيل مجلس القضاء الأعلى، واعطائه كل الصلاحيات المتعلقة بالقضاء، حيث تحصر به عمليات اختيار القضاة، وتأهيلهم، وتعيينهم، ونقلهم، وعزلهم، على ان يشمل قضاة النيابة العامة.
7. أن تتوافر وحدة السلطة القضائية وشموليتها، بحيث يكون القضاء صاحب الولاية الشاملة في كل عنل قضائي بما فيه الاستثنائي والخاص.
إن الحق حتماً سينتصر، والمواطن يطمئن إذا توافرت سلطة قضائية مستقلة عن تدخل السلطة السياسية التي التي تغرق بالفساد والمفسدين.
ونتذكر هنا السؤال الموجه الى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولندن تقصف بالطائرات عن كيفية الصمود، فأجاب طالما أن القضاة يجلسون على أقواس المحاكم فإن بلاده ستنتصر.
إن بلدنا عزيز علينا، وهو بحاجة إلى سلطة قضائية مستقلة لمكافحة سوس الفساد الذي ينخر كافة أنحاء هيكلية الدولة.
“محكمة” – الخميس في 2025/1/16

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!