في مصطلح الميثاقية وكيفية توافره على كافة المستويات وفق أحكام الدستور/فرانسوا ضاهر
القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
القسم الأول : في كيفية توافر الميثاقية عند تكوين المؤسسات الدستورية وبمعرض عملها وفي التعيينات والتشكيلات العامة:
إن مصطلح الميثاقية قد نصّ عليه في الفقرة (ي) من مقدمة الدستور، بما يلي :” لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك “.
وقد وجد هذا المصطلح تطبيقه النصّي في ما يتعلق بالسلطة المشترعة :
بالمادة ٢٤ دستور التي تقول ” وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية وفقاً للقواعدالتالية…”.
كما في مطلع المادة ٩٥ منه، بقوله :”على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين…”.
كما وجد تطبيقه النصّي في ما يتعلق بالسلطة الاجرائية بالفقرة (أ) من ذات المادة ٩٥ دستور، التي تقول :” تمثّل الطوائف بصورة عادلةفي تشكيل الوزارة “.
كما وجد تطبيقه النصّي أيضاً في التعيينات والتشكيلات والمناقلات التي تختص بمناصب ومراكز الفئة الأولى في الوظائف العامة، إستناداًالى الفقرة (ب) من ذات المادة ٩٥ دستور، وذلك لجهة كيفية تمثيل الطوائف في تلك الوظائف، كما في القضاء والمؤسسات العسكرية والأمنيةوالمؤسسات العامة والمختلطة.
بحيث يستنتج مما تقدم، أن الميثاقية، بمعنى التوزيع الطائفي النوعي والعددي، إنما تراعى عند تكوين المؤسسات الدستورية وعند إتمامالتعيينات في الوظائف العامة.
اما عندما يتعلق الأمر بالقرارات التي تصدر عن المؤسسات الدستورية فإن الميثاقية تكون متوافرة حكماً وضمناً بفعل النصاب المنصوصعليه دستوراً لجهة صحة انعقادها، كما بفعل الأكثرية الواجب توافرها دستوراً أيضاً، أكانت عادية او موصوفة، لجهة صحة مقرّراتها.
نذكر على سبيل المثال، في ما يتعلق بالسلطة المشترعة، النصاب المنصوص عنه بالمادة ٣٤ دستور وبالمادة ٧٩ منه. كما نذكر الأكثرية المقررةفيها والمنصوص عنها بالمواد ٣٤ و ٤٠ و ٤٤ و ٤٩ و ٥٧ و ٦٠ و ٧٠ و ٧٧ و ٧٩ دستور.
كما نذكر على سبيل المثال، في ما يتعلق بالسلطة الاجرائية، النصاب المنصوص عنه بالمادة ٦٥ دستور، كذلك الأكثرية المقررة فيهاوالمنصوص عليها بالمادة ٦٥ ذاتها وبالفقرة (٢) من المادة ٦٩ دستور وبالمادة ٧٧ منه.
كما تكون الميثاقية متوافرة ضمناً في القوانين الناظمة لعمل المؤسسات العامة على إختلاف فئاتها وأنواعها. بحيث يتمّ ملئ الشغوروالفراغات فيها، وفق أنظمتها، دونما أي إعتبار لطائفة المسؤول المنتدب او المكلّف او الحالّ محل الأصيل فيها.
وبذلك، تكون القواعد الدستورية المتقدّم تفصيلها، تؤمن توافر مصطلح الميثاقية الذي تمّ لحظه في مقدمة الدستور، بمعرض تكوين وتسييرعمل المؤسسات الدستورية والإدارات العامة التابعة لها، على كافة المستويات.
القسم الثاني : في كيفية توافر الميثاقية بمعرض الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية لغرض تسمية رئيس حكومة يكلّف بتأليفها:
لقد نصت الفقرة ٢ من المادة ٥٣ من الدستور على التالي:”يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب إستناداً الى إستشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميّاً علىنتائجها”
بحيث أن القاعدة الاساسية تقوم على أن نتائج الاستشارات النيابية هي ملزمة لرئيس الجمهورية حتى ولو سبق له وتشاور مع رئيس المجلسالنيابي. بمعنى أن رئيس الجمهورية هو ملزم بتسمية رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة ذلك الذي مِن بين المرشحين لهذا المنصب، قد نال العددالأكبر من أصوات النواب.
غير أن السؤال الأبرز الذي يطرح حين تطبيق هذه الفقرة من المادة الدستورية، هو، فيما لو، بمعرض الاستشارات النيابية قد تساوى عددالاصوات ما بين المرشحين الأولين لتولّي رئاسة الحكومة وتشكيلها ؟
فكيف يمكن المفاضلة في ما بينهم وترجيح أحدهم على الآخر لتسميته ؟
في الواقع، إن المادة الدستورية لم تجب على هذه المسألة. بحيث يقتضي استنباط حلّ دستوري يجيب عليها، لغرض تسهيل تكوين السلطةالإجرائية في البلاد.
من هنا، يمكن مقاربة حلّ هذه المسألة من أوجه او حالات مختلفة سنستعرضها تباعاً:
أ – الحالة الأولى : في حال قرّر عدد من النواب الإحجام عن تسمية شخصية لتولّي رئاسة الحكومة وفوّضوا رئيس الجمهورية بهذه التسمية.
عندها، يمكن لرئيس الجمهورية بالتشاور مع رئيس المجلس النيابي أن يتوافقا على ترجيح إسم على آخر، تبعاً لما يتلاءم أكثر مع مصلحة البلاد العليا la raison d’état)).
اما وإن لم يتوافقا على هذا الترجيح، فإنه يعود لرئيس الجمهورية أن يفاضل هو بين أسماء المرشحين الأولين دوماً الذين نالوا ذات العدد منالأصوات النيابية، تبعاً للتفويض المعطى له من بعض النواب. وأن يصدر مرسوماً بتسمية رئيس الحكومة المكلّف بتشكيل الحكومة، استناداًالى السلطة الذاتيّة المحفوظة له بإصداره منفرداً (٣/٥٣ دستور).
ب – الحالة الثانية : اما فيما إذا إمتنع عدد من النواب عن تسمية رئيس حكومة يكلّف، ولم يفوّضوا رئيس الجمهورية بتسمية من يراه مناسباًمن بين المرشحين الأولين الذين نالوا عدداً متساوياً من الأصوات النيابية. عندها، على رئيس الجمهورية أن يتشاور مع رئيس المجلس النيابيوأن يتوافق معه على المفاضلة بين هؤلاء المرشحين، وأن يرجحا معاً أحدهم على الآخر او الآخرين.
وإذا لم يحصل هذا التوافق، يعود لرئيس الجمهورية أن يتمّ بنفسه هذه المفاضلة. على إعتبار أن رئيس المجلس النيابي لا يتمتع بأكثر منرأي إستشاري في هذه المسألة، ولأن صلاحية إصدار مرسوم التكليف هي مناطة بشخصه منفرداً.
ج – الحالة الثالثة : اما في حال أحجم رئيس الجمهورية عن المفاضلة بين المرشحين الأولين الذين تمّت تسميتهم وقد تعادلوا في الأصواتالتي نالوها من النواب، فإنه يعود له أن يُعيد إتمام الاستشارات النيابية، مرة ثانية. طالما أن النص الدستوري لا يحظر عليه ذلك. وقد آثر أنيترك للنواب أنفسهم أن يفاضلوا بين الشخصيات التي رشّحوها لتولّي رئاسة الحكومة وتأليفها.
د – اما تفويض النواب لرئيس الجمهورية بتسمية من يراه مناسباً من بين المرشحين لتولّي مهمة رئاسة الحكومة وتأليفها، فهو بحدّ ذاته عملٌدستوريٌ بإمتياز. غير أنه لا يمكنه تفعيله وإعماله الاّ في حال تعادل الأصوات بين المرشحين الأولين.
على إعتبار أنه في حال تكوّن أكثرية نيابية حول مرشح ما فإنه لا يحق لرئيس الجمهورية أن يعدّل فيها بإستخدام الأصوات النيابية التيفوِّض بها. لأنه ملزم بنتائج الاستشارات المعلنة déclarée ou exprimée)) التي أتمّها وفق منطوق النص الدستوري أعلاه. ذلك أنالنص المشار اليه، إنما يحظّر عليه أن يكون شريكاً فيها ولا يحول دون أن يكون فيصلاً، عند تعادل الاصوات بين المرشحين الأوّلين، وإذا ماتغاضى عن حقه بمعاودة إجراء تلك الاستشارات.
بحيث بات يستمدّ التفويض المشار اليه شرعيته الدستورية من سلطة رئيس الجمهورية في ترجيح ومفاضلة أسم مرشح على آخر عند تعادلالأصوات بين أولئك المرشحين الأوّلين حصراً. سيما أن دور رئيس المجلس النيابي في هذه التسمية، على إختلاف الوضعيات والحالات التيعرضنا لها أعلاه، إنما هو إستشاري غير ملزم. شأنه الإبداء بما يتناسب مع مصلحة البلاد العليا، ويسهّل تشكيل الحكومة، ويعزّز إمكانية منحها ثقة المجلس النيابي (٢/٦٤ دستور).
القسم الثالث : في كيفية توافر الميثاقية بمعرض الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الحكومة المكلّف لغرض تأليفها: كيف تتوافر الميثاقية في الاستشارات النيابية التي تسبق تسمية رئيس الحكومة الذي يكلّف بتأليفها ؟كما وكيف تتوافر في الاستشارات التي يجريها رئيس الحكومة المكلّف لغرض تأليفها؟
في الواقع، تتوافر الميثاقية المنصوص عنها بالفقرة (ي) من مقدمة الدستور،” لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، حينما يُدعى كل أعضاء المجلس النيابي على اختلاف كتلهم وأحزابهم وطوائفهم الى الاستشارات النيابية التي تسبق التكليف، كما بعد ذلكالى الاستشارات التي تمهّد للتأليف.
بحيث لا تُعتبر الميثاقية منتهكة الاّ اذا حصل إقصاء او إخلال بالدعوة الى تلك الاستشارات من قبل رئيس الجمهورية في مرحلة الاستشاراتالتي تسبق التكليف او من قبل رئيس الحكومة المكلّف في مرحلة الاستشارات التي تُجرى لغرض التأليف.
اما وإن قاطع أعضاء في المجلس النيابي أيّاً او
كلتي المرحلتين من الاستشارات النيابية فلا تكون الميثاقية منتهكة. إذ تُعتبر مقاطعتهم على هذه المرتبة من الإلزام الدستوري بالمشاركة فيهابأنها قبول ضمني بالنتائج التي ستتمخّض عن كل من هاتين المرحلتين من الاستشارات النيابية.
ذلك أنه، إذا ما سلمنا بأن مقاطعة تلك الاستشارات من قبل فريق او طائفة او كتلة نيابية او أكثر من شأنها أن تفقدها ميثاقيتها، فهذا مؤداهأن تكوين الحكومة او السلطة الاجرائية بات ممسوكاً من الجهة المقاطعة دون سواها. الأمر الذي يتعارض مع النظام الديمقراطي المنصوصعنه بدستور الطائف، وينحو به ليحوّله الى نظام إتحادي كونفدرالي طوائفي.
كذلك، عندما يتمّ تأليف الحكومة لا بدّ أن تُراعى الميثاقية أيضاً. بمعنى أن يُصار الى تمثيل جميع الطوائف المكوّنة للديانتين المسيحيةوالمسلمة فيها، وفق حكم الفقرة (أ) من المادة ٩٥ من الدستور، “تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة “،
معطوفة على المادة ٢٤ منه، كما وعلى الأعراف الدستورية المتعارف عليها.
وفي حال أحجمت طائفة عن المشاركة في أعمال أي من المؤسستين الدستوريتين الإجرائية او التشريعية. فإن ذلك الإحجام لا يشكّل بحدّذاته خرقاً للميثاقية، اذا كان قد تمّ مراعاة هذا المصطلح عند تكوين هاتين السلطتين.
وإنه بعد تكوينهما تكون الميثاقية مراعاة ضمناً، حينما تعملان وتقرّران وفق النصاب والأكثرية العادية او الموصوفة الواجبة دستوراً لصحةالمقررات التي تصدر عن كل منهما، كما تمّ تفصيله في القسم الأول أعلاه.
“محكمة” – الأحد في 2025/1/19