مقالات

أشكال الحكومات من منظار الدستور: إستبعاد الأحزاب تجويف للديموقراطية/جهاد اسماعيل

الدكتور جهاد اسماعيل*:
فور تشكيل الحكومة، بعد حراك 17 تشرين الأول 2019، تصدّر شكل الحكومة الواجب اعتماده كعنوانٍ إصلاحي كما يتم تقديمه أمام الرأي العام، تارةً بعنوان «حكومة اختصاصيين»، وأخرى بعنوان «حكومة غير سياسية»، فما هو موقف الدستور اللبناني من هذه العناوين؟
أولاً: تنصّ المادة 28 من الدستور على أنه “يجوز الجمع بين النيابة والوزارة، أمّا الوزراء فيجوز انتقاؤهم من داخل مجلس النواب أو من خارجه أو من كليهما.”
بالعودة إلى هذا النص، يتبيّن أن المشرّع الدستوري لم يكبّل الجهة المولجة تشكيل الحكومة بشكل معيّن لها، إذ من الجائز أن يكون جميع الوزراء من أعضاء المجلس النيابي (حكومة برلمانية)، أو أن يكون جميعهم من خارج المجلس (اكسترا برلمانية)، كما يجوز أن تضم أعضاء من المجلس ومن خارجه (حكومة مختلطة).
– لجهة الحكومة البرلمانية:
تماشى المشرّع الدستوري اللبناني مع المميّز الرئيسي للنظام البرلماني في الجمع بين النيابة والوزارة، وذلك عندما أجازه ولم يمنعه بنصٍ صريح. إلا أنه يطرح التساؤل الآتي: ما هو شكل الحكومة عند تأليفها من أعضاء من خارج المجلس النيابي؟
في رأينا، ما دام الدستور اللبناني لم يمنع الجمع، وقال بوجوب اقتران أيّ حكومة جديدة بثقة المجلس النيابي، فإنّ أيّ حكومة لا تتشكل من داخل المجلس النيابي لا تخالف أصول النظام البرلماني فور اعتماد القواعد البرلمانية الملحوظة في الدستور، إنما يطلق عليها مصطلح «اكسترا برلمانية»، علماً أن ذروة الحكومات البرلمانية كانت عام 1973 وضمت 22 وزيراً، من بينهم 21 نائباً برئاسة الوزير غير النائب تقي الدين صلح.
– لجهة الحكومة الـ”اكسترا برلمانية”:
أجاز الدستور اللبناني الجمع بين النيابة والوزارة، وأتاح الخيار بين الجمع والفصل، ما يعني أن الحكومة التي يجري تشكيلها من خارج المجلس هي «اكسترا برلمانية»، من دون أن يعني ذلك الخروج عن النظام البرلماني الذي جرت مراعاة خصائصه في وجوب اقتران الحكومات بثقة المجلس النيابي، وهو اتجاهٌ جرى تكريسه بعد حراك 17 تشرين الأول 2019، حيث استوجب التساؤل الآتي: هل تشكيل حكومة من خارج المجلس ينزع عنها الطابع السياسي ويعطيها، في آنٍ، طبيعة تكنوقراطية؟
في رأينا، بإمكان الحكومة أن تكون سياسية حتى ولو لم تتشكّل بكامل أعضائها من المجلس، لسببين:
الأول: يعرّف قاموس «لاروس» الفرنسي كلمة تكنوقراط بأنها تعني «كلّ رجل أو امرأة سياسية أو موظف كبير يقدّم المعطيات التقنية أو الاقتصادية على العوامل الإنسانية»، ما يعني أن الوزير التكنوقراطي يمكن أن يكون سياسياً يتمتّع بخبرة في مجال أو اختصاص معيّن.
الثاني: يظهر دور المجلس النيابي من الناحية الدستورية، والمنبثق عن القوى السياسية، في عملية تأليف الحكومة سواء في الاستشارات النيابية خلال تكليف الحكومة وتأليفها، أو في منح الثقة للحكومة كي تصبح مكتملة الأوصاف الدستورية، ما يعني أن حزباً سياسياً قد يعطي المنصب الوزاري إلى شخص غير نائب، إنما من الحزبيين أو المقربيّن له، تماماً كحكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي، من دون أن يزيل عنها الطابع السياسي.
– لجهة الحكومة المختلطة:
هي الحكومة التي تضم أعضاء من داخل المجلس ومن خارجه، وتزاوج بين مبدأي الفصل والجمع بين النيابة والوزارة. وقد شهد لبنان كثيراً هذا النوع من الحكومات، إذ تألفت حكومة بغالبية الثلثين من النواب في عهد الرئيس الياس الهراوي.
ثانياً: إذا كانت المادة 28 من الدستور لم تحصر الحكومة في شكلٍ معيّن، إلا أن المادة 95 المعطوفة على المادتين 22 و24، وخلال المرحلة الانتقالية، أي قبل إلغاء الطائفية السياسية، ألزمت، ولو بصورة غير مباشرة، تشكيل حكومة سياسية – طائفية بمفروض عبارة «تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الحكومة»، وهو نصٌ يسمح بالاستنتاج أن الطوائف التي خاطبتها هذه المادة تجد أساسها في تلك الجماعات السياسية الممثلة داخل مجلس النواب، ذلك أن الفقرة الأولى من المادة 24 من الدستور تنصّ على أنه «يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفاقاً لقوانين الانتخاب»، لتأتي المادة الثانية من قانون الانتخاب، في فقرتها الأولى، على تأكيد «توزيع المقاعد في الدائرة الانتخابية على الطوائف…»، بدليل أن المادة 22 من الدستور، ولو بصورة ضمنية، رسمت الطابع الطائفي للمجلس النيابي إلى حين انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني، وهو دليل أجاز القول إن المجلس جاء انعكاساً للطوائف المعنية في لحاظ المادة 95، ما لم يضع قانوناً انتخابياً من خارج القيد الطائفي بموجب الفقرة الثانية من المادة 24 من الدستور التي قالت بالتوزيع المتساوي، وتالياً النسبي، للطوائف داخل مجلس النواب، الأمر الذي يترك أثره الواضح في شكل الحكومات التي تعكس صورة التمثيل الحزبي داخل المجلس النيابي.
وإن كان هذا السياق يُفرغ مبدأ فصل السلطات من مضمونه، ويعطّل الدور الرقابي للمجلس النيابي، إلا أن هناك من يُخرج الأحزاب السياسية، بذريعة الأداء السياسي، من الديموقراطية، في حين أن الأحزاب السياسية، في الدولة الحديثة، ترتبط بالنظام السياسي الذي لم يعد من الناحية النظرية يقتصر على شكل الحكم والقواعد الدستورية، بل يشمل أيضاً القوى الاجتماعية المؤثرة في الحكم ومنها، بصورة أساسية، الأحزاب السياسية كسلطة فعلية تسهم، ولو بشكل غير مباشر، في آلية اتخاذ القرار السياسي، بمعنى أنها تجسّد البنى الفوقية للنظام السياسي. وبالتالي فإنّ إقامة الفصل بين هذه البنى عن النظام السياسي ليس مطلباً ديموقراطياً، إنما هو، نظرياً، تفريغ الديموقراطية من مضمونها، ما دام أن النظام السياسي في لبنان يقوم على نظرية «المشروعية الديموقراطية» القائمة أصلاً على فكرة الانتخاب، وتالياً على وسائله في التعبير عن الإرادة العامة، بموازاة اعتراف الدستور، ضمن المرحلة الانتقالية، بحقوق الطوائف كجماعات على غرار اعترافه بحقوق الأفراد، ما يعني أن مطالبة هذه الجماعات بحقوقها، ومنها التمثيل الذي عبّرت عنه الإرادة العامة، هو سمة الحياة الدستورية والديموقراطية وليس خروجاً عنها، وبالتالي أيّ استبداد في ممارستها يجري ضمن قواعد المشروعية الديموقراطية.
ثالثاً: نصّت المادة 66 على أنه «لا يلي الوزارة إلا اللبنانيون، ولا يجوز تولّي الوزارة إلا لمن يكون حائزاً على الشروط التي تؤهّله للنيابة»، وهذه الشروط نجدها في المادة 7 من قانون الانتخاب ومنها التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية، القيد في قائمة الناخبين (أي غير محكوم وغير ممنوع من ممارسة حق الاقتراع)، من دون الإشارة، على غرار المادة 7، إلى المؤهلات العلمية، بعدما كان قانون الانتخاب، قبل التعديل، يشترط «التعلّم» للترشّح وتالياً للتوزير، إلى أن جاء قانون الانتخاب الجديد بتعديلات غير منطقية آلت إلى استبعاد هذا الشرط، ما يعني أنه صار في مقدور توزير أشخاص غير مؤهلين علمياً، لا بل أميين طبقاً للنص المشكو منه.
وعلى ذلك، إن اشتراط «التخصص»، الموجب عملياً إلى استبعاد التمثيل الحزبي الذي يجد أساسه في النظام السياسي، ليس من قواعد أو شروط التأليف، إنما من مقتضيات الخطاب السياسي الصرف ليس إلا.
لذلك، فإنّ المطالبة بشكلٍ محدد للحكومات حقّ، إلا أنه لا يجوز إلباسه اللباس الدستوري لتعرية النظام السياسي بذريعة الأداء الذي يتطلب إصلاحاً دستورياً يبدأ في تطبيق مندرجات أخرى للمادة 95 التي تنشد الدولة المدنية عبر إلغاء الطائفية السياسية، وبالتالي فإن الإبقاء على المرحلة الانتقالية، أي على مرحلة تمثيل الطوائف، يتطلّب مراعاة ثوابتها وحقوقها، أما الإقلاع عنها والعدول عن هذه المرحلة فيعني إلغاء كلّ مرتكزات الطائفية، وحصرها، عندئذٍ، في مجلس الشيوخ كما تنشده المادة 22 من الدستور فور انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي.
* كاتب وأستاذ محاضر في القانون الدستوري. نشر هذا البحث في جريدة “الأخبار”.
“محكمة” – السبت في 2025/2/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!