ألهوى يقتل الهُوِّيَّة (عن استقالة الحريري ومارسيل غانم والاستقلال والمقاومة) /عصام كرم
النقيب عصام كرم:
قد يهون العمر إلاّ ساعةً وتهون الأرض إلاَ مَوْضعا
في 4 تشرين الثاني 2017 حَدَث ما لم يحدث من قَبْل . ولنعترف! حدث ما لم يتصوّره أحد. لأوّل مرّة في تاريخ الدول، يقدّم رئيس حكومة إستقالة حكومته وهو في “مضافة” دولة أُخرى. أنا أقف عند هذه الواقعة لأقول إنّ هذا، في ذاته، أمر مرفوض . فإذا كان مرفوضاً التدخُّل الإيراني، فليس الفعل السعودي عملاً سيادياً. خصوصاً أنّ مقدّم الإستقالة لم يَبْدُ طليق اليد … ولا طليق اللسان … ولو هو عَمَد، بفعل تهذيب، إلى القول إنّه، حيث هو، في داره … في مملكة الخير.
ردّ الفعل الرافض أمر طبيعي من صوب دولة مستقلّة . مثلما كان ردّ الفعل أمراً طبيعياً على الشخصين اللذين تناولا رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النوّاب، بالكلام الجارح، وهما في ضيافة وسيلة إعلام لبنانية … مرئيّة ومسموعة … يدير حلقة المناقشة فيها إعلاميّ ناجح قدير. وتطلع الضجّة. الإعلام حرّية … والحريّة مَصونة لا تُمسّ . هذا صحيح. الإعلام اللبناني، على هِناته الهيّنات، أحياناً ، إعلام راقٍ كتب لنفسه في المستوى المنيف. على أنّ كلّ هذه الضجّة كانت تستوجب من الصديق مرسيل غانم كلمة واحدة تلفت الضيفين إلى أنّهما تجاوزا حدود الإقتبال … ومرسيل “عيّوق” بما فيه الكفاية ليصوّب البوصلة بلباقة مأثورة فيه … فلا يُساء إلى الضيف. ولا إلى الحرّية. ولا إلى رموز الوطن. وشاء وزير العدل تصويباً فقال بوجوب تطبيق القانون على المتجاوزين. لكنّه ، سامحه الله ، قال ذلك بكلام يقع تحت أحكام قانون العقوبات، وهو المحامي القاضي وزير العدل … بدّو يْكحّلها عماها. فاضطّر، إذذاك ، الإعلامي الرصين المستشار جان عزيز ، إلى الكلام ، وهو، منذ دخل القصر في 31 تشرين أوّل 2016 ، كان قليل الكلام.
وكلامٌ بعد . لو استضاف الإعلام السعودي ضيفاً لبنانياً، هل كان يجيز له الإلتفات، مجرّد الإلتفات، إلى العرش، إلاّ بالمهابة والتكريم؟ لماذا نريد لبنان مكسر عصا، وهو الذي حَمَل، عن العرب، وزْر اللجوء الفلسطيني من سنة 1948، ووزْر اللجوء السوري من سنة 2011، وهو، لبنان ، ليس ببلد لجوء … لا في تكوينه الجغرافي . ولا في إمكاناته. ولا في تكوينه الديموغرافي . في الخليج يدٌ عاملة لبنانية؟ نعم . لا ننكر ضيافة الخليج . لكنّ الضيف اللبناني في الخليج، العامل في مجالات التخصُّص، يعطي بقدْر ما يأخذ. وإلاّ انتفت الحاجة إليه.
من 4 تشرين الثاني 2017 صارت نظرتنا إلى سعد الحريري بما هو رئيس حكومة لبنان . بهذه الصفة تطلّعنا إليه … خصوصاً يوم هو يقدّم من الرياض إستقالة كان يقدر على تقديمها في بيروت. وما كان تغيَّر شيء. ولكنّا في غنى عن سياسة الصدمة التي يعتمدها دونالد ترامب. وما كان أحد اعترض .لأنّ الرأي رأي رئيس الحكومة. ولأنّ ما أحد معجب بفعال الحكومة اللبنانية إلى حدّ رَدْع رئيسها عن تقديم استقالته.
أسباب الإستقالة ؟ صحيح . هي شيء مُهمٌّ أساس . لكنّ الردّ اللبناني الغاضب ما كان اعتراضاً على الإستقالة، بل على شكل الإستقالة. على مكان تقديمها. على حالة رئيسها، وما بدا أنّه كان مقيماً في أُوتيل 5 نجوم. وإلاّ، لما كان داعٍ للتدخُّل الفرنسي . ولا كان داعٍ للذهاب إلى باريس ، ثمّ إلى القاهرة ، قبل أن يعود إلى بيروت يشارك في مظهريّات الإستقلال.
مظهريّات قلت. لأن الإستقلال اللبناني توْقٌ في النفسية اللبنانية منذ فخر الدين الثاني المعني … ثمّ ، نسبياً، منذ بْشير الثاني الشهابي. والإنصاف يقتضينا القول إنّ لبنان لم يعرف رجل دولة في حجم فخر الدِّين، ولو أنّ فخر الدِّين عجز عن اتّخاذ القرار اللبناني الذي ظل عجزاً يُثقل عنق الوطن والدولة مذذاك.
الإستقلال؟ نعم. نستذكره عيداً … حتّى يظلّ، على الأقلّ، تَوْقاً في النفسية اللبنانية. وحتّى نقول إنّ هذا الشعب … الشعب اللبناني … شعب التناقضات والنقائض … يتحسّس القشعريرة اللبنانية في اليوم الجَلَل. مرّتين توحّد الشعب اللبناني. مرّةً، حول استقالة سعد الحريري … شكلها وإطارها ومكانها. ومرّةً في سنة 1943 يوم اعتُقل رجال ألإستقلال وذهب بهم رجال غوتيي والسينيغاليون إلى راشيّا. يومذاك … مثل اليوم … أخطأ الإنتداب التقدير. لأنّ القاصر، عند الوصي، يظلّ قاصراً، ولو رَشَد . يوم تولّى فيصل حكم العراق، وكان بعد قاصراً، أُقيم عليه وصيّاً خاله عبد الإله. ويوم رَشَد فيصل واقتعد سدّة العرش ، توجّه إليه خاله الوصيّ يقول: أنا، اليوم، أُقبّل عارضيّك لأنك إبن أُختي. ثم ركع وقال: واليوم، أقبّل يدك لأنك صرت موْلانا. قال هذا … وظلّ يتصرّف كوصي … كيف آنّ دوتريش مع لويس الرابع عشر، وهي أمّه زوجة لويس الثالث عشر الوصيّةً على الملك الولد إبن السنوات الخمس … ظلّت وصيّةً بعدما رَشَد… هي والكاردينال مازاران.
في سنة 1920 كان لبنان الكبير. أعلنه الجنرال غورو، أوّل مفوّض سامٍ من سبعة مفوّضين سامين … أخرهم غبرييل بويو Puaux ذهب إلى فرنسا في صيف 1939 يوم استقال إميل إدّه من رئاسة الجمهورية، وكان انتخب رئيساً في 21 كانون الثاني 1936 ضدّ بشارة الخوري بكثرة 14 صوتاً من 25 كان يتألّف منهم المجلس التمثيلي، وما كان صار، بعد ، مجلس النوّاب. كان على المجلس التمثيلي أن ينتظر تصديق الدستور اللبناني في سنة 1926 حتّى يصير مجلس نوّاب.
غورو أعلن لبنان الكبير. لكنّ غورو ترَدّد قبل أن يفعل. كان يريد لبنان دويلة تُلحق بالدويلات السورية التي أُنشئت في مطلع الإنتداب، وهي دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويّين. ألمسيحيّون اعترضوا. وفي النتيجة وافق غورو … على أن يكون لبنان الكبير كما في أوّل أيلول … على أن يلتحق اللبنانيون بالدويلات السوريّة يوم يرون نجاحها. غورو … هكذا فكّر. لكنّ لبنان الكبير، بعد ضمّ الأقضية الأربعة، كان تهادياً لتراث بدأ مع فخر الدِّين. وحدود لبنان الكبير هي هي حدود فخر الدِّين. لا حدود القلم الأحمر الذي حمله كليمنصو.
* * *
نكرّر . مرّتين توحّد اللبنانيون. مرةً ، حول رجال الإستقلال بعدما اعتقلهم هيلّلو بأمر من ديغول، وكان في الجزائر العاصمة ينقله كاترو، وكان في القاهرة. ومرةً ، حول سعد الحريري بعدما صار في 4 تشرين الثاني 2017. تشرين الثاني 1943 يستذكره تشرين الثاني 2017. ما كان في المرتين لفرز اللبنانيين وحدّ اللبنانيين المتعالين على لعبة الفرز . وفرنسا هي هي . في سنة 2017 مثلما كانت في سنة 1943. مع الفرق أنّها ، في 1943، تصرّفت تحت الضغظ الإنكليزي. أمّا في 2017 فكانت مدفوعة بحسّ فرنسي يمثلّه ماكرون “الأُوروبي” المتطلّع إلى اُوروبا المواطن، لا إلى اُوروبا النُخب. لأنّ أُوروبا المواطن هي القادرة على أن تؤمّن للمواطن سيادته. اُوروبا الموحّدة، ذات السيادة الحقيقية، لا اُوروبا بروسّيل تُصدر قرارات تندم عليها ، وتتنكّر لها ، فور عودة أهل القرار إلى عواصمهم. أُوروبا الثنائي الألماني الفرنسي ماكرون – ميركل المستعيد شارل ديغول وكونراد أديناور في سنة 1946 بين باريس وبُوْن، عاصمة ألمانيا الغربية.
* * *
لبنان أوّل أيلول فُرض على غورو. وما ارتضاه المسلمون لأنّه انتزع الأقضية الأربعة من سوريا. مثلما ما ارتضى المسلمون دستور 1926. ومؤتمرات الساحل حكاية معروفة . لكنّ استقلال 1943 غيّر أشياء كثيرة، ولو من دون أن يفعِّل ما غيّر.
* * *
ألهوى يقتل الهُوّية؟ لا! أللبنانيون أثبتوا ذلك مرّتين منذ تاريخ استقلالهم. لعلّهم لا ينسون ذلك. لأنّ عزّة الوطن ليست في التناول اليومي. وكرامة الرموز، على علاتهم، موفورة أبداً سيادة القانون وبهمّة الشجعان الطلاّعين … ووزراء الخارجية العرب، كما عادة العرب، وكما عادة اللبنانيين، يقفون عند عبارات التحدّي … ويقعدون على عبارات النأي بالنفس وربط النزاع …أو أكثر من ذلك بقليل.
وإلاّ … فماذا ؟ ألحرب؟ من يحارب عمّن؟ هل نستعيد تيري رود لارسن والقرار 1559؟ كان يروح ويجيء ويعطي لبنان مِهَلاً ، قال، لتنفيذ القرار … وهو عارف أنّ القرار لن تنفّذه إلاّ إسرائيل. إميل لحود مدّد. والسلاح بقي … ويجب أن يبقى … ما دامت إسرائيل تحكي الكلام الكبير … على وجودها حيثما كان وضرْبها حيثما كان يوم مصلحتها تقتضي ذلك. فلماذا يجوز للعدوّ ما لا يجوز للمقاومة؟
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 24 – كانون الأوّل 2017 – السنة الثانية)