العلاقة بين القضاء والإعلام/فادي مصري

النقيب فادي مصري*:
الحضور الكريم،
لم تكن يوماً العلاقة بين القضاء والإعلام علاقة سوية، بل بينهما إشكالية متوترة وهذا طبيعي لصعوبة التوفيق بين حقيّن أساسيين لكل منهما، وصعوبة مساكنتهما: الحق في محاكمة عادلة مشفوعة بقضاء نزيه ومحايد، والحق بالتعبير عن الرأي، وهو أساس في المجتمعات الحرة والديمقراطية. الأول يعمل على قاعدة سرية المذاكرة، وقرينة البراءة، والثاني يعمل على كشف كل ما هو سرّ ونشره، وغالباً على قاعدة أنت متهم الى حين إثبات براءتك.
الأول يحتاج الى الصمت والهدوء ليلفظ حكمه، والثاني يعيش على الصخب والضجيج والفضائح استباقاً للحكم.
الأول يحتاج الى الصفاء والسكينة، والثاني الى السرعة والنقل المباشر.
أذكرّ هنا بأن حرية الرأي هي حق دستوري مكرّس في الفقرة “ج” من مقدمة الدستور وفي المادة ١٣ منه، كما هي مكرّسة في كل دساتير العالم الحر. بل إن بعض الدساتير رفعه الى مرتبة الحق الأساسي droit fondamental ، كالدستور الفرنسي، والدستور الأميركي، وذهبت محكمة حقوق الانسان الاوروبية CEDH في أحد أحكامها الى الاعلان عن أن حماية حرية الرأي يجب أن تسود ليس فقط في الأفكار والمعلومات الايجابية، بل أيضاً في تلك التي تسيء أو تجرح أو تصدم حمايةً للتعددية والتسامح والإنفتاح، وهي مفاهيم من دونها لا ديمقراطية ولا مجتمع حرّ.
حتى ان المحكمة الاميركية لحقوق الانسان Inter-American Court ذهبت الى اعتبار حرية الرأي واجبة لتكوين رأي عام، وهذه الحرية شرط ملازم لتطوير الأحزاب السياسية، وعمل النقابات والمجموعات الفكرية والعلمية، وبشكل عام لكل من يرغب في التأثير في الرأي العام. وهي الوسيلة التي توفّر للجماعة المعلومات الكفيلة بالمساعدة على اتخاذ الخيار الصحيح، وهي ليست حرية شخص فحسب، بل حرية مجتمع بأكمله، وإن أي مجتمع لا يملك المعلومات الكافية وحق الوصول اليها هو مجتمع غير حر:
It can be said that a society that is not well informed is not a society that is truly free. Freedom of expression, therefore, is not just the right of individuals, but of society as a whole
لا مانع من أن يقوم الاعلام بدوره في كشف المستور بدءاً بالمساحات المظلمة في السياسة والفساد، فالخفي يجب أن يثير حشرية الإعلام ليكشفه، وما يعصى عليه يحفزّه على استخدام قوته ووسائله في شتى المجالات لسوقه الى بيت الطاعة.
ولا مانع من أن يكون الإعلام السلطة الرابعة، مشفوعاً بتأثيره المتعاظم على المجتمع، ومدفوعاً بالتطور العلمي والتكنولوجي.
لكن فلنتفق في المقابل، أن بعض الإعلام عندما يناقش ملفاً معروضاً أمام القضاء، لا يكتفي بالعرض المجرد، ولا حتى بالتقصير القضائي وبطء العدالة في حال وجودهما، بل يُنَصّب نفسه قاضياً ومحكمة، بل وديّاناً ويذهب الى لفظ الحكم وجاهياً.
فلنتفق اذاً على أن العدالة لا يمكن أن تصدر في الشارع ولا في الإعلام ولا على وسائل التواصل.
وموجب التحفظ الذي يلزم القاضي، وأيضاً المحامي، أول ما يلزمهما تجاه الإعلام، وهذا ما حدا بالمستشار الملكي في بلجيكا أن يصدر تعميماً باسم الملك منع بموجبه القضاة من التعريف عن أنفسهم بصفتهم القضائية خلال التفاعل على وسائل التواصل، باستثناء تلك الخاصة بمهنتهم. وفي هذا الكثير من الحكمة لأن على القاضي الإمتناع عن كل ما يعطي المتقاضين أي حجة أو ذريعة من شأنها الإنتقاص من حياده واستقلاليته، وما ينطبق على القاضي ينطبق أيضاً على المحامي.
الحضور الكريم،
إن إيجاد مساحة من التوافق بين القضاء والإعلام ممكنة، بل متاحة وهي كفيلة بترسيم حدود واضحة بين سلطة العدالة وسلطة المعرفة، وهي تقوم على التالي:
أولاً: إعادة العمل بالاعلام القضائي المتخصّص الذي وللأسف شهد تراجعاً كبيراً في السنوات الماضية بعد إلغاء الصحف الصفحات القضائية فيها، والاستغناء عن الأقلام القضائية.
ثانياً: عدم تسييس التغطية القضائية، وهذا ما نفتقده للأسف أيضاً بحيث إنّه اذا كان الخبر القضائي ذا صلة بالسياسة، قد يحتلّ الصفحة الأولى، والخبر الأول في الإعلام المرئي والمسموع، وترند trend في وسائل التواصل، وإلا يُنفى الى الصفحات الداخلية وفي مساحة أقصاها ٦٠٠ كلمة، أي أقل من خبر عادي.
ثالثاً: وضع آلية إعلامية لدى مجلس القضاء الأعلى تقرّب المسافة بين القضاء والاعلام، وتُصدر البيانات الإعلامية ذات الطابع الرسمي شرط أن تتضمن معلومات تجيب على تساؤلات المواطن، وبالتالي الإعلام، وتقلّص الى حدّ كبير اجتهادات الاعلام التي غالباً ما تكون مسندة الى خبر إعلامي وليس الى خبر قضائي. وقد رأينا في الفترة الأخيرة منحىً في هذا الاتجاه بعد اكتمال عقد مجلس القضاء الأعلى (القاضي رودني ضو تلا مداولات مجلس القضاء الأعلى بعد اجتماعه). والرهان هنا على مجلس القضاء وعلى القضاة الشباب الذين هم أقرب الى التعامل بانفتاح مع الإعلام. وقد نصل بعد استعادة الثقة، الى لجوء القاضي الى الإعلام كضمانة إضافية لمنع تسييس الملف أو إهماله، وقد حصل ذلك في فرنسا مرتين على الأقل: الأولى عندما عرض قاضي التحقيق تييري جان- بيار ملف URBA على الإعلام عام ١٩٩١، والثانية في قضية الفساد في نادي مارسيليا لكرة القدم. قرّر يومها المدعي العام المكلف بالقضية Eric de Mongolfier اللجوء إلى الإعلام باسم القانون، وباسم الشفافية، باسم حق اطلاع الرأي العام على المعلومات.
رابعاً: عدم إحالة الاعلاميين الى محكمة المطبوعات، ما يخلق بيئة صديقة بين القضاء والاعلام، من دون التساهل في المساءلة والمحاسبة.
خامساً: إيجاد تخصّص يجمع القانون والاعلام ويخرّج إعلاميين قضائيين، لا فرز صحافيين عامين يغطون الخبر القضائي أو المحاكمة القضائية كأنها خبر صحافي. وفي المقابل، إضافة منهج جديد لدى معهد الدروس القضائية حول إشكاليات العلاقة بين الاعلام والقضاء.
نعم إن ايجاد بيئة صديقة بين القضاء والاعلام أمر ملح وممكن، وإن تحويل القضاء والاعلام من خصمين الى حليفين أمر متاح الانجاز، بل يجب العمل عليه خدمة للحق واحتراماً لحق التعبير.
* كلمة نقيب المحامين في بيروت فادي مصري في الندوة التي نظّمتها وزارة العدل بعنوان:” القضاء والإعلام” برعاية رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في فندق “فينيسيا” في بيروت.
“محكمة” – الأربعاء في 2025/4/30