أنا وصاحبي وشؤون الزمان /النقيب عصام كرم
بقلم عصام كرم :
… وقال صاحبي: هو الميلاد … ميلاد يسوع المسيح. ميلاد المعلّم الهادي.
قلت: في شهر كانون أوّل إطلالتان … مولد وميلاد.
قال: كلاهما نور. فليس للأنوار أن تنتظر إبن عربي في القرن الثالث عشر حتّى تتهادى المعارف. وليس للأنوار أن تنتظر القرن الثامن عشر لتشّع ثنايا الهدايات. أجمل ما قيل في الميلاد قاله أحمد شوقي. وأجمل ما قيل في المولد قاله كتّاب مسيحيون كثيرون.
قلت : ليت اللبنانيين يتّعظون !
قال: أنت تعرف لبنان. هو لبنانان منذ كان. ولا نبعد. نبقى في القرن العشرين. أفلا تذكر أنّ “خطّ التران” كان فاصلا” بين اللبنانَيْن… إلى حدّ أنّ “الوطني” من هذا الصوب “خائن ” هناك. والخائن من ذاك الصَوْب “وطنّي” هنا. لبنانان ما توحّدا إلاّ في أزمنة قليلة. من الحزبيّة الأُولى، القيسية واليمنية، في الجبل، إلى 8 و 14 آذار. لبنانان يحاولان التعايش… فلا يتيسّر لهما إلاّ في نَدَرى. وهيهات! تدوير الزوايا ساعد اللبناني على قبول الآخر. و”الميثاق” و “الصيغة” في 1943 كانا وجه الإستقلال. وجهه. لا ركيزته. لأنه ظلّ، مذذاك، بلا ركيزة. يعتمد التسويات ومسح الذقون وتدوير الزوايا، كما تعريب العبارة الفرنسّية arrondir les angles . ” ألوحدة الوطنية” في 43. لا غالب ولا مغلوب في 58. ” ألوفاق الوطني” في السبعينات. كلّها … هذه التسويات … كانت تسقط عند أوّل هزّة … أوّل هزّة لا تحتاج إلى صهيل الأفراس واعتداد الفرسان وفجور المدافع. تعيين موظّف. نقل موظّف. كان كافياً لإسقاط التسويات. ويوم الإقتتال … يوم افتداحه خصوصاً… يُطرح الصوت. ويكثر المصلحون. وتعود التسويات.
ويتابع صاحبي:هل تصدّق كلام”النأي بالنفس”؟ من طلع بهذه الكلمة المتثائبة المعاني؟ ونصل إلى “الحياد”؟ هل تؤمن بالحياد؟ أكثر. هل لبنان قادر على النأي بالنفس أو على الحياد؟ ألحياد قراران: قرار وطني. وقرار دولي. قرار وطني جامع يقول بالحياد. وقرار دولي يؤكّد هذا الحياد. فأين لبنان من هذا؟ بل أين العالم كلّه من الحياد؟ سويسرا أُريد لها أن تكون محايدة في النزاع الكوني. مثلما اُريد لـ عُمان أن تكون محايدة في النزاع الخليجي. وإلاّ … تُفتح لعبة الإنفصالات. سْلوبودان ميلوزيفتيش اعتمد سياسة عنصرية برّرت، نوعاً ما، إنفصال كوسوفو. كاتالونيا ليست كوسوفو. ولا أربيل. ولا “الـ كيبيك الحر” ، في كلام شارل ديغول. ألكاتالونيون وقّعوا مع ماريو راخوي، رئيس حكومة إسبانيا، على فرانكو آخر. والأكراد عرفوا مع حيدر العبادي ما عرفوه مع صدّام حسين ورجب طيّب إردوغان وآخرين.
ولا يسكت صاحبي، وهو ليس إليّ ألـ “الصيني الصغير” إلى هنري دومنترلان. ولا “المجنون” إلى إيراسْم. صاحبي مستقلّ جدّاً. مثقّف جدّاً. عَروف باللغة وبعضوية اللغة في تكوين الأُمّة. والأمّة … ما الأمّة؟ أرض تُطلع رائحة التراب بعد المطرة الأُولى. وتراث لغة وتقاليد. صور تاريخية. موازنة العدالة الإجتماعية. واللغة أساس. راسين في أتالي كتب: تسلّحوا بالجرأة وبإيمان جديد. فوجلا Vaugelas أخذ كتاب القواعد نحو مبادىء سليمة. فكان يقال في الفرنسية إنّها لغة فوجلا.
… ولا يسكت صاحبي:عندنا صارت اللغة شيئاً هملاً. مع أنّ كرامة اللغة من كرامة الأمّة. والعامّية ليست اللَّغة. لها مقامها. لكنّ “المقام” يبقى للغة الضاد. لغة الضاد … ما عندنا فقط … في كلّ بلدان العرب تُهان كلّ يوم ويُعتصر رونقها كلّ يوم وتُمتهن مهابتها كلّ يوم. مرّات عن جهالة. ومرّات عن عصبية. ومرّات نكاية بأهلها. كأنّ الشعوبيّة تستعاد في العمل على الإزراء بكلّ ما هو عربي. يكتبون “أكّد على” . و” عانى من”. مع أنّ فعل عانى وفعل أكّد يتعدّيان بذاتهما، لا بحرف الجرّ. ويكتبون “شَيْطن” و “أبلس” لأنّهم فتّشوا عن تعريب لـ diaboliser فلم يجدوا. فاجتهدوا وزادوا على العربية عبارة غير ناجحة. ولماذا “شيطن” ما دام فعل “سفّه” وفعل “مسخ” وفعل “شوّه” موجودة لتؤدّي المعنى المطلوب؟ ويقولون “تحفّظ على”، مع أنّ فعل ” تحفَّظ ” يتعدّى بـ عن أو بـ من … فيقال تحفّظ عنه وتحفّظ منه. ويختم صاحبي الكلام على اللغة: سرّ اللغة العربية هو معرفة التعدّية بحرف الجرّ. من أتقن ذلك كان مديناً لـ سيبوبه ومسترشداً القرآن ونهج البلاغة وكليلة ودمنة والأغاني … وإضافة إسم الجاحظ إلى هذه المكارم لا يندرج في حالة لزوم ما لا يلزم.
قلت: عزّيتني. لأنّي مُتّهم بالحرص على اللغة من دون أن أكون متزمتّاً. على أنّ فترات السماح عندي لا تتجاوز المبدأ القائل إنّ الخطأ الشائع خيرٌ من الصحيح المهجور.
قال: كفانا كلام لغة. هل تريد أن ننتقل إلى كلام الوطن، فنعود إلى ما واجَه لبنان من 4 تشرين الثاني 2017؟
قلت: هات!
قال: أنا معك في أنّ ما جرى، يومذاك، غير مقبول. وأنا معك في أنّ لبنان وقف الوقفة الكريمة. لبنان الرسمي. وخصوصاً لبنان الشعب. لبنان الناس. لبنان الإستقلال. لبنان السيادة. أقول هذا مع علمي أنّ للسيادة في المقلب الآخر معنى آخر. أتذْكّر بليز باسكال العبقري الشاب الشارد في مطلعه والعائد إلى شيء من التفكير الإيماني الهادىء بعد حادثة Pont de Neuilly ؟
وتابع: آل الحريري وقفوا الوقفة الحميدة. والسنّة وقفوا الوقفة الحميدة العاقلة المحترِمة ذاتها ووطنها. فلم يحصل ما أراده الذين فكّروا في استعادة ما كان لـ بشارة الخوري ولـ سليمان فرنجيّة. فاستقال الأوّل بعدما عيّن ناظم عكّاري رئيس حكومة. وعيّن الثاني، أمين الحافظ رئيس حكومة.
قلت: اللبناني خليقٌ بالمسؤولية في اليوم الجهْم.
قال: نعود إلى تغيير الخرائظ. زمن تغيير الخرائظ صعبٌ مجيئه. وزمن العودة عن الكيانات التعدّدية القائمة لم يأت. ألـ بريكسيت يقوّل الإنكليز فعل الندامة على لسان تيريزا ماي العاجزة عن الخروج والعارفة أنّ العودة ما عادت ممكنة بعد الإستفتاء. ناس مثل نيجيل فاراج، مستر بريكسيت، كما يسميّه دونالد ترامب، استقتل من أجل اليريكست، وهو يعرف أنّه يجاري في مسعاه كبيرين، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، لعلّه يجعل من إنكلترا حصان طرواده في أهداف الرئيس الأميركي والرئيس الروسي.
قلت: أوليس الأُوروبيون مذنبين في هذا؟
قال: اَلذنْب الكبير ذنْبهم. لأنّ أُوروبا الإتّحاد خيبّت الآمال. ألشعوب الأُوروبية تفقد إيمانها بالإتّحاد يوماً بعد يوم. لأنّ “الأوروبيين” جعلوا وجودهم مقتصراً على النَّخَب. من هنا … إلتفات ماكرون إلى اتّحاد الشعوب.
قال: الأُوروبيون وسّعوا إيراسموس. وهذا لا يكفي. لأنّ النظام التعليمي ليس عمود الهيكل في أُوروبا الإتّحاد.
قلت: تسمح لي أنّ أسألك عن كلام دونالد ترامب ينعت بالجنون كيم جونغ أُون؟
قال: أنا أبحث عن مطرح العقل بين الإثنين. مع اقتناعي بأنّ لـ كيم جونغ أُون تطلّعاً آخر عبر النوويات والصواريخ. ثمّ … ألم تَرَ ما فعل ترامب بالقدس؟ ما عدنا نريد، بعد 7 كانون الأوّل، نظْم القصائد. ولَكَم أضحكتنا وأبكتنا الدموع الجاهزة. ما يجب أن يكون، بكلمة واحدة، هو ردّ في حجم الضربة. مقاومة متحرّكة فاعلة مستمرّة. قلنا كثيراً بالإنفتاح. بالتفاوض. بغصن الزيتون. بالسماح. فوصلنا إلى افتقاد القُدس. بيت المَقْدس… دار الوَرَع التي ما دَخَلها موسى إلاّ بعدما خَلَع نَعْلَيْه. فلا سماح، بعد اليوم، مع أعداء السماح. سقوط الإتّحاد السوفييتي فتح العين على نهضة الجُنوب… ألعالم الثالث. أفريقيا. مقاومة الإستعمار. رفض الأَثَرة … من مارتن لوثر كينغ إلى مالكوم إيكس إلى باندونغ. كلّ المظلومين البائسين إسْمهم، اليوم، ألقدس. فمن له بمعاداة هؤلاء المندّدين بالكفّ وبالحجارة وباللسان؟ هؤلاء قوم افتُدحوا … فحذار نقمة المظلومين!
قلت: مؤسفٌ أن نقف عند هذا الحدّ.
قال: الأيّام لنا… وقصص الإنسان، مثل منشأه ومآله، حديثٌ ذو شجون! فالقصّة، قصّة الإنسان، لا تقف عند التسوية والتريُّث والنأي بالنفس وربط النزاع … كما عند اللبنانيين.
قلت: نسيت الحوار. وهو شيء يظلّ معقولاً حتّى يُمارَس … ونسيتُ التفريق بين المقاومة والإرهاب، وهو الموضوع الثَّبْت الذي لا يجوز أن يحيّر أهل هذا الزمان!
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 25 – كانون الثاني 2018- السنة الثالثة)