نقابة المحامين إلى أين؟
كتب المحامي حافظ جابر:
منذ أوساط الستّينات حين انتسبت إليها، يجهد حكماء المحامين والعاملين في شأنها العام على تجنيبها منزلقات السياسة والحفاظ على هيبتها ووحدتها.
وصمدت النقابة في وجه العواصف متمسكةً بثوابتها الوطنية وحرصها على إيلاء الشأن المهني الجانب الأكبر من رعايتها وعنايتها.
وبقيت النقابة متماسكة برغم تعاظم العدد، وبقي الشأن الإنتخابي محصوراً بين المرشّح والناخب.
تطالعنا منذ مدّة مواقف للأحزاب علناً وعلى صفحات الجرائد بتأييد فلان أو فلان لعضوية مجلس النقابة ولمركز نقيب.
وكأنّ نقابة المحامين أصبحت مسرحاً لتقاسم النفوذ السياسي ولوضع اليد عليها. إنّ ثوابت نقابة المحامين الوطنية لم تكن موضع شكوك في أيّ وقت من الأوقات.
كما أنّ اهتمامها بالشأن المهني لأبنائها أمر يعنيها وصاحب الدار أدرى بالذي فيه، وأهل مكّة أدرى بشعابها.
لا ينكر أحد حقّ الأحزاب في ممارسة دورها السياسي على مساحة الوطن، لكنْ إنطلاقاً من مبدأ الحرص على استقلالية قرار النقابة في الشأنين الوطني والمهني لا يجوز تكبيلها بفواتير يصعب سدادها.
وغير مقبول إرتهان النقابة وتسخير إدارتها لنفوذ أيّ فريق مهما علا شأنه. إنّ كشف الحساب يقدّمه الفائزون بمناصبها للمحامين وليس لسواهم على ضوء تاريخهم وبرامجهم وفعاليتهم وقدراتهم على خدمة أعضائها وإعلاء شأنها.
فالمرشّح مسؤول تجاه المحامين وليس تجاه الأحزاب، وعليه التواصل مع زملائه وكسب ثقتهم وتأييدهم، وإنْ تحوّل هذا المنحى لاقتصاره على مراجعة الأحزاب وحدها وكسب تأييدها وخلق مراكز قوى في داخلها، يتناقض مع ثوابتها في الإستقلالية وحرّيّة القرار المفترضة.
دعوتنا هي للعودة إلى الجذور وإعادة إحياء التواصل بين المحامي والمرشّح.
محزن أن تتخذ قيادات الأحزاب قرارات تتعلّق بتوجّهاتنا ومستقبلنا ومن سيمثّلنا في نقابتنا، هو دور يلغي دورنا كهيئة ناخبة عالمة بأوجاعها وبسيرة من سيؤتمن على مقدّراتها.
ولا يحدّ من ذلك تعاظم عددنا وصعوبة العمل الإنتخابي ضمن هذا التكاثر، إذ إنّ من ينذر نفسه لمثل هذه الخدمة العامة الفاضلة، عليه أن يتحسّب ويتفرّغ لها، فلا يكفي أن نتوجّه إلى الأحزاب ونحظى بتأييدها وتنتهي المعركة بتحالفات أحزاب.
كنت أفترض أنّ الأحزاب ستؤسّس إلى ما يجاوز المصالح وحسابات الربح وتسجيل المواقف، وأن تعلن ترك الحرّية لمحازبيها المحامين كي يتصرّفوا بما تمليه عليهم ضمائرهم وثوابتهم ومعرفتهم، وأن يسقطوا كلّ ما يتعلّق بأهوائهم ومصالحهم وسياساتهم.
وربّما سينبري أحدهم في يوم من الأيّام لاتخاذ مثل هذا الموقف الذي سنهنّئهم حينئذٍ عليه. هذا التوجّه الذي أطمح إليه لا ينال مطلقاً من مصداقية وفعالية من يحظون بدعم هذه الأحزاب. حيث ربّما وفي وقت الخيار الحرّ أن يكونوا هم أنفسهم موضع الإختيار الأمثل.
لكنّ القضيّة ليست في الأشخاص، بل في المبدأ الذي يحكم هذه العملية.
لكلّ منا توجّهه السياسي ونظرته إلى المشهد العام في البلاد. وهذا لا يتناقض مع مبدأ تجنيب النقابة منزلقات السياسة حفاظاً على كرامتها ووحدتها.
إنّ كرامة المحامي المهنية مرتبطة بكرامة نقابته وباستقلاليتها وحرّية قرارها. وأنا أزعم أنّني برغم توجّهي السياسي الذي اعتزّ به حريص على ذلك، فالمهنة هي كرامة تضاف إلى كرامتنا كبشر، وكلّ مساس بها يعتبر مساساً بنا كمحامين.
فمنذ سنة 1929 أيّام انتساب المرحوم والدي إلى هذه النقابة إلى أيّامي وأيّام أولادي الذين يتابعون المسيرة، لم يتغيّر نهجنا في الحرص عليها، ذلك أنّ نقابة المحامين حصننا ومستقبلنا وكرامتنا في العيش الكريم.
أردت هذه المناشدة للأحزاب وللمحامين بعيداً عن حمى الإنتخابات التي تجري في تشرين الثاني من كلّ سنة، وذلك إفساحاً في المجال للنقاش بحرّية ودون ضغوط أو مصالح لأيّ كان.
فهل سنضع نقابتنا على درب الخلاص والحرّية، أم على طريق تعميق الأزمة وتفاقمها؟؟
إنّ غداً لناظره قريب، حمى الله نقابة المحامين وحمى لبنان.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 18- حزيران 2017).