أبحاث ودراساتميديا

المجلس الدستوري وإبطال آلية تعيين موظّفي الفئة الأولى/عصام اسماعيل

د. عصام نعمة إسماعيل:
يعتبر موظّفو الفئة الأولى أعلى القيادات الإدارية في الدولة، ولا يعلوهم إلاّ الوزراء الذين هم أساساً رجال سياسة وأعضاء في الحكومة. وترتّب هذه الوظائف على شاغليها مسؤوليات وأعباء ونفقات كبيرة تفرض تمييزهم عن موظّفي باقي الفئات برواتب أعلى.
ولأهمّية هذه الفئة، فإنّ المشترع (القانون المنفّذ بالمرسوم رقم 3169 تاريخ 1972/4/29) قد اعتبر أنّ وظائف تلك الفئة لأيّ ملاك أو سلك في أيّ وزارة كانت تؤلّف سلكاً واحداً باستثناء وظائف السلك الخارجي (مجلس الخدمة المدنية، الرأي رقم 2376 تاريخ 2000/6/29).
ولقد جعل المرسوم الاشتراعي رقم 111 تاريخ 1959/6/12(المادة 7) من المدير العام الرئيس المباشر لجميع الموظّفين التابعين لإدارته، تحت سلطة الوزير وفي نطاق القوانين والأنظمة، وهو عملياً أداة تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء والتي يتولّى الإشراف على تنفيذها كلّ من الوزير المختص بصفته الجهة المنوط بها إدارة مصالح الدولة، ورئيس مجلس الوزراء الذي حمّلته المادة 64 من الدستور المسؤولية عن تنقيذ هذه السياسة العامة، ولهذا فإنّ رئيس الحكومة يتابع أعمال الإدارات العامة ويعقد لقاءات عمل مع المدراء العامين (الفقرتان 7 و8 من المادة 64 من الدستور).
وبسبب أهمّية موقع المدير العام القيادية وصلته المباشرة بالسلطة الدستورية، لم يشأ المشترع تولية وظائف الفئة الأولى بالإستناد إلى مباراة، بل يجري التعيين في المراكز الشاغرة في الفئة الأولى في ملاك الادارات العامة استناداً إلى نصّ المادة 12 من نظام الموظّفين المعدّلة بموجب القانون رقم 98/717 وذلك بالإختيار من بين موظّفي الدرجة الرابعة على الأقلّ من الفئة الثانية (مجلس الخدمة المدنية، الرأي رقم 2376 تاريخ 2000/6/29)، المندرجة أسماؤهم في جدول الترفيع، كما يجوز بصورة استثنائية استناداً إلى الفقرة الثانية من المادة /12/المتقدّم ذكرها أن يعيّن في الفئة الأولى أشخاص من خارج الملاك بعد استطلاع رأي مجلس الخدمة المدنية على أن يكونوا من حملة الإجازات الجامعية، ويعتبرون مثبّتين فور تعيينهم، ولا يطبّق هذا التدبير إلاّ بنسبة الثلث من الوظائف الشاغرة في الفئة الأولى(مجلس الخدمة المدنية، الرأي رقم 565 تاريخ 2000/5/5).
لم تفلح هذه الآلية القائمة على سلطان مجلس الوزراء بالتعيين بدون قيود، في احترام والإلتزام بقاعدتي الجدارة والكفاءة المقرّرتين في المادة 12 من الدستور، وحلّت مكانها قواعد قائمة على الحزبية والمحسوبية ما ألحق الضرر البليغ بالإدارة العامة بعد تولّي قيادتها فئة من المدراء العامين غير الجديرين بهذه المراكز، ولم يعد بإمكان الجسم الإداري تحقيق أيّ إنجاز، إذ عندما يكون القائد ضعيفاً أو متهاوناً أو غير مهني وبذات الوقت محمياً بالحصانة السياسية من المساءلة، في هذه الحالات سيصاب الجسم الإداري بالعجز والفشل وسيلحق الضرر الفادح في المرافق العامة.
ولهذا استقرّ دعاة الإصلاح الإداري على أنّ أحد أهمّ الخطوات لتحقيق هذا الإصلاح تتمثَّل باستحداث آلية تسهم في اختيار أفضل للمسؤولين في الإدارات والمؤسّسات العامة على أساس كفاءاتهم وتدريبهم ومراقبتهم ومحاسبتهم.
وقد سعى مجلس النوّاب إلى إقرار آلية إصلاحية في تعيين موظّفي الفئة الأولى، وضمن هذا التوجّه صدر القانون الرقم 363 تاريخ 2001/8/16 بحيث أبقى على آلية الترفيع من الفئة الثانية إلى الأولى، ولكنّه في ما يتعلّق بالتعيين من خارج الملاك، أقرّ مبدأ التعاقد الوظيفي لمدّة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بحيث إذا لم يثبّت المعيّن كفاءته لم يجدّد عقده، وإلاّ أدخل الملاك وفق الأصول العادية السابقة أيّ بموجب مرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء بعد موافقة مجلس الخدمة المدنية. وهذا التعاقد الوظيفي يتمّ بالمفاضلة بين مرشّحين بعد إجراء اختبارات للمرشّحين من قبل لجنة تتألّف من رئيس مجلس الخدمة المدنية، ورئيس الهيئة العليا للتأديب، ورئيس إدارة الأبحاث والتوجيه، وثلاثة أشخاص من أهل الخبرة والإختصاص يعيّنون بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء بناء على إنهاء رئيس مجلس الوزراء، بحيث ترفع هذه اللجنة إلى مجلس الوزراء، لائحة تتضمّن أسماء الثلاثة الأوائل من المرشّحين لكلّ وظيفة، ويتولّى مجلس الوزراء إختيار واحد من بينهم.
إلاّ أنّ المجلس الدستوري أبطل هذا القانون لمخالفته الدستور معلّلاً سبب الإبطال بأنّه:” لا يصحّ تقييد سلطة مجلس الوزراء وبخاصة في المواضيع التي اعتبرها الدستور أساسية بقوانين يسنّها المشترع وإنْ تناولت تنظيم الوظيفة العامة عندما يكون من شأن هذه القوانين الإنتقاص من هذه السلطة أو فرض شروط مقيّدة لممارستها، وأنّ اتخاذ اللجنة قراراتها بالأكثرية العادية، وذلك في مرحلة من مراحل عملية تعيين موظّفي الدولة، بمن فيهم موظّفو الفئة الأولى أو ما يعادلها، فيما قرارات مجلس الوزراء في إطار العملية ذاتها … تؤخذ بموافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها، وهذا الأمر من شأنه التعرّض لآلية التصويت وشروطه كما هي مفروضة في المادة 65 فقرة 5 من الدستور، يضاف إلى ذلك أنّ ما قد تتخذّه اللجنة من مقرّرات لها الصفة التقريرية كما سبق وصفها، يؤلّف قيداً لسلطة مجلس الوزراء في تعيين الموظّفين، ولا سيّما موظّفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، باعتبار أنّ خيار مجلس الوزراء يصبح محصوراً لزوماً بالأشخاص الذين تسمّيهم اللجنة دون سواهم(م.د. قرار رقم 2001/5 تاريخ 2001/9/29).
لم يكن المجلس الدستوري موفقاً في هذا التعليل، إذ خلط بين سلطة التقرير التي يتمتّع بها مجلس الوزراء في تعيين الموظّفين، وبين مرحلة إعداد الملفّ وتهيئته ورفعه إلى مجلس الوزراء للتقرير.
فمجلس الوزراء هو سلطة التقرير بحسب الدستور بدءاً بوضع السياسة العامة، إلى وضع الخطط الإنمائية، إلى إعلان حالة الطوارئ أو التعبئة العامة، إلى وضع قوانين الإنتخاب والأحوال الشخصية، إلى إصدار الأنظمة، إلى تعيين الموظّفين بما فيهم موظّفو الفئة الأولى، وغيرها من الصلاحيات التي لا تعدّ ولا تحصى.
فهل من المنطق أن يحضّر هذا المجلس كافة الملفّات لكي يقرّر بشأنها، هو أمر مُحال ومستحيل، فالمجلس يناقش ويدرس ويقرّر في الملفّات التي تعدّها الإدارات المعنية وتدرج في جدول الأعمال، فمثلاً: في حالة إعلان حالة الطوارئ أو التعبئة العامة، فإنّ المجلس مقيّد بإنهاء المجلس الأعلى للدفاع، ولمن يريد التحقّق مراجعة مراسيم إعلان التعبئة العامة لمواجهة انتشار فيروس “كورونا” ومنها: المرسوم رقم 6198 تاريخ 2020/3/15 الذي صدر بناء على إنهاء المجلس الأعلى للدفاع في اجتماعه بتاريخ 2020/3/15، والإنهاء في القانون هو الإقتراح الملزم، أيّ أنّ المجلس الأعلى للدفاع أرسل لمجلس الوزراء خيار وحيد وقبل به هذا الأخير.
وحالات إنهاء رجل الإدارة قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره، إنّما هي عديدة في القانون اللبنانية وهي موجودة على سبيل المثال في: المادة 43 من مشروع القانون مرسوم رقم 1802 تاريخ 1979/2/27 تنظيم الضابطة الجمركية، المادة 19 من قانون تنظيم المديرية العامة للأمن العام (المرسوم الاشتراعي رقم 139 تاريخ 1959/6/12)، المادة 5 من قانون إنشاء التفتيش المركزي (المرسوم الإشتراعي رقم 115 تاريخ 1959/6/12)، المواد 7 و32 و46 و47 و 132 من قانون الدفاع الوطني (المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 1983/9/16).
وكذلك، فإنّ مجلس الوزراء في تعيين عمداء الجامعة اللبنانية ملزم بمراعاة أصول خاصة أقرّها تنظيم المجالس الأكاديمية في الجامعة اللبنانية (القانون رقم 66 تاريخ 2009/3/4) بحيث ترفع ثلاثة ترشيحات إلى مجلس الوزراء اختارها مجلس الجامعة من بين خمسة أسماء اقترحها مجلس الوحدة المعنية.
وقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنّ هذه الآلية ملزمة لمجلس الوزراء حيث قضى المجلس بإبطال مرسوم تعيين الدكتور نبيل الخطيب عميداً لكلّية الآداب والعلوم الإنسانية لأنّه تمّ خلافاً للمادة /25/ من القانون رقم 67/75 (تنظيم الجامعة اللبنانية) حيث رُشّح بمفرده من قِبل مجلس الجامعة ولم يكن من ضمن المرشّحين الخمسة المنتخبين من مجلس الوحدة ما يجعله معيوباً لهذه الناحية(م.ش. قرار رقم: 2017/40-2018 تاريخ 2017/10/5 الدكتورة اسما شملي/ الدولة).
وهذه ليس المرّة الأولى التي يبطل فيها مجلس شورى الدولة مراسيم صادرة بناءً على موافقة مجلس الوزراء بسبب عدم مراعاة الأصول الجوهرية المقرّرة في القوانين، مثلاً قضى المجلس بأنّ:” اقتراح المجلس البلدي بتعديل التخطيطات المقرّرة في البلدة هو من المعاملات الجوهرية والإلزامية لصدور مرسوم التخطيط أو التعديل، إلاّ أنّها لا تلزم السلطة المركزية التي يعود لها صلاحية إصدار المرسوم أو عدم إصداره”( م.ش. قرار رقم80 تاريخ17 كانون الثاني 2001، عفيف سابا وآخرون/بلدية شكا، م.ق.إ.2004 م1 ص190).
كما أبطل مرسوم نزع ملكية عقار (مدرج في لائحة الجرد العام) للمنفعة العامة لأنّه لم يبن على اقتراح مدير عام الآثار سنداً للمادة 34 من (نظام الآثار القديمة) التي توجب أن “لا يدخل عقار مسجّل أو مقترح تسجيله في لائحة الجرد العام ضمن تحقيق يقصد منه نزع الملكية بسبب المنفعة العمومية إلاّ بالإتفاق مع مدير دائرة الآثار القديمة “(م.ش. قرار رقم:787 /2016-2017 تاريخ 2017/7/12 جوزف وكريستينا زغيب/ الدولة – وزارة الأشغال العامة والنقل -وزارة الثقافة).
إنّ مجلس شورى الدولة لم يجد في الأصول الجوهرية السابقة لإصدار مجلس الوزراء لقراره مساساً بصلاحيات هذا المجلس، بخلاف ما انتهى إليه المجلس الدستوري الذي لم تسعفه الحيثيات في تعليل النتيجة التي وصل إليها، بحيث يمكن القول إنّه لم يكن موفّقاً في التبرير ودليلنا الإضافي نستوحيه من ذات المادة 65 من الدستور التي أولت في فقرتها الثالثة بمجلس الوزراء تعيين موظّفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم وفق القانون. ومن المستقرّ عليه في القانون اللبناني أنّ مجلس الخدمة المدنية هو الذي يتولّى إجراء المباريات الممهّدة لتعيين الموظّفين فهل هذه المباريات أصبحت غير دستورية؟ وهل بالقياس نمنع مجلس الخدمة المدنية من إعلان نتائج المباريات بحجّة أنّ الأخير يصادر صلاحيات التعيين؟
بل يمكن القول أكثر من ذلك، إنّ المجلس الدستوري تجاهل التفويض الدستوري لمجلس النوّاب بوضع شروط تولّي الوظيفة على أساس الإستحقاق والجدارة، حيث نصّت المادة 12من الدستور على أنّ لكلّ لبناني الحقّ في تولّي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلاّ من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينصّ عليها القانون”. وبحسب هذه الفقرة الأخيرة، فإنّ القانون هو من يحدّد شروط الإستحقاق والجدارة.
ولهذا عندما قرّر مجلس النوّاب أنّ الاستحقاق والجدارة إنّما تقدرّهما لجنة تنشأ لهذه الغاية، فلا يكون المشترع قد تجاوز الدستور، بل عمل ضمن نطاقه. وهذا ما سبق وأقرّه المجلس الدستوري في اجتهادٍ سابق عندما قضى بأن :”تخلّي السلطة المشترعة عن اختصاصها الضامن لشروط التعيين في الوظيفة العامة وحقوق الموظّفين العامين، على ما جاء في المادة 12 من الدستور، إنّما هو إجراء غير دستوري (م.د. قرار رقم 2002/1 تاريخ 2002/1/31 الصادر في مراجعة إبطال القانون رقم 2001/379 “الضريبة على القيمة المضافة).
لهذا نؤكّد على أنّ قرار المجلس الدستوري بالنتيجة التي خلص إليها لا يشكّل تطبيقاً أميناً للنصّ الدستوري ويخالف المستقرّ عليه في اجتهاد مجلس شورى الدولة ويبقي يد السلطة السياسية مهيمنة ومتسلّطة على تعيين موظّفي الفئة الأولى.
ولو ركّز المجلس الدستوري يومها على مسألة أنّ اللجنة هي التي ترفع اقتراح التعيين إلى مجلس الوزراء لما كان بالإمكان المناقشة في عدم دستورية هذه المسألة كما سيتبّين معنا لاحقاً.
مرّ الطعن في العام 2001 وأبطل القانون واستمرّ تعيين موظّفي الفئة الأولى بيد السلطة السياسية تستخدمه كما تشاء دون مراعاة لقواعد الإستحقاق والجدارة المنصوص عنهما في المادة 12 المذكورة.
واستمرّ هذا الوضع حتّى تاريخ 2010/4/12 عندما وافقَ مجلس الوزراء – وفق المحضر رقم 22- على آلية تعيين موظّفي الفئة الأولى في الإدارة المركزية والمؤسّسات العامة .. فأعطى الأولوية في ملء المراكز الشاغرة في الفئة الأولى في الملاك الإداري العام للموظّفين من الفئة الثانية من داخل الملاك الاداري العام، وفي حال تبيّن أنّ العدد الذي يتمّ رفعه إلى مقام مجلس الوزراء لا يكفي لملء كلّ المراكز الشاغرة في الفئة الأولى يلجأ إلى حالة التعيين من خارج الملاك في حدود ثلث المراكز الشاغرة، وهو العدد المسموح به بحسب قانون الموظّفين، يتمُّ التعيين من خارج الملاك وفقاً آلية تعاون وتنسيق في ما بين الوزراء المختصين ومجلس الخدمة المدنية ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الادارية. إلاّ أنّ هذه الآلية لم تكون لها أيّ قيمة قانونية، بل أنّ قيمتها أدبية فقط، إذ إنّ مجلس الوزراء كما ورد في حرفية كتابه:”اطلع”، وتمَّ التوافق” وهي عبارات لا توحي بالإلزام على الإطلاق، وحتّى ترويسة كتاب مجلس الوزراء لا تتضمّن أنّ هذه الآلية لها صفة القرار.
بعد أحداث 17 تشرين الأوّل 2019 والتي كانت بمثابة صرخة بوجه الفساد وسوء الإدارة، أعيد طرح قضيّة تعيين موظّفي الفئة الأولى، وأقرّ مجلس النوّاب آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا في المؤسّسات العامة بموجب القانون النافذ حكماً رقم 7 تاريخ 2020/7/3 الذي لم يكن مشابهاً لقانون العام 2001، بل على العكس كان أكثر شبهاً لآلية العام 2010 ودخل في التفاصيل والمقابلات ووضع النقاط والمفاضلة، ولم ينشئ لجنة دائمة للتعيين في ملاك الفئة الأولى، بل أنشأ مهمّات تتولّها جهات عامة أو ممثّلون عن هذه الجهات العامة، فمواصفات المرشّحين تتولّى صياغتها ثلاث هيئات عامة بالتنسيق في ما بينها (مجلس الخدمة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، الوزير المختص)، وفرز ملفّات المرشّحين تتولّاه لجنة مؤلّفة من (ممثّل عن الوزير المختص، وممثّل عن رئيس مجلس الخدمة المدنية، وممثّل عن وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية). أمّا المقابلات الشفهية واختيار المرشّحين الثلاثة فيتولّاه (رئيس مجلس الخدمة المدنية والوزير المختص ووزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية أو ممثّل عن كلّ منهم من داخل الإدارة).
واضحٌ ممّا تقدّم أنّ الأطراف المعنية باختيار المرشّحين لهم صلة مباشرة في التعيينات الإدارية، فمجلس الخدمة معنيٌ أساس بالتعيينات قبل هذا القانون وبعده، ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية أيضاً أنشئ لغايات متصلة بالوظيفة العامة والإصلاح الإداري وأصبح مكرّساً كعرفٍ دستوري من خلال ممارسة المهمّة التي كلّفه بها مجلس الوزراء بمتابعة شؤون الوظيفة العامة، والوزير المختص العارف بشؤون وزارته بديهي وجوده في هذه اللجان الثلاث التي تختلف بتركيبتها عن تلك المنشأة بموجب قانون العام 2001.
بتاريخ 2020/7/8 تقدّم رئيس الجمهورية بمراجعة طعن أمام المجلس الدستوري يطلب بموجبها إبطال القانون النافذ حكماً رقم 7 تاريخ 2020/7/3 برمّته لمخالفته الدستور، وقد استجاب المجلس الدستوري لهذا الطعن حيث عمد إلى وقف تنفيذ القانون المطعون فيه بموجب قراره رقم 2020/3 ثمّ قضى بإبطال القانون المطعون فيه برمّته بموجب قراره رقم 2020/4 تاريخ 2020/7/22 مؤيّداً كافة أسباب الطعن الواردة من الجهة الطاعنة والمبنية على مخالفة القانون المطعون فيه للمواد 54 و65 و66 من الدستور.
وقد رأى المجلس أنّ أسباب الطعن المدلى بها متلازمة ومترابطة فعمد إلى ضمّها من أجل البتّ بها بصورة منهجية، في ضوء ما أدلى به الطاعن والنصوص والمبادئ الدستورية التي ترعى الموضوع، وقسّمها إلى ثلاثة مقاطع نستعرضها وفق ما ورد في قرار المجلس مع تعلقينا على هذه الحيثيات:
السبب الأول: لجهة صلاحيات اللجنة الثلاثية
قضى المجلس الدستوري في قراره:” أنّ شروط التوظيف الخاصة في الإدارات العامة وفي ما يماثلها في المؤسّسات العامة هي مادة تنظيمية تدخل في دائرة اختصاص السلطة الإجرائية، أيّ مجلس الوزراء، بحسب المادة 65 من الدستور، واستدلّ على ذلك من أنّ نظام الموظّفين العام (المرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 59/6/12 وتعديلاته قد تضمّن في صلب أحكامه، في المادتين 4 و5 منه، شروط التعيين العامة في الفئات الأولى والثانية والثالثة والرابعة، تاركاً في مادته 4 فقرتها 2 لكلّ وزارة أن تحدّد في نظام خاص بها “الشروط الإضافية الخاصة، وكذلك فإنّ القانون المنفّذ بالمرسوم رقم 3275 تاريخ 1972/5/24 المتعلّق بإنشاء مصالح مستقلّة لمياه الشرب وتنظيمها ووضع نظام عام للمؤسّسات العامة والمصالح المستقلّة، نصّ في مادته (الثانية) على أن “يجاز للحكومة خلال مهلة ستّة أشهر من تاريخ العمل بهذا القانون، وبموجب مراسيم تتخذّ في مجلس الوزراء، وضع نظام عام جديد للمؤسّسات العامة والمصالح المستقلّة، فصدر سنداً لذلك القانون، النظام العام الجديد للمؤسّسات العامة بالمرسوم رقم 4517 في 1972/12/13، أيّ بناء على التفويض التشريعي للحكومة، بحيث يمكن وصف المرسوم رقم 4517 تاريخ 1972/12/13 بالمرسوم التشريعي ذات القوّة التشريعية كما هي الحال بالنسبة للمرسوم الاشتراعي الذي يصدر بناء على قانون تفويض خاص وقد نصّ في مادته الخامسة على وجوب أن تتوفّر في كلّ من الرئيس والأعضاء سلسلة من الشروط العامة المشابهة لشروط التوظيف العامة في الوظيفة العامة وأكثر، …وترك للنظام الخاص بكلّ مؤسّسة عامة الذي يصدر بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء، أمر تحديد هذه الشروط الخاصة بكلّ مؤسّسة. وبالإستناد إلى هذا النصّ، إنتهى المجلس الدستوري إلى أنّ تحديد شروط التوظيف الخاصة في الإدارات العامة، وتحديداً في وظائف الفئة الأولى منها، وأيضاً في ما يماثلها من وظائف في المؤسّسات العامة، وبصورة خاصة تحديد مواصفات وشروط التعيين لتلك الوظائف، يشكّل مادة إجرائية تدخل حكماً في دائرة اختصاص السلطة الإجرائية ممثّلة بمجلس الوزراء مجتمعاً سنداً للمادة 65 معطوفة على المادة 54 من الدستور، ولا تدخل مطلقاً في دائرة مهام واختصاص أيّ هيئة أو لجنة إدارية أو إدارية-وزارية. وأنّ إيلاء المواد الثانية والثالثة والخامسة من القانون المطعون فيه، اللجنة الثلاثية المؤلّفة على الصورة المبيّنة فيها، صلاحيات تنظيمية لجهة تحديد مواصفات وشروط التعيين للوظائف الشاغرة في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي ما يماثلها من وظائف في المؤسّسات العامة، يكون إذاً مخالفاً للمواد 54 و65 و66 من الدستور ويقتضي إبطالها لهذا السبب”.
لقد تضمّنت هذه الحيثية مفاهيم جديدة في الفقه الإداري والدستوري، لا بدّ من تسليط الضوء عليها لمعرفة ما إذا كان من الممكن قبول هذا التغيير في مفاهيم ثابتة أم يقتضي الإبقاء على الثوابت الراسخة في الفقه والاجتهاد:
1- التغيير الأوّل: الإعتراف بالقوّة التشريعية للمراسيم الاشتراعية،
إنّ المجلس الدستوري بقراره محلّ التعليق قد اعترف بالقوّة التشريعية للمراسيم الاشتراعية واعترف بحقّ الحكومة بتفويض نفسها صلاحية التشريع (إستناداً للمادة 58 من الدستور) واعترف بالقوّة التشريعية للنصّ الصادر بناء للتفويض الحكومي، بل وأسماه صراحة بـ “المرسوم التشريعي” فالمرسوم 72/4517 هو بنظر المجلس الدستوري: تشريع، بينما هو في نظر مجلس شورى الدولة مجرّد قرار إداري، سيّان ما إذا كان المرسوم صادراً وفق المادة 58 من الدستور(مجلس القضايا – قرار رقم 8 تاريخ 9 كانون الأوّل 1970 – الخوري /الدولة ، م.إ.1970 ص163) أو كان مرسوماً إشتراعياً فإنّه يبقى خاضعاً لرقابة مجلس شورى الدولة إلى أن يقترن بالإقرار من السلطة التشريعية(مجلس القضايا قرار رقم 14/92- 93 تاريخ 19 تشرين الثاني 1992، القاضي يوسف سعد الله الخوري / الدولة – القاضي جوزف شاوول، م.ق.إ 1994ص15).
وما انتهى إليه المجلس الدستوري في قراره محلّ التعليق لم يناقض اجتهاد مجلس شورى الدولة فقط، بل يناقض أيضاً ما سبق وقضى به هذا المجلس في حكمٍ سابق رفض منح بموجبه مجلس الوزراء صلاحية إنشاء مؤسّسات عامة حتّى ولو بطريقة المادة 58 من الدستور، مساوياً بين الأخير والمرسوم العادي في حيثية واضحة تضمّنت الآتي: وبما أنّ ثمّة مؤسّسات عامة قد أنشئت سابقاً بموجب مراسيم أو بطريقة المادة 58 من الدستور قبل تعديلها، ذلك لأنّ هذا الأمر إذا كان صدف حصوله في السابق وأصبح محصّناً ربّما من حيث دستوريته، لكنّه لم يعد جائزاً بعد صدور القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 1990/9/21 الذي لم تعد أحكامه تأتلف مع ما كان حاصلاً سابقاً (م.د. قرار رقم 2001/1 تاريخ 2001/5/10 الصادر في طلب إبطال الفقرة (ثالثاً) من المادة الأولى من القانون رقم 295 تاريخ 2001/4/3).
وذات الأمر بالنسبة للمراسيم الاشتراعية التي قضى القرار محلّ التعليق بتمتّعها بالقوّة التشريعية حيث خالف ما سبق لهذا المجلس أن قضى به من أنّ أيّ تفويضٍ للصلاحية التشريعية هو غير دستوري، إستناداً إلى: “مبدأ سمو الدستور الذي ينجم عنه أنّ على كلّ سلطة عامة أنشأها الدستور أن تمارس اختصاصها المحجوز لها في أحكامه بنفسها وأنّه لا يجوز لها أن تفوّض سلطة أخرى في ممارسة هذا الإختصاص إلاّ إذا سمح الدستور بهذا التفويض بموجب نصّ صريح، لأنّ هذا الاختصاص ليس امتيازاً شخصياً أو حقّاً خاصاً، وإنّما وظيفة راعى الدستور في إيلائها إلى كلّ من السلطات أهلية السلطة وقدرتها لممارستها وبلوغ غاياتها، وإنّ مثل هذا التفويض إذا حصل بدون نصّ دستوري، إنّما يكون قد أهدر مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقيمه الدستور من المبادىء الأساسية للدولة. وأنّه عند حصول مثل هذا التفويض للإختصاص المحجوز تنتفي الحاجة إلى بحث مسألة عدم تحديد مدّة لهذا التفويض وتركه على غاربه، لأنّ مثل هذا التفويض يكون بحدّ ذاته غير جائز دستورياً وباطلاً، سواء تمّ تحديده بمدّة أو لا(م.د. قرار رقم 2002/1 تاريخ 2002/1/31 الصادر في مراجعة إبطال القانون رقم 2001/379 “الضريبة على القيمة المضافة).
ولهذا فإنّ ما أقرّه المجلس الدستوري من إضفاء القوّة التشريعية للمراسيم الاشتراعية وللمراسيم الصادرة وفق المادة 58 من الدستور والمخالف لما سبق وأقرّه ذات المجلس من رفضه إضفاء القيمة التشريعية بخاصة على المراسيم الاشتراعية التي ليس لها أساس دستوري، هو موقف يحتاج إلى مقاربة جديدة تصحّح ما ورد أو تثبّته.
2- التغيير الثاني: إنّ المجلس الدستوري حرم المشترع من منح أيّ جهة إدارية صلاحية تنظيمية
لقد أبطل المجلس الدستوري في قراره محلّ التعليق للقانون المطعون فيه بسبب منحه لجنة صلاحية تحديد مواصفات وشروط التعيين في وظائف الفئة الأولى، وهي تشكّل مادة إجرائية تدخل حكماً في دائرة اختصاص السلطة الإجرائية ممثّلة بمجلس الوزراء مجتمعاً سنداً للمادة 65 معطوفة على المادة 54 من الدستور، ولا تدخل مطلقاً في دائرة مهام واختصاص أيّ هيئة أو لجنة إدارية أو إدارية-وزارية.
إنّ المجلس بهذه الحيثية، يكون قد حصر ممارسة السلطة التنظيمية بمجلس الوزراء، ومنع المشترع من منح أيّ هيئة عامة صلاحية إصدار الأنظمة، بالرغم من أنّ المادة 65 من الدستور لا تتضمّن أيّ عبارة أو كلمة توحي بأنّ السلطة التنظيمية يمارسها مجلس الوزراء منفرداً، كما لا يستفاد منها أنّه يمنع على المشترع تفويض هذه الصلاحية لغيره: فلقد نصّت الفقرة الأولى من المادة 65 على ما يلي: 1- تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء. … ومن الصلاحيات التي يمارسها:… ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها. 2- السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المادة تمنح مجلس الوزراء سلطة التنظيم، إلاّ أنّها حتماً لم تجعله محتكراً لهذه السلطة وكان على المجلس الدستوري عندما أبطل القانون بسبب منحه لجنة للصلاحية التنظيمية أن يعلّل كيف يحتكر مجلس الوزراء هذه السلطة، وأن يبيّن أيضاً كيف يمكن تلافي نتائج هذا القرار على الإدارة العامة في حال جرى حصر التنظيم بمجلس الوزراء، وكيف يمكن إصلاح الواقع القائم الذي يمنح البلديات والمؤسّسات العامة والهيئات الناظمة والوزراء وغيرها لصلاحية التنظيم؟
ومن يتابع اجتهاد مجلس شورى الدولة يجده مستقرّاً على الإقرار بوجود سلطة تنظيمية لهذه الهيئات بخاصةٍ عندما يكون مصدرها القانون (على سبيل المثال: م.ش. مجلس القضايا – قرار رقم 49 تاريخ 1992/12/21 – المصانع الوطنية للجوت / الدولة – م.ق.إ. 1994 ص94 وأيضاً قرار مجلس القضايا، رقم 429 تاريخ 1975/7/7 وديع شلهوب/ الدولة – رئاسة مجلس الوزراء، ديوان المحاسبة، والقرار رقم /2017-2018 تاريخ 2017/11/16 نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان/ الدولة).
وبالفعل، فإنّ معظم القوانين تتضمّن الترخيص بممارسة السلطة التنظيمية ولم تكن هذه القوانين محلّ احتجاج بمخالفتها الدستور أو تشكّل انتقاصاً من صلاحية مجلس الوزراء التنظيمية.
يضاف إلى ما تقدّم، أنّ ما أناطه القانون المطعون فيه باللجنة ليس صلاحية تنظيمية، بل صلاحية وضع ملخّص بالشروط المقرّرة بالقوانين والأنظمة وتبيان كيفية احتساب النقاط، وهذا واضح من عبارات المادة التي كانت السبب في إبطال القانون، والتي جاء فيها: “تحدّد مواصفات التعيين للوظائف الشاغرة في المؤسّسات العامة وشروطها، من قبل كلّ من مجلس الخدمة المدنية ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية بالتنسيق مع الوزير المختص، على أن تراعى شروط التوظيف العامة والشروط الخاصة المنصوص عليها في أنظمة المؤسّسة العامة المعنية، وتبلّغ من الوزير المختص من أجل الموافقة عليها”.
فمجلس الخدمة ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية ملزمان بالنصّ بمراعاة شروط التوظيف العامة والخاصة، ودورهما يقتصر على استخلاص المواصفات من هذه النصوص.
وما يؤكّد غياب الطابع التنظيمي عن لائحة المواصفات، أنّ المشترع لم يُجز للجهات المعنية وضع شروط التوظيف وإنّما فوّضها فقط استخلاص المواصفات من شروط التوظيف العامة والخاصة، وكذلك فإنّ إعلان هذه المواصفات هي لمرّة واحدة أيّ لتعيين واحد، وبغياب الإستمرارية تفقد طبيعتها التنظيمية وفق ما استقرّ عليه اجتهاد مجلس شورى الدولة من تجريد الإعلان الذي لا يطبّق بشكل دائم ودوري من الطابع التنظيمي (م.ش. قرار رقم 139/2014-2015 تاريخ 2014/11/11 نجيب ناجي فرحات/ الجامعة اللبناني.)، أو تشترط لاعتبار القرار تنظيمياً أن يتميّز بطابع الديمومة والإستمرار (م.ش. قرار رقم 500 تاريخ 2008/4/3 ، شركة تلفزيون المستقبل ش م ل ورفيقته/ الدولة – وزارة السياحة ورفاقها، مجلّة العدل 3/2008 ص 1097).
ولهذا لا يمكن اعتبار لائحة المواصفات ممارسة لسلطة تنظيمية ولم يكن تبعاً لذلك المجلس الدستوري موفّقاً في ما انتهى إليه من إبطال القانون لتفويضه سلطة تنظيمية للجنة إدارية (مع تحفّظنا طبعاً على مصطلح لجنة)، وكذلك يقتضي اتخاذ موقف حاسم من مسألة حصر السلطة التنظيمية بمجلس الوزراء بحيث لا يحقّ للمشترع منح أيّ هيئة عامة سلطة التنظيم كما يُفهم من اجتهاد المجلس الدستوري.
السبب الثاني: لجهة تأليف اللجنة الثلاثية
إعتبر المجلس الدستوري في القرار محلّ التعليق أنّ إنشاء لجنة ثلاثية من مجلس الخدمة المدنية ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية والوزير المختص من شأنه:” تقليص دور الوزير المختص، إلى مجرّد التنسيق -من خلال اللجنة الثلاثية- في تحديد مواصفات وشروط التعيين للوظائف الشاغرة في الفئة الأولى وفي ما يماثلها من مراكز عليا في المؤسّسات العامة، في الوقت الذي يمنحه الدستور ولاية إدارة مصالح الدولة وتطبيق القوانين والأنظمة في كلّ ما يتعلّق بالأمور العائدة إلى إدارته وسلطة تقريرية في هذا المجال، كما أنّ جعل القانون المطعون فيه مجلس الخدمة المدنية ووزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية شريكين للوزير المختص في ممارسة سلطة الإقتراح إنطلاقاً من اللائحة -القيد- التي ترفعها له اللجنة متضمّنة أسماء المرشّحين الثلاثة وفقاً لترتيب العلامات التي حصلوا عليها، وليس على الأقلّ أسماء جميع المرشّحين، أياً يكن عددهم، الناجحين وفقاً لترتيب العلامات التي حصلوا عليها حيث يستعيد حينها الوزير – وبقطع النظر عن عدم دستورية اللجنة، كامل صلاحياته وسلطته في اقتراح من يراه ويراهم أكثر كفاءة لملء الوظيفة الشاغرة، وحيث إنّ سلطة الوزير في الاقتراح، وفي المشاركة، في اتخاذ القرار داخل مجلس الوزراء تشكّل في حقيقة الأمر ضمانة دستورية، وأنّ تقييد الوزير المختص في ممارسة سلطة الاقتراح ولاحقاً في المشاركة في ممارسة سلطة التقرير، سواء داخل أو خارج مجلس الوزراء، كما وتقييد مجلس الوزراء عينه في اتخاذ القرار من خارج مجلس الوزراء، من خلال غلّ أيادي كلّ من ذكر بإلزامهم بلائحة تتضمّن أسماء المرشّحين الثلاثة وفقاً لترتيب العلامات التي حصلوا عليها، وخاصة في المواضيع الأساسية الواردة في المادة 65 الفقرة 5 من الدستور.
إنّ ما أدلينا به من ملاحظات حول قرار المجلس الدستوري رقم 2001/5 تاريخ 2001/9/29 في بداية هذا التعليق يصلح أيضاً للتعليق على هذه الحيثية، ولكن يمكن إضافة بعض الملاحظات حول ما ورد من عدم جواز تقييد صلاحية الوزير، هو كلام يجد الردّ عليه في المادة 66 ذاتها من الدستور التي لم تجعل الوزير ملكاً في وزارته، بل يناط به تطبيق الأنظمة والقوانين، وتعني هذه الجملة أنّ الوزير ملزم باحترام القوانين وتطبيقها حتّى لو كانت هذه القوانين متصلة بتعيين المدراء العامين فهو ملزم بتطبيق النصّ وفق حرفيته، ولا تستنج أيّ صلاحية إضافية للوزير خارج نطاق تطبيق القوانين والأنظمة.
بل إنّ الدستور منح رئيس الحكومة صلاحيات في نطاق الوزارات من خلال مسؤوليته عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، فالمادة 64 من الدستور لم تعطِ الوزير تنفيذ السياسة العامة لمجلس الوزراء، وإنّما منحت هذه الصلاحية لرئيس مجلس الوزراء الذي له وفق الفقرة 7 من ذات المادة متابعة أعمال الإدارات والمؤسّسات العامة والتنسيق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل.
ولهذا لم يكن المجلس الدستوري موفقاً في تفسيره كلمة “تنسيق” الواردة في الدستور بأنّها كلمة :” ليس لها أيّ مفهوم قانوني” فالدستور لا يتضمّن كلام ليس له معنى ولم يكن للمجلس الدستوري المرتجى في تفسير الدستور، أن ينسب إلى هذا الدستور أنّه يتضمّن كلاماً لا معنى قانونياً لها.
وبمعزلٍ عن معنى التنسيق، فإنّ صلاحيات الوزير ليست مطلقة وإنّما هي صلاحيات محدودة في نطاق القوانين، وهذه القوانين دائماً ما تتضمّن إلزامات أو رسم خارطة طريق على الوزير التقيّد بها قبل رفع مشروع مرسوم إلى مجلس الوزراء، ومن الأمثلة التي نسوقها في هذا المجال نذكر: الحصول على موافقة مدير عام الآثار قبل إصدار مرسوم استملاك عقار مدرج في لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية، الحصول على موافقة هيئة التنظيم المدني على مراسيم تخطيط الطرق والمخطّطات التوجيهية والتنظيم للمناطق، أو موافقة المجلس الوطني للمقالع والكسّارات، أو المجلس العسكري أو مكتب مجلس شورى الدولة، أو استشارة مجلس شورى الدولة، أو موافقة مجلس الخدمة المدنية، أو موافقة مجلس التعليم العالي، أو موافقة مجلس الجامعة على مشاريع المراسيم المتعلّقة بالجامعة اللبنانية….. “.
في هذه الحالات وغيرها الكثير الكثير، فإنّ الوزير قبل أن يقترح مشروع المرسوم، عليه أن يراعي الأصول المذكورة والحصول على الموافقات أو بيان الرأي من الجهة المذكورة. إنّ هذه الأصول الجوهرية كما سبق وذكرنا لا تنتقص من مكانة الوزير ولا مجلس الوزراء وإنّما تساعد في حسن التقرير.
وهذا المنطق قد تبنّاه المجلس الدستوري في ما يتعلّق بالوظيفة التشريعية، حيث فرض هذا المجلس قيداً على سلطة التشريع وبمقتضاه يمنع على مجلس النوّاب إصدار أيّ قانون يتعلّق بشؤون القضاة قبل استشارة مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة ومكتب مجلس ديوان المحاسبة حيث ورد في حيثيات الحكم ما يأتي: “إنّ هذه المادة (المادة 89) أغفلت صيغة جوهرية تكمن في موجب استطلاع رأي كلّ من مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة ومكتب مجلس ديوان المحاسبة، في مشاريع القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء… حيث إنّ الصيغة الجوهرية المذكورة لا تقتصر على مجرد استطلاع رأي الهيئات المذكورة في مشاريع القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء، بل هي تكريس للضمانة القضائية المكتوبة في المادة 20 من الدستور وأيضاً لمبدأ استقلال السلطات الدستورية وتعاونها، المنصوص عليه في الفقرة (هـ) من مقدّمة الدستور. حيث إنّ المادة 89 المطعون فيها تكون، باستثناء ما سبق، إذاً مخالفة للدستور لهذا السبب أيضاً، فيقتضي إعلان عدم دستوريتها جزئياً وإبطالها جزئياً (م.د. قرار رقم 23 تاريخ 2019/9/12 الصادر في الطعن الرامي إلى إبطال بعض مواد القانون رقم 144 تاريخ 2019/7/31 المتعلّق بالموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2019).
ولهذا ألا يكون المجلس الدستوري في قراره محلّ التعليق غير منسجم مع حيثيات هذه الفقرة لناحية أنّ استطلاع أو موافقة هيئة مسبقة لا تعيب العمل بعيب عدم الدستورية؟
ولهذا فإنّ القانون الذي أبطله المجلس بإنشائه لجنة ثلاثية لدراسة ملفّات المرشّحين لا يشكّل انتقاصاً من صلاحيات الوزير، ولكن كان سيشكّل مساساً بصلاحية الوزير لو تبنّى القانون المطعون فيه ما سبق ونصّ عليه القانون 2001/363 لناحية منح اللجنة صلاحية رفع أسماء المرشّحين إلى مجلس الوزراء. ولكن طالما أنّ القانون قد حفظ صلاحية اقتراح أسماء المرشّحين للوزير المختص فإنّه لا يكون قد مسّ بهذه الصلاحية، مع التذكير بأنّ هذا الاقتراح إنّما يقصد منه تعيين للسلطة المختصة، فالوزير الذي يبنى المرسوم على اقتراحه هو الذي يوقّع هذا المرسوم بصفته السلطة المختصة بتنفيذه، إذ من غير المنطقي أن يُبنى مشروع المرسوم على اقتراح وزير دون أن يُذَيّل هذا الوزير مشروع المرسوم بتوقيعه”(هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل استشارة رقم 2009/343 تاريخ 2009/04/28)، وحيث إنّ القانون الذي أبطله المجلس الدستوري لم يحرم الوزير من اقتراح أسماء المرشّحين ورفعها إلى مجلس الوزراء فإنّه لا يكون قد تعرّض لصلاحية الوزير وإنّما حقّق التكامل بين الإدارات العامة، وما يؤكّد صحّة هذا الطرح أنّه في ما يتعلّق بتعيين موظّفي الفئتين الثالثة والرابعة، أنّ دور الوزير المختص يقتصر على اقتراح أسماء الناجحين في المباراة التي أجراها مجلس الخدمة المدنية دون أن يكون له أيّ دور في ترتيب الناجحين، وإنّما يوقّع مشروع المرسوم ويحيله إلى رئيس الحكومة للتوقيع، ولم يشكّك أحد بأنّ هناك انتقاصاً من صلاحية الوزير.
لهذا فإنّ ما أخذ به المجلس الدستوري من شأنه تحويل الوزير إلى ملكٍ ويغيّر المفاهيم المستقرّة في القانون الإداري ويجعل الوزير أميراً منفرد التوقيع في كافة المواضيع ولا يعود تبعاً من حقّ مجلس شورى الدولة إبطال أيّ مرسوم لم يراعِ بشأنه الوزير الأصول الجوهرية المقرّرة في القانون بحجّة أنّ هذه الأصول تقيّد من صلاحيات الوزير – الملك!.
السبب الثالث: لجهة قوّة القضيّة المُحْكَمة لقرارات المجلس الدستوري وإلزاميتها
إعتبر المجلس الدستوري بأنّ القانون الذي أبطله قد خالف قوّة القضيّة المحكمة لقرارات المجلس الدستوري، حيث سبق لهذا المجلس الدستوري في قراره رقم 2001/5 أن أبطل القانون رقم 363 تاريخ 2001/8/16 (أحكام خاصة للتعيين في الفئتين الأولى والثانية في وظائف الملاك الإداري العام)، لمخالفته، وتحديداً في مادته الثالثة، أحكام المادة 65 من الدستور.
ولمّا كان مضمون القانون الحالي يحدّ من سلطة مجلس الوزراء ويقيّدها في الاقتراح والتقرير وفقاً لما صار شرحه أعلاه وينسجم بموضوعه وفي كثير من إجراءاته مع القانون رقم 2001/363، وإنْ ارتدت بعض أحكامه حلّة جديدة، فيكون مخالفاً للقرار رقم 2001/5 ومصطدماً بقوّة قضيّته المُحْكَمة، وبالتالي يستوجب الإبطال.
إنّ هذه الحجّة التي استند إليها المجلس الدستوري لإبطال القانون المطعون فيه لم تكن موفّقة، ذلك أنّه من خلال مقارنة القانونين نجد مغايرات جوهرية تجعل من المستحيل القول بوجود تطابق أو إعادة إقرار قانون سبق للمجلس أن أبطله، وذلك للأسباب الآتية:
– إنّ قانون العام 2001 أنشأ لجنة دائمة، بينما قانون العام 2020 لم ينشئ لجنة، وإنّما أنشأ وظائف تتولّاها هيئات عامة (مجلس الخدمة المدنية ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية والوزير المختص) أو ممثّلون عنهم، ويتحرّك عملهم عند الإعلان عن شغور مركز من المراكز الوظيفية في الفئة الأولى.
– إنّ لجنة العام 2001 كانت مؤلّفة من 6 أعضاء وهي التي ترفع اقتراحاتها إلى مجلس الوزراء دون المرور بالوزير المختص، بينما قانون العام 2020 لم ينشئ لجنة، وإنّما أقرّ أدواراً لثلاث إدارات عامة لهم علاقة دائمة وسابقة بالوظيفة العامة بما فيها وظائف الفئة الأولى، وأنّ صلاحية رفع اقتراح التعيين إلى مجلس الوزراء بقيت محفوظة للوزير المختص.
– إنّ قانون العام 2001 يتحدّث عن تعاقد وظيفي لثلاث سنوات في مراكز الفئة الأولى، بينما يهدف قانون العام 2020 إلى تعيين موظّفي الفئة الأولى.
– إنّ قانون العام 2001 وسّع صلاحية اللجنة، بينما قانون العام 2020 جعل الوزير المختص محور عملية الترشيح والاختيار.
لذلك لا يوجد أيّ تطابق بين القانونين وتبعاً لذلك لا توجد مخالفة لقرارات المجلس الدستوري تستوجب إبطال القانون.
خلاصة القول:
إنّ ما توصّل إليه المجلس الدستوري يجعل مفتاح تعيين المدراء العامين بيد الوزراء للأبد، ويمنع أّي فكرة إصلاحية أو تطويرية، بعد أن قضى المجلس الدستوري أنّ الوزير هو المرجع الوحيد لاقتراح تعيين المدير العام، مع العلم أنّ القانون الذي أبطله المجلس لم ينشئ لجنة إنّما أنشأ قاعدة تعاون بين ثلاث إدارات عامة تعنى منذ نشأتها وبحسب اختصاصها بتعيين الموظّفين ومتابعة سيرتهم الوظيفية بما فيهم موظّفو الفئة الأولى. فمجلس الخدمة المدنية كان ولا زال وسيبقى الجهة التي لا يصدر مرسوم التعيين إلاّ بناء على موافقته أو استطلاع رأيه، ومكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية حاز ومنذ نشأته وبموجب العُرْف المستمرّ على صلاحية متصلة بالوظيفة العامة.
ولهذا نرى بأنّ القانون الذي أبطله المجلس الدستوري، هو أقلّ ما يمكن تقديمه لتحقيق الإصلاح في مسألة تولية مهام قيادية في الإدارة العامة، ولقد طرح اجتهاد الدستوري جدّياً مسألة تتصل بفلسفة الحكم، إذ وبعد أن انتقلنا من نظام حكم الفرد إلى نظام حكم الحزب، حيث أنّ المنافسة على السلطة في جميع دول العالم الغربي والشرقي، إنّما تتمّ في ما بين أحزاب وقد يتولّى أحد الأحزاب منفرداً أو بمشاركة أحزاب أخرى ممارسة السلطة في الدولة لعشرات السنين، ولهذا لم يعد مجدياً بعد قرار المجلس الدستوري في البحث عن إصلاح آلية التعيين من داخل الإدارة، بل علينا البحث في إصلاح النظام الحزبي من خلال دفع الأحزاب لتقديم النخب التي لديها والمتفوّقة على أساس الكفاءة والجدارة لتولّي الوظيفة العامة، وهنا عندما يكون جميع مرشّحي الأحزاب كفاءات ومؤهّلين لتولّي المراكز القيادية، في هذه الحالة لا يعود ضرورياً تشكيل لجنة لاختيار الأكفأ لأنّ كافة المرشّحين هم من الكفاءات.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/7/29
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!