مقالات

موظفو العقارية.. عودوا إلى العمل/صادق علوية

صادق علوية*:
في نهاية كانون الأول 2022، أوقف القضاء اللبناني موظفين في بعض أمانات السجل العقاري، ما أدّى إلى توقف المعاملات المتعلقة بتسجيل العقارات ونقلها، وخصوصاً في بعبدا وعاليه – الشوف والمتن – جونية وجبيل.
ورغم إخلاء سبيل العدد الأكبر من الموظفين، لم يعد هؤلاء الى عملهم، ولم يسمح للباقين بالالتحاق، وامتنع عن الحضور عدد آخر تضامناً. ولم يجد المعنيون حلاً لهذه المسألة، الى أن حسم مجلس الوزراء الأمر معتبراً أن غياب الموظفين مبرّر لأن الإدارة أخطأت بعدم إبلاغهم أو بعدم تمكينهم من الحضور.رغم أن شرط النّزاهة لتولّي الوظيفة العامة أساسي، ورغم أن القانون بيّن حقوق الموظّف خلال فترة التوقيف الاحتياطي، إلا أن مبدأ كفّ يد الموظّف العمومي أمر مبهم في القوانين اللبنانية.
إذ تلجأ الحكومة عادة الى إعفاء موظفي الفئة الأولى ووضعهم في التصرّف من دون محاسبتهم، كما أن البتّ في مصير راتب الموظف الفارّ من وجه العدالة يحتاج الى توضيح كونه يحتمل التأويل وفقاً لرغبة المعنيبن بالقرار.
بدأت المشكلة في كانون الأول 2022 عندما تعرّض عدد من موظفي أمانات السجل العقاري لملاحقات قضائية وصدرت قرارات بتوقيف عدد منهم، فيما توارى آخرون وامتنعت البقية عن الحضور الى العمل تضامناً، معتبرين أن القرارات القضائية كانت متعسّفة، ومنهم من أعطى الملف صبغة طائفية باعتبار أن هذه المراكز لطائفة معينة.
في الخلاصة أُقفِل عدد من أمانات السجل العقاري بشكل كلي، وبالتزامن أعلنت رابطة الإدارة العامة الإضراب فتوقفت عائدات الخزينة العامة من هذه المرافق وتوقفت معاملات التسجيل والبيع والشراء وفك الرهونات وغيرها من المعاملات، في سابقة لم يعهدها لبنان منذ الحرب الأهلية، وتراكمت ملايين المعاملات فوق المعاملات المتراكمة أصلاً، علماً أن الرسوم العقارية تشكّل 6% من مجمل الإيرادات المقدّرة للعام 2023 و10.8% من مجمل الإيرادات المقدّرة للعام 2024 وفقاً لمشاريع موازنتي 2023 و2024.
نصف رواتب الموظفين الموقوفين موقوفة
سمح نظام الموظفين (المرسوم الاشتراعي 1959/112) للإدارة بأن تقطع عن الموظف نصف راتبه فقط عندما نصت تحت عنوان «الحالات التي يدفع فيها نصف الراتب» – في المادة 18 منه – الفقرة 2 على ما يلي: “يتقاضى الموظف الموقوف عدلياً بصورة احتياطية نصف راتبه، ولا يدفع له النصف الآخر إلا إذا منعت محاكمته، أو برّئ أو حكم بعقوبة غير عقوبة الحبس”.
وهذا النص هو السند القانوني الذي يجيز للإدارة أن تقتطع نصف راتبه. على أن هذا الاقتطاع ليس نهائياً، وإنما موقوف لحين إصدار قرار حول منع محاكمته أو براءته أو الحكم عليه بعقوبة غير الحبس، لكنه لم يفترض أن المحاكمة ستمتد لعقود!
أوضاع وظيفية غير قانونيّة
يتبيّن من هذه الفقرة أن ملاحقة الموظف وإحالته أمام القضاء الجزائي و«توقيفه احتياطياً» لا تجعله خارج وظيفته،
كما ينص قانون الموظفين في مادته الخامسة والستين على أن من الحالات التي يعتبر فيها الموظف مستقيلاً عندما ينقطع عن عمله بدون إجازة قانونية ولا يستأنف عمله خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انقطاعه عن العمل، أو لا يستأنف عمله بعد انقضاء خمسة عشر يوماً على تاريخ انتهاء إجازته. إلا أن هذه الاستقالة لا تكون تلقائية، إنما تكرس في الحالات الآنفة الذكر بمرسوم أو بقرار صادر عن السلطة التي لها حق التعيين.
تكمن الحقيقة في الإجابة عن السؤال التالي: لماذا كان الموظف غير موقوف عن العمل؟ يحق للإدارة وقف الموظف عن عمله وفق أصول حددتها في المادة 58 من قانون الموظفين، وذلك بعد إحالته على الهيئة العليا للتأديب بمرسوم أو بقرار من السلطة التي لها حق التعيين. وهذا القرار، ببساطة، لم تتخذه الإدارة اللبنانية بحق هؤلاء الموظفين.
مجلس الخدمة المدنية يفتح نافذة
في نهاية تشرين الأول الماضي، أبدى مجلس الخدمة المدنية رأيه بأن الموظفين الذين أخلي سبيلهم، يقتضي إعطاؤهم الحق في تقاضي كامل راتبهم، إلا أن هذا الحق لا ينسحب على مصير فروقات أنصاف الرواتب الموقوفة سابقاً مدة التوقيف العدلي بصورة احتياطية، والذي يبقى معلقاً حتى صدور قرار قضائي بمنع المحاكمة أو بالبراءة أو بعقوبة غير عقوبة الحبس.
وفي ما يتعلق بحضور بعض الموظفين إلى مركز عملهم بشكل متقطع دون الانقطاع عن العمل لمدة 15 يوماً متواصلة، اعتبر المجلس أن هذا الأمر يرتّب مسؤولية على الموظف المعني ورئيسه، إذ يقتضي تحديد مركز عمل للموظف المعني في حال عدم إعادته إلى مركز عمله الأساسي وتحديد المهام التي يمكنه ممارستها وإلزامه بالحضور في ضوء أحكام المرسوم ذي الصلة بالمساعدات الاجتماعية.
وطلب المجلس أن يصار إلى استصدار قرار بعدم استحقاق راتب من تغيّب منهم من دون سند قانوني ومساءلته مسلكياً. وفي ما يتعلق بالموظفين الذين لم يحضروا منذ تاريخ مباشرتهم العمل أو لم يباشروا أو يضعوا أنفسهم بتصرف الإدارة بعد إخلاء سبيلهم، فإنّ غيابهم أو عدم مباشرتهم العمل أو عدم وضع أنفسهم بتصرف الإدارة، بعد أن تكون الإدارة قد مكّنتهم من مباشرة عملهم وأبلغتهم بذلك، الذي تجاوز الـ 15 يوماً دون عذر مشروع، يؤدي إلى تطبيق أحكام المادة 65 من نظام الموظفين بحقهم بعد ثبوت إبلاغهم بوجوب الحضور إلى مركز العمل دون الاستجابة لذلك. أي أنه علّق الاستقالة الحكمية على وجوب إبلاغ الموظف بالحضور.
ويقتضي على الإدارة المعنية إعداد مشروع مرسوم يرمي إلى اعتبار كل منهم مستقيلاً من الخدمة اعتباراً من تاريخ انقطاعه الفعلي عن عمله، أي اعتباراً من تاريخ تبلغه قرار تمكينه من استئناف عمله أو من تاريخ إبلاغه وجوب وضع نفسه بتصرف الإدارة أو من تاريخ انقطاعه الفعلي بعد مباشرته العمل.
بمعنى أوضح، فتح مجلس الخدمة المدنية نافذة للحكومة لتدخل الى الملف وتجد فتوى، واضعاً معادلة تستوجب حصول أمرين:
الأول: وجوب تبليغ الإدارة للموظف بقرار تمكينه من استئناف عمله أو إبلاغه وجوب وضع نفسه بتصرف الإدارة.
الثاني: علق الاستقالة الحكمية على وجوب إبلاغ الموظف بالحضور.
وبالتالي، هنا مكمن الربط والحل بيد الحكومة التي تبنّت القول بأنها لم تصدر القرار، وأنها مقصّرة، وليعد الموظفون على رأس أعمالهم.
وتبيّن أن مجلس الخدمة المدنية أبدى أيضاً أن الموظفين الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف غيابية ولم يحضروا إلى مراكز عملهم في المديرية العامة للشؤون العقارية بسبب تواريهم عن الأنظار يعتبرون في وضع غير نظامي تبعاً لتغيبهم غير المسند إلى سند قانوني، ولا تحق لهم الاستفادة من الأوضاع المنصوص عليها في نظام الموظفين، ومنها الاستفادة من إجازات إدارية أو إجازات خاصة بدون راتب، أو طلب وضعهم في الاستيداع، كونهم متوارين عن الأنظار. كما لا تطبق عليهم أحكام المادة 18 من نظام الموظفين لجهة تقاضيهم نصف راتب لعدم توافر شرط تطبيقها كونهم غير موقوفين عدلياً بصورة احتياطية لدى السلطات القضائية المعنية.
من جهته، أفاد التفتيش المركزي بأن من كان موقوفاً وأخلي سبيله يمكنه معاودة العمل بشكل عادي طالما لم يصدر عن القضاء أي حكم بإدانته، ويمكن تطبيق أحكام المادة 18 من قانون الموظفين بحقه، أما المتوارون عن الأنظار الملاحقون قضائياً فعليهم وضع أنفسهم فوراً في تصرف القضاء، وبعدها يمكن للقضاء بتّ أمر كل موظف بمفرده وإبلاغ النتيجة إلى الإدارة المختصة التي عليها أن تبحث الوضع الوظيفي لكل موظف لا يرى القضاء مانعاً من إعادته إلى وظيفته.
مبررات قرار مجلس الوزراء
اعتبر مجلس الوزراء في قراره رقم 21 تاريخ 2023/11/29 أنه «في ضوء رأي مجلس الخدمة المدنية، وفي ضوء الظروف الاستثنائية التي ترزح تحت نيرها البلاد وتتيح للسلطات العامة استبدال المشروعية العادية بمشروعية استثنائية، وأنّه لا يجوز بأي حال مساواة المجموعة الثانية بالمجموعة الأولى، وتقبل أن يباشر الجميع عملهم دون تمييز، وفي جميع الأحوال يقتضي اعتبار تسوية الأوضاع المشار إليها مرحلة مؤقتة مرهونة نتائجها بما قد يصدر بحق الموظفين عن القضاء في القادم من الأيام من تبرئة أو إدانة، مع التأكيد على أنه لا يمكن تطبيق أحكام نظام الموظفين التي تحمي الموظف العام وترعاه على العاملين بالفاتورة، على أن تتم معالجة وضع هؤلاء في ضوء غياب النصوص التي ترعى أوضاعهم وفقاً لما يرتئيه مجلس الخدمة المدنية بمقتضى صلاحياته المنصوص عليها في المادة الخامسة من المرسوم رقم 8337 تاریخ 1961/12/30، قرر المجلس الموافقة على عرض وزارة المالية المتعلق بالوضع الوظيفي لبعض الموظفين في المديرية العامة للشؤون العقارية، على أن يصار إلى اعتماد رأي مجلس الخدمة المدنية بالخصوص المعروض (رقم 1317 تاريخ 2023/10/16)، ولا سيما لناحية اعتبار أن تطبيق أحكام المادة 65 من نظام الموظفين يفترض أن تكون الإدارة قد مكّنت الموظف من مباشرة عمله وأبلغته بذلك، وحينها في حال تجاوز مهلة الـ 15 يوماً من دون عذر مشروع، تطبق بحقه أحكام المادة 65 بعد ثبوت إبلاغه بوجوب الحضور إلى مركز العمل دون الاستجابة لذلك.
وعندها يقتضي على الإدارة المعنية إعداد مشروع مرسوم يرمي إلى اعتباره مستقيلاً من الخدمة بدءاً من تاريخ انقطاعه الفعلي عن عمله، أي اعتباراً من تاريخ تبلغه قرار تمكينه من استئناف عمله أو من تاريخ إبلاغه وجوب وضع نفسه بتصرف الإدارة أو من تاريخ انقطاعه الفعلي بعد مباشرته العمل.
بالنتيجة النهائية، فإن مجلس الوزراء اعتبر أنه لم يثبت أن الإدارة اللبنانية أبلغت الموظف وجوب التقيد بقانون الموظفين، لذا جعلت الخطأ الى جانبها واتهمت نفسها بالتقصير لعدم القيام بهذا الموجب، ولم تقم بإبلاغ الموظفين بوجوب الحضور الى العمل ما يقضي بالسماح للموظفين بالعودة على رأس عملهم.
* المصدر: ملحق “القوس” الصادر عن جريدة الأخبار.
“محكمة” – السبت في 2023/12/9

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!