مقالات

الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وتطوّرها في التشريعات الوطنية والمواثيق/ندى تلحوق

المحامية ندى تلحوق*:
نرحّب برئيس إتحاد المحامين العرب النقيب مكاوي بن عيسى، الزميلات والزملاء في الاتحاد، والزميلات رئيسات وأعضاء لجنة المرأة في كلّ من سوريا والأردن وفلسطين والمغرب،
الزميلات والزملاء، في نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس،
الحضور الكريم،
يتناول المحور الثاني من هذا المؤتمر موضوع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمرأة ما بين التزامات الدول وموقف المجتمعات العربية، حيث ستقتصر كلمتي على تناول موضوع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وتطوّرها في التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية.
عبر التاريخ نال موضوع حقوق الإنسان أهمّية كبرى واستغرق الكثير من الدراسات المعمّقة من البحث القانوني والفلسفي، سواء على مستوى العلاقات الوطنية أم على مستوى العلاقات الدولية، وسواء من جانب الدول أو من جانب المنظّمات الدولية.
أهمّ أقدم القوانين المكتوبة في التاريخ قبل الميلاد كانت شريعة حمورابي في بلاد الرافيدين الذي عزّز مكانة المرأة، واحترام الحرّية الفردية، دون أن ينسى تمجيد العدالة والقانون وحقّق لأوّل مرّة الوحدة التشريعية في البلاد.
ثمّ الفلاسفة اليونانيون الذين تناولوا حقّ الإنسان في الحياة وفي حرّية التعبير والمساواة أمام السلطة، وتكرّست الحقوق بشكل عام في المجتمع اليوناني بقانونين: الأوّل قانون )دراكون Dragon) الذي أقرّ ببعض الاصلاحات الاجتماعية والسياسية، والثاني قانون (سولون Solon) عام 594/ ق.م.. ثمّ جاءت الألواح الإثني عشر التي نصّت على المساواة بين البشر أمام القانون واعتبرت الأساس لقواعد القانون المدني.
أمّا في العصور الوسطى في أوروبا، فتميّزت بالغياب التام لحقوق الإنسان، حيث انتشر الإرهاب الفكري ممثّلاً بمحاكم التفتيش وعطاء رجال الكنيسة والنبلاء تتنافى مع مبادئ الدين المسيحي التي نادت بالحرّية والمحبّة والمساواة.
أمّا حقوق الإنسان في المجتمعات المعاصرة، فكان حافلاً بالمعارك المتواصلة التي ناضل فيها الانسان من أجل حقوقه وحرّياته الأساسية تارة ضدّ المستعمر الأجنبي، وتارة ضدّ الحكم الوطني المستبدّ الذي أنتج الثورات الوطنية والمطالبة بالدساتير والضمانات الدستورية.
ونتيجة هذا االنضال الذي بذل في سبيل تأييد حقوق الأفراد واحترامها، تطوّرت التشريعات، حيث كانت البداية في بريطانيا من خلال شرعة المغنا كارتا عام 1215/ التي كانت ثمرة ثورة النبلاء بوجه الملك الطاغية ، ثمّ تلاها إعلانات واتفاقيات سواء في بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية عام 1776/ عند انفصال المستعمرات عن المملكة البريطانية. وفي فرنسا إعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي بعد ثورة عام 1789/التي تمثّلت بمبدأ (Egalite, Fraternité, Liberté) الإخاء والمساواة والحـرّية التي صدقت عليه الجمعية التأسيسية قبل تصديقها على الدستور. واعتبر ممثّلو الشعب الفرنسي أنّ تجاهل حقوق الانسان، أو إهمالها هو السبب الوحيد للمآسي الاجتماعية وفساد الحكومات.
ثمّ انتظر العالم نهاية الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من إنشاء منظّمة الأمم المتحدة وإطلاق الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الذي شارك في صياغته مندوب لبنان في الأمم المتحدة السفير شارل مالك) عام 1948/ الذي ألحق بالعهدين الدوليين عام 1966حيث تناول العهد الأوّل الحقوق المدنية والسياسية، والآخر الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وبروتوكول ملحق بالعهد الأوّل. وقد سبق هذين العهدين الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي جرى توقيعها في روما في العام 1950/ والتي تميّزت بإنشاء جهاز خاص لضمان هذه الحقوق.(المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان).
بدأ نفاذ هذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في 23/ آذار 1967. أمّا نفاذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية فكان في 23/ كانون الثاني 1976/ وانضمّ إليهما 132/ دولة بما فيها الدول العربية.
ولحظت المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي: يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، إنّ الحقّ في الحرّية والمساواة هو حقّ لكلّ إنسان دون أيّ تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو الرأي السياسي أو الثروة أو أيّ وضع آخر. وإنّ الحقّ في تقرير المصير هو حقّ عالمي ولجميع الشعوب الحقّ في تقرير مصيرها.
والمادة /3/ من العهدين الدوليين الصادرين في العام 1966 إستكمالاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصّت على مساواة الرجال والنساء في حقّ التمتّع بجميع حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية دون فرض أيّة قيود عليها، كما تمنع الدول من تقييد هذه الحقوق التي يتمتّع بها المواطنون بها داخل أراضيها. كما نصّ على حماية الحقّ في حرّية الفكر والدين وحرّية الرأي والتعبير والتجمّع السلمي، والمساواة بين الزوجين، وحماية الأقليات الإثنية والدينية واللغوية الموجودة في إقليم الدول الأطراف.
وتناول العهد الأوّل الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المواد 6/ لغاية المادة 27 منه.
حماية الحقّ في الحياة إذ لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب أو العقوبة القاسية اللاإنسانية أو الماسة للكرامة، كما لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسّفاً، وأن يعامل جميع المحرومين من حرّيتهم معاملة إنسانية، ولكلّ إنسان في كلّ مكان، الحقّ بأن يعترف له بالشخصية القانونية. ويحظّر التدخّل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته.
بعدها صدرت العديد من الاتفاقيات الدولية منها منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، والقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والاتفاقيات الخاصة بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، والإتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة التي دخلت حيّز التنفيذ عام 1981/ إتفاقية حقوق الطفل 1989، والإتفاقية الدولية لحماية العمّال والمهاجرين، والميثاق العربي لحقوق الإنسان عام 1994/ في إطار جامعة الدول العربية، حيث جاء في مقدّمته التأكيد على الدور الذي اضطلعت به الأمّة العربية في إرساء القيم والمبادئ الإنسانية، كما تضمّن التأكيد على جملة مبادئ تتناول حقوق الإنسان المدنية والسياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية بما في ذلك حقّ الشعوب في تقرير المصير والتنمية المستدامة ومكافحة جميع أشكال التمييز العنصري.
ومع بداية القرن العشرين، شهد العالم، موجة جديدة من الحقوق التي تضمن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للإنسان، وأكّد على واجب الدولة في تأمين المساواة بين المواطنين في مجال التمتّع بالخدمات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وكانت هذ الموجة نتاج الثورات والحركات الإجتماعية ذات التوجّه الإشتراكي،(مثل الملبس والمأكل والتعليم والضمانات الإجتماعية) واعتبرت أنّ عدم تأمين هذه الحاجات يجعل من الحقوق المدنية والسياسية شعارات بلا مضمون.
وفي بداية القرن الواحد والعشرين، تضاعف الإهتمام بحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية في مختلف أنحاء العالم ، فعقدت المؤتمرات والندوات ووضعت الدراسات والمؤلّفات، وأنشئت المنظّمات والجمعيات، وأبرمت المواثيق والإتفاقيات الدولية والإقليمية لحمايتها ومعالجة الأوضاع والتطوّرات المتعلّقة بها، وأسباب هذا الاهتمام يعود إلى: أنّ حقوق الإنسان لم تعد كما كانت في الماضي مسألة فردية تعالج في نطاق القوانين والأنظمة الداخلية، بل أصبحت اليوم قضيّة عالمية تهمّ كلّ إنسان وتهتّم بكلّ إنسان. فالإتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان تضمّنت جميعها نصوصاً تلزم الدول بالتوفيق بين تشريعاتها الوطنية وأحكام الإتفاقية التي انضمّت إليها وتطبيق أحكامها في التشريعات الوطنية وإخضاعها لرقابتها، وذلك من خلال إنشاء لجان للتوفيق والتحقيق، تتولّى رصد مدى احترام الدول الأطراف في هذه الإتفاقيات لأحكامها، والدول الأطراف في هذه الإتفاقيات تلتزم بتقديم التقارير عن أوضاع حقوق الإنسان فيها، وهذا التزام قانوني تقوم به الدول جبراً وليس اختياراً على تقديمه طالما وافقت وانضمّت إلى هذه الإتفاقيات.
كما تضمّنت هذه الإتفاقيات تخصيص خمس لجان من لجان الإتفاقية المعنية بالإشراف على تنفيذ إتفاقيات حقوق الإنسان، لتلقّي شكاوى أو تبليغات فردية للخاضعين لولاية الدول الأطراف والذين يدعون أنّهم ضحايا أيّ خرق من إحدى الدول الأطراف لأيّ من الحقوق المقرّرة في الإتفاقية أو أكثر. واللجان المختصة بهذا النوع من الشكاوى أو التبليغات هي: اللجنة المعنية بحقوق الإنسان ولجنة مناهضة التعذيب، ولجنة القضاء على التمييز العنصري، ولجنة القضاء على التمييز ضدّ المرأة، ولجنة حماية جميع العمّال المهاجرين وأسرهم.
إضافة إلى أنّ عدّة إتفاقيات دولية نصّت على إحالة أيّ نزاع ينشأ بين دول الأطراف حول تفسير هذه الإتفاقية أو تنفيذها إلى محكمة العدل الدولية إذا تعذّرت تسويته بالتفاوض مثل (دعوى البوسنك والهرسك). وفي إتفاقيات أخرى، نصّت على إحالة النزاع إلى التحكيم قبل اللجوء إلى المحكمة، ومنها المادة 29/ من إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، وكذلك المادة 30/ من إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من المعاملة أو العقوبة القاسية.
ولعلّ من أهمّ فوائد هذا النظام، ضمان رقابة الأمم المتحدة على حسن تطبيق الدول الأطراف في الإتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وضمان رقابة متبادلة بين الدول الأطراف نفسها.
لكن بالرغم، ما للحماية الدولية اليوم من أهمّية، فإنّ ذلك لم يمنع للأسف، من إنتهاك حقوق الإنسان في الواقع العملي، ممّا يشير إلى قصور إتفاقيات الحماية من جهة، ومن جهة أخرى إلى عدم وجود نوايا حسنة لدى الدول الموقّعة على الإتفاقيات بتطبيق بنودها، بل غالباً ما يكون التوقيع أو الإنضمام إليها لأجل تجنّب انتقاد تلك الدول وإبعاد تهمة التسلّط والدكتاتورية عنها، أو أن تجابه بردّ فعل عنيف من الرأي العام الدولي.
في ظلّ التغيّرات العميقة التي أصابت كيان المجتمع الدولي، كان لا بدّ لبعض أنظمة الدول العربية من إصدار تشريعات ودساتير تتعلّق باحترام حقوق الإنسان مثل جمهورية مصـر والعراق ولبنان، وذلك لغاية تحصين نفسها بالشرعية الديمقراطية وإبعاد تهمة التسلّط والديكتاتورية عنها. أمّا في الواقع فقد بقيت شعارات دون مضمون.
ونشير إلى أنّ هذه الدول قد صدقت على الاتفاقيات الدولية مع التحفّظ لمخالفة بعض بنودها لأحكام الشرع الإسلامي مثل تزويج القاصرات والضرب واغتصاب الزوجات، واعتبار أنّ مفهوم حقوق الإنسان مرتبط بالظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتأثّرها بقيم البلد من حيث الموروث الثقافي والمعتقدات الدينية والتقاليد الاجتماعية المختلفة في هذه الدول مما أدّى إلى شلّ مفعول هذه الاتفاقيات.
إنّ فقدان الحقوق والحرّيات، أو قمعها، أو تقييدها كان على مرّ العصور سبباً من أسباب انهيار المجتمعات. فالحضارة العربية لم تزدهر إلّا بفضل الحرّية الفكرية، وعندما بدأ الحكّام يتنكّرون للحقوق والحرّيات ويفرضون القيود على العقل، أخذت الحضارة تنزلق في طريق الانحدار. ومن الملاحظ أنّ اندلاع الثورات السياسية والتمرّد على الاستبداد والظلم كان نتيجة الامعان في انتهاك الحقوق والحرّيات على مرّ التاريخ، ولأنّ قادة الثورات والانقلابات والحروب الأهلية يبرّرون أعمالهم، في البداية، بالرغبة في تأمين الحقوق والحرّيات لجميع المواطنين، حتّى إذا ما استتب لهم الأمر، تحوّلوا إلى مستبدين لا يرعون حرمة لأيّ حقّ أو حرّية، بدليل ما شهدناه مؤخّراً من انهيار سريع لأنظمة بدا أنّ الخلاص منها كان مستحيلًا.
وأطلق على هذا الزلزال السياسي والجغرافي الذي هزّ المنطقة بدءاً من العام /2011/ اسم “الربيع العربي”، وقد أدّى إلى نتائج متفاوتة. فالتظاهرات الشعبية الحاشدة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا تبعتها إمّا إصلاحات مخيّبة للآمال في أحسن الأحوال، أو ردود فعل قمعية من أنظمة دكتاتورية، ونزاعات دموية، باستثناء تونس. ومع ذلك، فإنّ الثورة لم تمت، وهو ما تجلّى بعد ثماني سنوات في اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية في كلّ من السودان والجزائر والعراق ولبنان والتي لم تثمر عن النتائج المرجوة، بل على العكس أدّت إلى فساد حكومات وانهيار إقتصادي ومالي غير مسبوق.
لكنّ شيئاً ما “في نسيج الواقع نفسه” تغيّر منذ اندلاع الثورات، واختصرت رغبة جيل كامل توّاق إلى الحرّية وقدرته على التحرّر من الخوف.
إنّ الناس باتوا اليوم أكثر “وعياً ويقظة” لما يدور حولهم من تجاهل الدول للتشريعات التي تضمن حقوق الانسان ، وذلك من خلال تواجد المنظّمات غير الحكومية المدعومة من الأمم المتحدة وغيرها، بحيث لم يعد بالإمكان فصل المسار الداخلي عن مسار الشرعية الدولية، مهما تجاهلت هذه الدول التزامها بالاتفاقيات الدولية.
لذا نرى، وجوب تضافر الجهود والتعاون مع الجمعيات والمنظّمات غير الحكومية للمطالبة بتعديل القوانين لتطابق مع المواثيق الدولية وشرعة حقوق الانسان ولتطبيق الاتفاقيات الدولية وإلغاء جميع التحفّظات عليها حفاظاً على كرامة الانسان في وطنه.
* عضو سابق في مجلس نقابة المحامين في بيروت. وألقيت هذه الكلمة ضمن مؤتمر”المرأة العربية والمساواة أمام القانون نحو ميثاق عربي لحقوق المرأة العربية” الذي نظّمته لجنتا المرأة في اتحاد المحامين العرب ونقابة المحامين في بيروت يومي الجمعة والسبت في 25 و26 آذار 2022 في “بيت المحامي”.
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/3/29
‭ ‬

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!