أبرز الأخبارمقالات

الفوضى… Le chaos في التشريع(عن المجلسين النيابي والدستوري وقانون”السلسلة”)/ المحامي هادي خليفة

بقلم المحامي هادي خليفة:
“كلّما اعتقدنا أنّنا بلغنا القاع نشعر بحركة ضعيفة في الأسفل”
صدر القانون رقم 2017/45، وتمّ نشره في الجريدة الرسمية في العدد 37 تاريخ 2017/8/21 والمتعلّق بتعديل واستحداث بعض المواد القانونية الضريبية، وأرفق به الأسباب الموجبة له والمتمثّلة بزيادة واردات الخزينة لغايات تمويل رفع الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام ولتحويل رواتب الملاك الإداري والمؤسّسات العامة غير الخاضعة لقانون العمل والأسلاك العسكرية.
بعد أن تمّ نشر القانون المذكور، تقدّم عدد من النوّاب بتاريخ 2017/8/30 بالطعن به أمام المجلس الدستوري لمخالفته أحكام المواد 36 و83 و7 من الدستور ولمخالفته الفقرة – ج- من مقدّمة الدستور، ولمخالفته المادتين 78و85 من النظام الداخلي لمجلس النوّاب.
أصدر المجلس الدستوري بمعرض البتّ بالطعن القرار رقم -5- تاريخ 2017/9/23 – الذي تمّ نشره في الجريدة الرسمية – العدد 45- والذي قضى بإبطال القانون المطعون فيه برمّته مكرّساً بموجب هذا القرار مبادىء دستورية وقانونية لم يصدف أن سبق للمجلس التطرّق إليها في معرض بتّه بطعون سابقة، وأكّد المجلس على ثبات أصول التشريع عبر المناداة بصوتٍ عالٍ داخل القاعة العامة لمجلس النوّاب لأسماء النوّاب لحظة التصويت على القوانين معتبراً أنّ المادة 36 من الدستور هي تتعلّق بقاعدة ضرورية للمراقبة والمحاسبة في الأنظمة الديمقراطية نافياً عنها صفة القاعدة الشكلية ومضيفاً أنّ هذه المادة وردت في الدستور منذ العام 1926 ولم ينلها أيّ تعديل.
كما أكّد المجلس أنّه لا يجوز فرض ضرائب بصورة ظرفية، وإنّما في إطار موازنة سنوية تشكّل برنامجاً إصلاحياً وإنمائياً واقتصادياً واجتماعياً بحيث يجب أن تأتي الضرائب والرسوم وفق متطلّبات الخطّة الموضوعة، وإنّ صدور القانون المطعون فيه صدر في غياب الموازنة فيكون أتى مخالفاً لمبدأ الشمول الذي نصّت عليه المادة 83 من الدستور،
ونشير هنا، إلى أنّ خصائص مبدأ الشمول في الموازنة العامة للدولة- universalité du budget يشكّل أحد المرتكزات البنيوية عند إقرار الموازنة العامة، وهي تعني أن تكون هذه الموازنة شاملة جميع نفقات وواردات الدولة بدون أيّ إنقاص أو اقتطاع أو إغفال عملاً بقاعدة: les finances sont les nerfs de la République
كما أكّد المجلس الدستوري في قراره أنّ المادة 17 من القانون المطعون فيه تشكّل خرقاً لمبدأ المساواة أمام التكاليف العامة والضرائب، ومتعارضة مع الفقرة – ج- من مقدّمة الدستور ومع المادة -7- من الدستور بعد أن بيّن أنّ مطرح الضريبة في تلك المادة سوف تخضع مرّة جديدة لضريبة الباب الأوّل (والتي تعنى بضريبة الدخل على أرباح المهن الصناعية والتجارية وغير التجارية) بعد أن تكون خضعت لضريبة الباب الثالث (والتي تعنى بضريبة الدخل على رؤوس الأموال المنقولة) ممّا سيؤدّي إلى دفع الضريبة مرّتين على الدخل نفسه،
كما أكّد المجلس الدستوري في قراره على قاعدة مهمّة في أصول التشريع عند تطرّقه إلى المادة 11 من القانون المطعون فيه والتي وصفها أنّها تتعارض مع الأصول المعتمدة في التشريع ويكتنفها الغموض الذي يفسح المجال أمام تطبيقها بصورة إستنسابية وبطرق ملتوية تسيء إلى العدالة والمساواة بين المواطنين أو تنحرف عن النيّة غير الواضحة أساساً للمشترع وهي مخالفة بالنتيجة للدستور بسبب افتقارها للوضوح.
إنّ ما ذهب إليه المجلس الدستوري في هذا القرار يعتبر خطوة متقدّمة في مسار الرقابة على دستورية القوانين ويفتح باب الأمل لقيام دولة القانون في لبنان،
إلاّ أنّ هذا الأمل نراه يتقلّص بعد إقرار مجلس النوّاب مشروع القانون المعجّل رقم 64 الوارد من الحكومة والمتعلّق بتعديل واستحداث بعض الضرائب والرسوم والذي أرسلته الحكومة على عجل بعد إبطال المجلس الدستوري للقانون رقم 2017/46 خشية على نفسها من نفسها على عدم قدرتها على تمويل ما وعدت به، بموجب القانون رقم 2017/45 المتعلّق برفع الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام والسلاسل الملحقة به، والجدير ذكره أنّ القانون رقم 64 الذي صدر بتاريخ 2017/10/20 وتمّ نشره في العدد 50 تاريخ 2017/10/26 من الجريدة الرسمية ما هو إلاّ تكرار للنصوص القانونية الواردة في القانون رقم 45 الذي أبطله المجلس الدستوري وهو لم يلتزم بالمبادىء الدستورية التي كرّسها قرار الإبطال، هذا فضلاً عن مخالفته الجوهرية للمادة 13 من القانون 250/93 – المعدّل المتعلّق بإنشاء المجلس الدستوري وهو قانون عضوي- loi organique- والتي تنصّ على أنّ القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري هي قرارات مُلزمة لكافة السلطات،
Les lois organiques sont des mesures d’application de la constitution- Droit constitutionnel- Pierre Pactet-p : 588
وهو نصّ مماثل للفقرة -3- من المادة 62 من الدستور الفرنسي:
L’article 62 alinéa 3;
Les décisions du Conseil constitutionnel ne sont susceptibles d’aucun recours .Elles s’imposent aux pouvoirs publics et á toutes les autorités administratives et juridictionnelles.
وبالتالي لا يحقّ للمجلس النيابي مطلقاً إقرار قوانين لا تكون منسجمة مع المبادىء التي يكون كرّسها المجلس الدستوري، هذا فضلاً عن أنّ التعليل الذي يرد في القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري لها القوّة ذاتها التي ترد في الفقرة الحكمية وهو ما أكّده الفقه في فرنسا، وكرّس قاعدة مفادها أنّ القرارات التي تصدر عن المجلس الدستوري هي مُلزمة على حدٍ سواء إنْ لجهة الأسباب أو لجهة المنطوق – Motif- كونها توضّح المبادىء الدستورية،
Caractères des décisions du Conseil constitutionnel : Le Conseil a d’ailleurs précisé que cette force juridique s’attache non
seulement á leur dispositif mais aussi aux motifs qui en sont le soutien nécessaire et en constituent le fondement même…
Droit constitutionnel-Pierre Pactet –Ferdinand Mélin-Soucramanien- Sirey- 29éd.mise á jour juillet 2010- p;512
Le Conseil a lui –même défini une conception plus complexe de l’autorité de ses décisions en allant dans le sens de son extension, notamment en décidant que les motifs qui sont le soutien nécessaire du dispositif d’une décision ont force obligatoire.
L’Autorité de la Chose Interprétée par le Conseil Constitutionnel – Mathieu Disant- éd.2010-p;31
وكان مجلس شورى الدولة في لبنان وعبر قراره الصادر بتاريخ 2001/10/25 تحت رقم 71/ 2001-2002 قد سلك هذا المسار لجهة تحديده للمفاعيل القانونية للقرارات الصادرة عن المجلس الدستوري، وأورد أنّ هذه القرارات هي قرارات مـُلزمة للقضاء كما للسلطات العامة وأنّ إبطال المجلس لنصّ تشريعي لا يؤدّي وحسب، إلى بطلان هذا النصّ، بل ينسحب على كلّ نصّ مماثل أو قاعدة قانونية مشابهة للقاعدة التي قضى بإبطالها، سواء كانت متزامنة مع قرار المجلس أو سابقة له، وذلك لتعارضها مع أحكام الدستور أو مع مبدأ عام يتمتّع بالقيمة الدستورية لأنّ هذه القاعدة تكون خرجت من الإنتظام العام القانوني بصورة نهائية بحيث لا يستطيع القضاء سواء العدلي أو الإداري أن يـُعمل نصّاً مخالفاً للقاعدة أو للمبدأ الذي أقرّه المجلس الدستوري وذلك إحتراماً لمبدأ الشرعية وخاصة لمبدأ تسلسل أو تدرّج القواعد القانونية.
إنّ قبول المجلس النيابي بإقرار القانون الوارد من الحكومة بصفة المعجّل المماثل بمضمونه للقانون الذي أبطله المجلس الدستوري لا سيّما لجهة فرض ضرائب جديدة بدون الأخذ بما أورده المجلس الدستوري لجهة عدم جواز هذا الأمر إلاّ في إطار الموازنة السنوية، واستنساخه لمضمون نصّ المادة 11 من القانون الذي أبطل رغم أنّ المجلس الدستوري أورد في شكل واضح أنّ هذه المادة يكتنفها الغموض وهي مخالفة للدستـور بسبب افتقارهـا للوضـوح ، وتكـراره لنصّ المادة 17 رغـم أنّ المجلس الدستوري اعتبر أنّ هذه المادة تشكّل خرقاً لمبدأ المساواة أمام التكاليف العامة والضرائب ومتعارضة مع المادة -7- من الدستور والفقرة –ج- من مقدمة الدستور،
كلّ ذلك، يعكس مدى الفوضى في التشريع، وهويشكّل الحالة النموذجية لتقزيم قوّة القرارات التي يصدرها المجلس الدستوري الذي يعتبر القضاة فيه أنّهم قضاة القانون – Juges des lois والقبول بالتضحية بالرقابة على دستورية القوانين هذه الرقابة التي هي جزء من التشريع، وأنّ هذه التضحية بالقرار رقم 2017/5 الصادر عن المجلس الدستوري عبرإقرار القانون رقم 2017/64 هو دليل على أنّ الحكومة ومن خلفها المجلس النيابي يقبلون بالتسوية على حساب المبادىء لتحقيق النتائج التي يرسمونها في ما بينهما ليسقطوا بذلك مفهوم دولة القانون في لبنان بعد أن وقّعوا بأيديهم على هذا السقوط.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 24 – كانون الأوّل 2017- السنة الثانية)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!