أبحاث ودراسات

قرار عجلة للقاضي رانيا رحمة يتصدّى لتعسف مصرف بعدم إقرار الحقوق المشروعة لمودع بحاجة إلى الطبابة/ جان تابت

المحامي جان تابت:
القسم الأول – في المقدمة:
1. صدر عن حضرة قاضي الأمور المستعجلة في المتن القاضية رانيا رحمه المحترمة قرار حمل في مضمونه ودلالاته معانٍ كثيرة متّصلة مباشرةً بحقوق الانسان على وجه العموم لا سيّما وبالأخصّ الحق بالملكية الفردية والحقّ بامتلاك الفرد لحسابات مصرفية وحريّة التصرّف بها، وقد تطرّق القرار المشار اليه الى مفاهيم كان لا بد من الاضاءة مجدداً عليها نظراً لأهميتها. وقد صدر هذا القرار تحت الرقم 2024/2 بتاريخ 2024/2/7 بموجب استدعاء أمر على عريضة.
2. وبالفعل، فالقرار هو محطّ اهتمام لدى القانونيين نظراً لأهميّته، اذ ان القاضية رحمة شددت على المفاهيم الآتي ذكرها:
• الدستور اللبناني واعتماده النظام الاقتصادي الحر.
• حساب وديعة الحساب الجاري، وان العميل يحق له الاستفادة من الخدمات التي يقدمها المصرف واولها الحساب النقدي عن الصندوق Service de caisse.
• وصف مفهوم “حبس الوديعة” بأنه غير مسند الى أي مسوغ قانوني.
• حق المستدعي بالطبابة لأن المبلغ المطالب به هو من اجل تأمين العلاج الطبي، وحق الانسان في الصحة المكرس في الاعلان العالمي لحقوق الانسان المنضمّة اليه الدولة اللبنانية.
• ان امتناع المصرف عن تسليم المبلغ المالي المطلوب لإجراء عمليّة جراحية يشكل مسألة خطيرة ضد حقوق الانسان ومخالفة صارخة للأنظمة والقوانين المرعية الاجراء وللمعاهدات الدولية.
• ان مخالفة المصرف لهذه المبادىء ينزل منزلة التعدي الواضح على الحقوق المشروعة.
3. وعليه، ان كلّ هذه الأسباب تبرر تدخل قاضي الأمور المستعجلة لوقف هذا التعدّي على الحقوق المشروعة والزام المصرف بتعجيل سلفة وقتية للمستدعي حددها القرار بـمبلغ وقدره /5,000/د.أ. بالعملة الورقية (خمسة آلاف دولار أمريكي).
القسم الثاني- في الوقائع التي استعرضها القرار موضوع التعليق:
1. تقدّم المستدعي من حضرة قاضي الأمور المستعجلة في المتن باستدعاء أمر على عريضة طالباً بموجبه التفضّل بالزام المصرف بتحرير وديعته وتسليمه مبلغاً وقدره /5000/د.أ. لزوم دخوله الى المستشفى لإجراء فحوصات ضرورية.
2. امتنع المصرف عن تسليم المبلغ المطلوب، مدلياً بالحجج نفسها التي تنتهجها كافّة المصارف اللبنانية مبرّرةً موقفها غير القانوني في حبس الودائع ومنع المودعين من التصرّف بها منذ تشرين الاول من العام 2019 وحتّى تاريخه بأنها سلمتها لمصرف لبنان الذي لم يعدها لها.
3. وبالنتيجة، صدر عن حضرة قاضي العجلة في المتن القاضية رانيا رحمه المحترمة القرار موضوع التعليق الراهن الذي ذكرنا بالمبادئ والحقوق المكرّسة بموجب شرعة حقوق الانسان العالمية والدستور اللبناني خصوصاً لناحية الحقّ بالطبابة والحق بالملكية الفردية، وبأن أي مخالفة لهذه المبادئ من قبل أيّ كان تشكّل أمراً خطيراً لا يمكن التهاون معه ويستدعي تدخل القضاء فوراً ودون أي تباطؤ سواءً لوقفه أو لمنع حدوثه.
القسم الثالث- في الانتهاكات للحقوق التي اشار اليها القرار موضوع التعليق:
1. ان الحق في الصحة هو حق من الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتّع بها كلّ إنسان، وقد كرّسته الشرائع العالميّة والمواثيق الدوليّة ومجمل دساتير الدول.
2. وتبلغ أهميّة هذا الحقّ في أن الصحة الجسدية والعقلية هي مسألة ضرورية وحجر الأساس لتمتع المواطنين بالحقوق الأخرى(1).
اولاً- التشريعات الدولية:
1. مع إنشاء منظمة الصحّة العالميّة تمّ الاعتراف للمرّة الاولى بحق الإنسان في الصحة؛ وقد زاد الاهتمام في هذا الحقّ مع تطور المجتمعات من خلال مسيرة طويلة من الإعلانات والعهود والمواثيق الدولية، نذكر منها: الاعلان الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، الإتفاقية العربية السابعة من العام 1977، اعلان آلما- آتا عام 1978 الخاص بالرعاية الصحية الاولية، دستور منظمة الصحة العالمية(2 و 3).
2. بالفعل، كرّست المادة /25/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(4) والمادة /19/ من الدستور اللبناني(5) الحق لكل إنسان بمستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته والحصول على الرعاية الصحية والعلاج بما يتناسب مع احتياجاته.
3. وقد ذكر قرار حضرة قاضي العجلة موضوع التعليق بأن الدستور اللبناني الذي يعتمد الاقتصاد الحر والملكية الفردية، لا يسوغ وبأي شكل من الاشكال سواءً للمصارف اللبنانية او حتّى للدولة احتجاز ودائع وموجودات اللبنانيين لأن ذلك يشكل مخالفة فادحة ليس فقط للقوانين اللبنانية إنّما حتّى للدستور اللبناني(6 و7).
4. كلّ هذه المبادئ اخذ بها قرار حضرة قاضي الامور المستعجلة وأعطاها مفاعيلها القانونية مؤكّداً على تعسّف المصارف اللبنانية تجاه عملائها لا سيما لناحية منعهم من التمتّع بالحق في الصحّة ونعني بذلك الحقّ بتلقّي العلاج اللازم لكلّ مريض.

باء- الصعوبات والتحديات التي يواجهها المواطن في لبنان: ان الحق بالطبابة وبالصحة هو من الحقوق المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقوق الانسان:
1. يواجه القطاع الصحي في لبنان العديد من الصعوبات والتحديات التي جاءت نتيجةً للتراكمات على مدى سنوات طويلة بفعل الأزمة الاقتصادية الراهنة.
2. بالفعل، وبسبب حبس الودائع من قبل المصارف اللبنانية فقد ادى ذلك الى تراجع إمكانيات المواطنين الماديّة حيث تأثّر القطاع الصحي بشكل كبير، وقد تراجعت خدماته المقدّمة للمرضى كباقي القطاعات اللبنانية التي أرهقتها الأزمة التي حلّت بالبلاد(8).
3. وبالنظر إلى هذا السيناريو الأليم، اضحى من الضروريّ وبشكل عاجل اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين التمويل اللازم للمستشفيات والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والوزارات التي تُعنى بصحة الانسان لضمان استحصال كافّة المواطنين اللبنانيين وبشكل متساوي على الخدمات الطبية الأساسية.
4. وعلى الجهات المعنية اتّخاذ الخطوات العاجلة والطارئة للتصدي للأزمة الاقتصادية-المصرفية التي أثّرت على كافّة القطاعات بهدف إعادة تحسين وضع القطاع الصحي عمومًا والحد من المعاناة التي يواجهها المرضى.
5. وفي سابقةٍ، جاء القرار موضوع التعليق يلزم المصرف بتسديد الأموال اللازمة للعلاج كخطوة أولى في هذا الاتجاه معززاً الحق بالرعاية الصحية كحق أساسي من حقوق الانسان.
6. وقد سلط القرار المشار اليه على أهمية ضمان قدرة الأفراد بالحصول على الموارد المالية اللازمة لتغطية تكاليف علاجهم والوصول إلى الخدمات الصحية التي يحتاجون إليها.
7. ومثل هذه الأحكام تساهم في إعادة ارساء التوازن المفقود منذ العام 2019 في المجتمع اللبناني عن طريق ترتيب وتحميل المسؤولية للمؤسسات المالية تجاه المجتمع بشكل لا تكون معه الصحّة مجرد امتياز للبعض بل حق لا يمكن المساس به.
القسم الرابع- في الخاتمة:
1. في ظل تقاعس الدولة اللبنانية عن وجود أي مخرج أو حل للأزمة الرباعية الأوجه التي عصفت بالبلاد (نقدية، اقتصادية، مصرفية، سياسية) منذ العام 2019، وفي ظل انكفاء السلطتين التنشريعية والتنفيذية عن معالجة الازمات الراهنة التي حلّت بكلّ القطاعات اللبنانية، يبقى القضاء اللبناني الملاذ الوحيد لكلّ مظلوم بحيث أكّد ولا يزال يثبت يوميّاً صونه للحقوق والمحافظة عليها أو ليس “العدل أساس الملك”؟
2. ومع قرار حضرة قاضي العجلة في المتن موضع التعليق الراهن، يمكننا التأكيد أيضاً أن العدل هو اساس الصحة والعيش الكريم، آملين أن يكون هذا القرار فاتحة لإعادة الودائع المصرفية الى اصحابها وبداية حلّ جذريّ لهذه المشكلة التي لا خروج منها الا بقرارات قضائية جريئة كالقرار الصادر عن حضرة قاضي العجلة في المتن.
هامش:

(1) Aline Vignon-Barrault, Précarité et accès aux soins : un bilan mitigé, RDSS 2023. 1083 :
« L’accès à la santé pour tous, notamment les plus précaires, est au centre des politiques publiques depuis la fin de la seconde guerre mondiale et constitue « un droit gravé dans le marbre du pacte républicain » ».
(2) Sarah CASSELLA, Répertoire de droit international, Dalloz, Santé publique –Avril 2022, No 36 : Le droit à la santé fait aujourd’hui partie des droits économiques, sociaux et culturels reconnus au niveau international et, de façon variable, dans la plupart des États. Il a été consacré en tant que droit subjectif pour la première fois par la Constitution de l’OMS et est désormais reconnu dans plusieurs traités universels et régionaux ainsi que par les décisions des organes juridictionnels et quasi-juridictionnels de protection des droits humains
(3) Aline Vignon-Barrault, Précarité et accès aux soins : un bilan mitigé, RDSS 2023. 1083 :
Ce rattachement n’a pourtant cessé de s’affermir et la protection de la santé figure dans de nombreux textes européens rattachés aux droits de l’homme. A tel point que le droit à la protection de la santé fait parfois place au droit à la santé ou au droit à l’accès aux soins.

(4) نصت المادة /25/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي:
“لكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصَّةً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحقُّ في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.”
(5) كما ونصت المادة /19/ من الدستور اللبناني على ما يلي:
“كل إنسان له الحق في الاستفادة من الرعاية الصحية والعلاج، بما يتناسب مع احتياجاته، ويكفل له هذا الحق من قبل الدولة.”
(6) المادة 17، فقرة 1 من شرعة حقوق الانسان:
كلِّ فرد حقٌّ في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.
(7) ان الدستور اللبناني لن ينص بشكل صريح على نظام اقتصادي معين، ولكن يحدد الدستور اللبناني الإطار العام للنظام الاقتصادي من خلال تأكيد مبادئ الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة والتعاونية، وكذلك دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وتوجيهه بما يحقق الرفاه العام والعدالة الاجتماعية.

(8) Cité in Avis du CESE sur le rapport de M.-H. Boidin Dubrule, S. Junique, Eradiquer la grande pauvreté à l’horizon 2030, spéc. D. Accès aux soins. : Michel Serre avait perçu très tôt le lien entre la démocratie et l’accompagnement des personnes précaires : « nous n’avons jamais vécu en démocratie, dès le moment où nous laissons vivre à côté de nous des hommes détruits par la plus grande pauvreté »

“محكمة” – الأربعاء في 2024/2/28

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!