في المغالطة التي تنال من مصير الودائع المصرفية بالعملة الأجنبية/فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
منذ إندلاع الأزمة المصرفية في لبنان في 2019/10/17 يدور الكلام، عند غالبية السياسيين والإقتصاديين في ما يتعلّق بكيفية إعادة تكوين ودائع المودعين بالعملة الأجنبية لغرض إعادتها الى أصحابها، حول “الخسائر ” التي وقعت والتي جفّفت الودائع في المصارف بتلك العملة والتي يتحمّلها من حيث المبدأ فرقاء أربعة : الدولة اللبنانية، مصرف لبنان، المصارف والمودعون.
بحيث إنه لا بدّ من توزيع تلك الخسائر عليهم بنسب متفاوتة حتى يُسألون عن تغطيتها. على اعتبار أنه بفعل تلك التغطية يتمّ إعادة تكوين تلك الودائع فتُعاد عندئذٍ الى أصحابها.
وإنه، وفق ما يقال أيضاً، يتعيّن على القضاء أن يفصل بمسألة مقدار مسؤولية كلّ من هؤلاء الفرقاء الأربعة في “الخسائر” الواقعة، حتى يتحدّد مقدار الأعباء المالية التي تصيب كلاًّ منهم، بحيث يعود عليه عبء سدادها لتغطية تلك “الخسائر”.
وفي السياق ذاته، طرح هؤلاء السياسيون والاقتصاديون، أنه، لغرض استكمال إعادة تكوين تلك الودائع المصرفية، لا بدّ أيضاً من إسترجاع الأموال التي حولّتها المصارف الى الخارج لبعض عملائها المميّزين من أهل النفوذ، إثر ثورة 2019/10/17 وبعدها، على اعتبار أن تلك التحويلات تخالف “قاعدة المساواة بين المودعين” في الحصول على ودائعهم، في ظل الشحّ والنضوب اللذان أصابا تلك المصارف في سيولتها النقدية.
وإنه لا بدّ، كذلك، من الإرتكاز الى نتائج “التدقيق الجنائي” في كافة الوزارات والمؤسسات العامة، كمصرف لبنان ومؤسسة كهرباء لبنان ومجلس الإنماء والإعمار وسواهم، لغرض تبيان حجم الهدر والفساد والسرقة الحاصلة فيها وتحديد المسؤوليات والمسؤولين، لغرض تحميلهم الأعباء المالية الملازمة للأموال غير المشروعة التي إكتسبوها.
بحيث، يُستفاد مما تقدّم، أنّ تبويب عملية تجفيف الودائع المصرفية تحت مسمّى “خسائر”، من شأنه أن يدخلها، لغرض إعادة تكوينها، في متاهات ومسارات ومحاكمات وملاحقات معقّدة لامتناهية في المدة الزمنية وغير مضمونة النتائج، بالنظر للتركيبة السياسية في لبنان، التي تمتاز بالتداخل بين السلطات، ولا سيما بين السلطتين السياسيتين (التشريعية والإجرائية) والسلطة القضائية. الأمر الذي سيشكّل شبه إستحالة في إعادة تكوين تلك الودائع المصرفية من خلال هذه المقاربات المتشابكة والشائكة التي ترمي الى ترميم كيانها وتكوين حجمها.
علماً أنه، في علم المحاسبة العامة، عندما نتكلّم عن “خسائر” نكون أمام “أموال تشغيلية” نتج عنها “خسائر”، بفعل الذين تولّوا إدارتها وتشغيلها، في أي مجال كان. الأمر الذي لا ينطبق على “الودائع المصرفية” التي هي من فئة الأموال الأدخارية التي تمّ إيداعها من المودعين أصحابها في المصارف لغرض تثميرها بجني الفوائد عليها، وقد قامت هذه الأخيرة بتوظيفها، إما رضاءً وإما قسراً – بالإستناد الى قوانين الإقتراض التي تضمّنتها موازنات الدولة تباعاً على مدى عقود – لدى مصرف لبنان والدولة اللبنانية بصيغة “القروض المالية”، حتى تجني منها أرباحاً مضاعفةً.
بحيث إنه، لغرض إعادة تكوين تلك “الودائع المصرفية المقروضة”، لا بدّ من أن يقوم مصرف لبنان والدولة اللبنانية بسداد الأموال التي إقترضاها من المصارف، حتى يمكن هذه الأخيرة ردّها بدورها الى المودعين لديها.
علماً أن تحديد حجم تلك الأموال المقروضة، هو أمر في غاية البداهة والسهولة. إذ لا يتطلّب أية ملاحقات أو مراجعات أو إجراءات من أي نوع كانت، لكونه يرتبط مباشرةً “بالوضعيات المحاسبية” الممسوكة من الأشخاص المعنويين من القانون العام الذين يضطلعون بصفة المقترضين. عنينا بهم هنا، الدولة اللبنانية ومصرف لبنان.
الأمر الذي يحمل على الاستنتاج، بشكلٍ قاطع، أن تبويب إعادة تكوين الودائع المصرفية في خانة “الخسائر”، التي يجب تحديدها وتوزيعها على المسؤولين عنها تمهيداً لتحصيلها منهم وإعادتها الى المودعين، يكون من باب التضليل المتعمَّد وذرّ الرماد في العيون الهادف الى تبديدها وتجهيلها.
في حين، أن إخضاعها “لنظام القرض المالي” الذي يتوافق مع وضعيتها القانونية والواقعية، من شأنه أن يسهّل عملية إعادة تكوينها من خلال تحديد حجمها وتحديد هوية الذين إقترضوها والإلزام الواقع عليهم بردّها الى المصارف التي أقرضتهم إياها، حتى يمكن هذه الأخيرة ردّها الى المودعين لديها.
بحيث إن معالجة الوضع المصرفي في لبنان، وبالتبعية (par corollaire) حقوق المودعين في المصارف، لا بدّ أن تقارب من زاوية “القروض المصرفية” التي أبرمتها تلك المصارف مع الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والتي توجب عليهما سدادها وردّها بالكامل إليها. دونما أي إعتبار لكيفية أو لوجهة إنفاقها من قبل هؤلاء الأشخاص المعنويين من القانون العام الذين اقترضوها، ودونما أي إعتبار أيضاً للتجاوزات والسرقة والهدر والتبديد الحاصل من قبلهم بمعرض هذا الإنفاق.
هذا كلّه، من غير إغفال مصير الودائع المصرفية بالعملة الوطنية التي تدنّت بنسبة ستين ضعفاً (٨٩٠٠٠ لل./ ١٥٠٠لل.)، منذ ٢٠١٩/١٠/١٧. وقد نال هذا التدنّي من مناعة أصحابها وحرمهم من جنى أعمارهم ومن قدرتهم الشرائية، بشكل مفجع. ما يتطلب معالجة لم تتمّ مقاربتها حتى الساعة من قبل الجميع، على حدّ سواء.
فضلاً عن أن أحداً لم ينازع ، حتى اليوم، أمام القضاء العدلي المختص وظيفيّاً، بعدم قانونية التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان، منذ اندلاع الأزمة المصرفية في لبنان، والتي رمت الى إجراء اقتطاعات (haircuts) فاحشة وغير مألوفة على ما تبقى من ودائع المودعين بالعملة الصعبة في المصارف، في ظل إكراههم معنويّاً وإستغلال ضيق ذات يدهم على القبول بها، ووقوعهم في حالة الضرورة التي استلزمت منهم الإذعان لمضمونها لغرض تلبية إحتياجاتهم المعيشية.
فاقتضى التصويب.
“محكمة” – الجمعة في 2025/4/18