مقالات

موقف التشريع اللبناني من إضراب المعلّمين في المدارس والثانويات الرسمية!/جهاد اسماعيل

كتب جهاد اسماعيل*:
بات واضحًا أنّ هناك عملية خلط بين الحرّية النقابية والفكرية، المكفولة في نصّ المادة 13 من الدستور اللبناني، وبين الإضراب الذي ينفّذه المعلّمون في المدارس والثانويات الرسمية، لجهة أنّ الدستور، لم يشر، بصورة صريحة أو ضمنية، إلى موضوع الإضراب، رغبةً من المشترع في التمييز بين التعبير عن الرأي بمختلف الوسائل المتاحة قانوناً، وبين التوقّف عن العمل في المرافق العامة التي يعطيها الإجتهاد الدستوري والإداري أهمّية بالغة، من أجل انتظام وحماية مصالح المواطنين من أيّ عرقلة، انسجاماً مع الغاية الموجبة للمرافق العامة، وهذا التمييز، وتاليًا الإشكالية حول موقف التشريع اللبناني من موضوع الإضراب، يدفعنا إلى التوقّف عند السياق الآتي:
– بحسب المادة 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الصادرة عام 1966، والتي صدّق عليها لبنان، تتعهّد الدول الأطراف بكفالة حقّ الإضراب، شريطة ممارسته وفقًا لقوانين البلد المعني!
إلاّ أنّه كي يتحوّل هذا الحقّ إلى التزام قانوني على عاتق الدولة اللبنانية، فيجب أن يقرّ مجلس النوّاب القانون الذي يرعى حقّ الإضراب من أجل تنظيمه وتحديد قيوده وفق نصّ المادة 8 من الاتفاقية الدولية السالف ذكرها، وهذا الأمر لم يحدث على الإطلاق، ممّا يؤدّي إلى تعليق مفعول الإتفاقية إلى حين صدور القانون التطبيقي لها، وهذا ما يطرح إشكالية ذات طابع دستوري على أداء السلطة التشريعية التي لم تقرّ، حتّى الآن، ما تعهّدت به الدولة اللبنانية إزاء الإضراب، على اعتبار أنّ الفقرة “ب” من مقدّمة الدستور تؤكّد بأنّ “لبنان” قد التزم بمواثيق منظّمة الأمم المتحدة، وهو التزام دستوري لا يجوز تجاوزه.
– وفق نصّ المادة 8 من العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، نجد بأنّ واضعي الإتفاقية قد أرادوا التأكيد على مشروعية الإضراب تبعًا لضوابط قانونية محكومة في كلّ دولة على حِدة، ما يُوجب العودة إلى القواعد القانونية النافذة في لبنان، أسوة بصدور النصّ التطبيقي له.
وبما أنّ هذه القواعد، في رأينا، تميّز، بشأن الإضراب، بين القطاع العام، وبين القطاع الخاص، في ظلّ الإشكالية المطروحة حول قانونية إضراب المعلّمين في المدارس والثانويات الرسمية، فإنّه من الضروري التطرّق إلى الموقف التشريعي الذي يدعونا إلى التمييز بين المدارس الرسمية، كمرفق عام، وبين المدارس الخاصة:
– لجهة قانونية الإضراب في المدارس الخاصة:
بالعودة إلى قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة الصادر في 1956/6/15، يتبيّن أنّه جاء خاليًا من أيّ نصّ قد يمنع الإضراب، بل على العكس فإنّ المادة 29 من القانون نفسه تعتبر من قبيل إساءة استعمال الحقّ صرف أيّ فرد من أفراد الهيئة التعليمية بسبب تقيّده بمقرّرات نقابته أو مطالبته بحقوق أقرّها له القانون!
كما أنّ، بحسب المادة 5 من قانون 1964/9/2 المعدّلة بموجب قانون 1975/2/6، إقدام ربّ العمل على فسخ عقد الإستخدام للأجراء المضربين أو صرفهم من العمل خلال فترة إضرابهم يجعله مسؤولًا عن هذا الفسخ ما لم يرتكب الأجير خطأ جسيمًا.
– لجهة قانونية الإضراب في المدارس الرسمية:
لمّا كانت المدارس والثانويات الرسمية من المرافق العامة التي لا يجوز أن يتمّ تعطيلها بسبب ارتباطها أشدّ الإرتباط باحتياجات ومصالح المواطنين، فإنّ مجلس شورى الدولة، في قرارات عديدة، أصرّ على حظر الإضراب في مختلف المرافق العامة، كما أنّ المجلس الدستوري قد أكّد على جواز الخروج عن أحكام الدستور، عند حدود معيّنة، إذا كان الأمر يتصل بتأمين مقتضيات استمرارية المرافق العامة، تأكيدًا على أهمّية مبدأ الإستمرارية وتسيير الخدمات العامة.
علاوة على أنّ المواد القانونية قد حظرت الإضراب في المرافق العامة، من خلال النصوص التالية:
– وفق نصّ المادة 341 من قانون العقوبات، إذا توقّف عن الشغل أحد أرباب الأعمال أو رؤساء المشاريع أو المستخدمون أو العمّال إمّا بقصد الضغط على السلطات العامة وإمّا احتجاجًا على قرار أو تدبير صادرين عنها عُوقب بالحبس مدّة ثلاثة أشهر على الأقلّ، ما يعني، بحسب هذا النصّ، أنّ الإضراب في المرفق العام، يُعرّض فاعله إلى مسؤولية جزائية.
– بالعودة إلى نصّ المادة 15 من نظام الموظّفين، فإنّ المشترع حظّر على الموظّف أن يُضرب عن العمل أو يُحرّض غيره على الإضراب، بموازاة المادة 340 من قانون العقوبات التي تجرّد الموظّفين، من الحقوق المدنية، التي تربطهم بالدولة عقد عام إذا أقدموا على وقف أعمالهم أو اتفقوا على وقفها، ما يُدخل كلّ من يُقدم على الإضراب في إطار المسؤولية على مختلف أشكالها.
– إنّ معيار التمييز، في رأينا، بين الحرّية الفكرية والإضراب، يجد أساسه في نصّ المادة 13 من الدستور الذي يشير إلى أنّ”حرّية إبداء الرأي قولًا وكتابة وحرّية الطباعة وحرّية تأليف الجمعيات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون”، وفي ذلك، يكون المشرّع الدستوري قد قيّد الحرّية الفكرية في القوانين التطبيقية التي تستبعد الإضراب من دائرتها، وأكّد، في الوقت نفسه، مصاديق الحرّية النقابية أو الفكرية بالمجالات المذكورة في المادة 13(الرأي – التجمّع – تأليف الجمعيات..)، إذ من غير الوارد أن يُستفاد من هذا النصّ- الذي ترك للقوانين أن تقيّد إطار الحرّية الفكرية – ما لم يُشر إليه صراحةً، وما لم يتمّ إباحته في القوانين نفسها!
لذلك، فإنّ التشريع اللبناني، وتاليًا الإجتهاد بشقّيه الدستوري والإداري، لا يجيز الإضراب في المدارس والثانويات الرسمية، حفاظًا على مبدأ استمرارية المرفق العام الذي يعلو على أيّ اعتبار آخر، إنّما لا يجوز أن يبقى نصّ المادة 8 من العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية – الضامن لحقّ الإضراب – بلا نصوص تطبيقية تعدّل النصوص القانونية النافذة، من أجل ضمان الحقوق الإقتصادية والإجتماعية أكثر فأكثر، وإعطاء صورة جميلة عن النظام الحقوقي اللبناني الذي يرزح، في مكان ما، تحت وطأة الإجحاف والجمود، على اعتبار أنّ الإضراب، كحقّ مكرّس في العديد من دساتير الدول، ولو بشروط معيّنة، الوسيلة الطبيعية أمام أصحاب المطالب المشروعة للضغط على السلطات العامة، أو الأداة التنفيذية من أجل حماية الحقوق من القرارات التعسفية التي قد ترتكبها السلطة العامة على غرار مشروع موازنة “2021” الذي أعدّه وزير المالية بعد أن احتوى الكثير من البنود المُجحفة للحقوق المكفولة في القوانين والأنظمة السارية!
*كاتب وباحث في القانون الدستوري
“محكمة” – السبت في 2021/1/30

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!