مقالات

“بموتك ماتت الكلمات” – رثاء القاضي أميرة صبره لزوجها القاضي نادر منصور

القاضي أميرة صبره منصور*:
أُرَحِّبُ بِالحضورِ الكِرامِ فَرْدًا فَرْدًا، لَكُم مِنْ أَعْماقِ القلبِ ألف تَحيَّة. أَعتذرُ عنْ ذِكرِ أسمائِكم السَّامية، فهي محفورةٌ في قلبِ القلب.
نَجْتَمِعُ اليَومَ، مُؤَبِّنينَ ومُعَزِّينَ بزَوجي الحبيب، الفقيدِ الغالي، القاضي نادر منصور، بَعدَ مرورِ قرابة شهرين على رحيلِه، لنَقولَ له: لَئِنْ بَتَرَ الموتُ عُمرَك، وحَجَبَ التُّرابُ وَجْهَك، فهيهاتَ أَنْ يَحجُبَ ذِكْرَك. ستبقى بَصَماتُكَ متلألئةً حَنَانًا ودِفْئًا وحُضُورًا، وسيَبقى طَيْفُك حاضِرًا في أعماقِ القلوبِ والوجدان، عَصيًّا على الأُفولِ والنِّسيان.
أنتَ ما غبتَ يا حَبيبُ ولَكنْ             قدْ أَعارَتْكَ لِلخلودِ السَّماءُ
مضى النَّادرُ في صفاتِهِ كاسْمِهِ، وكأنَّ مقولةَ أَبي تمّام قد فُصّلتْ عليه تفصيلًا: مَضَى طاهرَ الأَثوابِ، لَمْ تَبْقَ رَوْضَة غَداةَ ثَوَى، إِلَّا اشْتَهَتْ أَنَّها قَبْرُ. زوجي الحبيب: بأيِّ الكلماتِ أَرثيك؟ وكيف يُطاوعُني لساني على رثائِك؟ لماذا استَعجلتَ الرَّحيل؟ أقولُ لك بكلِّ صدق، إِنِّي لا أَقوى على تَصوُّرِك راحلًا.
ماذا عسايَ أن أَذكرَ عنك، وشهادتي مجروحةٌ في حَقِّك، لكنَّ الزَّوجَةَ سِرُّ زَوْجِها، فلقد عَهِدتُكَ ذا قلبٍ عامرٍ بالخير، نابضٍ بالمحبَّة. لَقَدْ كنَّا ولا زلنا فخورين بك، جَعَلْتَ كُلَّ أَيَّامنا مَواسِمَ سَعِيدة، وبَذَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ لِتَمْلأَ قَلْوبَنا بِالفَرَح، وها هي القَلوبُ الَّتي أَحْبَبْتَها كَثِيرًا، تَشْتاقُ إِلَيْكَ كَثِيرًا كَثِيرًا .حَقًّا إِنَّكَ تَسْتَحِقُّ وِسامًا عَظِيمًا في حُسْنِ التَّربِيةِ والتَّفانِي والتَّضْحِيَة، لأنك نَذَرتَ حَياتَكَ، وأَنْفَقْتَ وَقْتَكَ في تَربِيَةِ ابنَيْكَ جاد وآدَمَ على المَبادِئِ والقِيَم والأخلاقِ ،وفي إِفادَتِهِما مِنْ خُبُراتِكَ وتَجارِبِكَ، وطالَما صَحِبْتَهُما في أَسْفارِكَ، وعَلَّمتَهُما: الصَّيْدَ، والسِّباحَةَ، ولُعبَةَ كرةِ القدم، مَعَ صِغَرِ سِنِّهِما، كَأَنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تُؤَهِّلَهُما قبلَ أَنْ تَتْرُكَهُما، لِيُطِلَّا عَلى الدُّنيا مِنْ بابِها الواسِع، أَعِدُكَ وأُعاهِدُكَ أَنْ تعبك لن يذهب هدرًا، وان يبقَى ابْناك جاد وآدم يَسيرانِ على دربِك ومِنْهاجِك، ويَترسَّمانِ خُطاك؛ ويُمارِسانَ الأَنشِطَةَ ذاتها الَّتي كُنْتُ تُحِبُّها؛ فاطْمَئِنَّ بالًا، وقَرَّ عَيْنًا، إِنَّهما بعيني وسوف أسعى جاهدة ليكونا عند حسن ظنك واملك،
وأُوَجّهُ رِسالَةً مِلْؤُها الشَّفافِيَةُ إِلى والدَيْ نادِر، العَزيزَيْنِ، الحاج أبو نادر وتانت أحلام قائِلَةً: إِنَّكُما خَسِرْتُما اِبنَكُما البارَّ نادر، لَكِنْ رَبِحْتُمْ مِئاتِ الأَبْناءِ مِنْ أَحِبَّتِه؛ وسَتَرَيانِ ابْنَيْهِ آدمَ وجادَ صُورَةً ناصعةً، ومِرآةً لامِعَةً عن أَبيهما نادِر، وسأكمل مع سامر ومايا ومهى رِسالَتَهُ ومَسيرَتَهُ المشرقة، وسَنَبْقَى معكُمْ وإِلى جانِبِكُمْ، يَدًا واحِدَةً، وعائِلَةً واحِدَةً؛ هذا عَهْدنا وَوعدُنا لكم جَميعًا. فكما أنّ نادر قد أَوقفَ عُمْرَهُ وحَياتَهُ لِلمُساعَدَةِ والعَطاءِ، وكانَ يَشْعُرُ بِالسَّعادَةِ عندَ قَضاءِ حَوائِجِ النَّاسِ، فكانَتْ يَدُهُ البَيْضاءُ تُعطي كما يُعْطي الرَّيْحانُ عِطْرَهُ لِلنَّسيمِ دونَ مِنَّةٍ، أَوْ رَغْبَةٍ في إِذاعَةِ فَضيلَة؛ ونَحنُ سَنَبْقَى نَقْتَفي أَثَرَهُ، ونَحذو حَذْوَه، نَمُدُّ يَدَ العَوْنِ والمُساعِدَةِ لِكُلِّ طالِبِ حاجَة، وسَيَبقَى بابُ بَيْتِهِ مَفْتوحًا، كما كانَ قلبُهُ مفتوحًا لِلجَميع.
نادر، كُنَّا نتمنَّى أنْ يكونَ هذا الاحتفالُ تكريمًا لعطاءاتِك، بعدَ تقاعُدِك، لكنَّ سهامَ القدَرِ حالتْ دونَ ذلكَ، فجمَعَتنا الفاجعةُ في حفلِ تأبينِك.
دخل نادر منصور القضاءَ في 2004/9/10، وأَمضى فيه نحوَ عشرينَ عامًا، شغَلَ خلالَها مناصِبَ قضائيَّةً متعدِّدة، ليَختِمَ مسيرَتَه القضائيَّةَ محاميًّا عامًّا استئنافيًّا في جبلِ لبنان، إلى أنْ وافتْه المنيَّة بَغتةً، وهو في نَضارَةِ شبابِه، وعزِّ عطائِه وعُنفوانِه. لقد كانَ نادر أَشهَرَ منْ نارٍ على مَنار، وأوضحَ منَ الشَّمسِ في رائِعةِ النَّهار، اسمُه يدلُّ عليه، وأعماله تشهدُ له، كما شَهِدَ عارفوه، أَنَّه كانَ عصاميًّا في حياتِه، مُمَيَّزًا في مَسيرتِه القضائيَّةِ، يتمتَّعُ بمزايا القاضي الصَّادق، المجتهدِ، والنَّشيط، وكان يسعى دائِمًا إلى إحقاقِ العدلِ، وتأمينِ الحقوق، وكان مخلصًا ومتفانيًّا في المَهامِّ الَّتي أُنيطتْ به، وهذا ما جَعلهُ يَكسَبُ بامتيازٍ محبَّةَ زملائِه، إضافةً إِلى احترامِ وتقديرِ كلِّ مَنْ تَقاضى أَمامَه.
نادر ، يا عابر القلوب….. هكذا كان القضاء، ولكَ في قلبي كلُّ الوفاء، لكنِ اعذرْني لا تُسعفُني الكلماتُ لتَأبينِك، لأنَّ حُزني أكبرُ منْ كلِّ حروفِ الرِّثاء، بموتك ماتتِ الكلمات، وبقيتِ الذِّكريات، وأرخيتُ شَلَّالَ الدُّموعُ للتَّعبير. لا شيءَ بَعدَك يَملأ القلب الحزين، أَيُّها الحِضنُ الدافىء، أَيُّها الصَّديقُ الصَّدوق، أَيُّها الإبن والأخ الحَنون، أَيُّها الأَبُ العَطوف، لقد أَصابَنا اليُتمُ مِن بَعدِك؛الأَلمُ يَعتصرُ قلوبَنا، وبَعدَكَ لا طَعمَ لأَعيادِنا، لا حَياةَ لنا، يا كُلَّنا، ويا فَخرَنا، وعزَّنا، وتاجَ رؤوسِنا. يا شمسَ سَمائِنا، سنَذكرُكَ معَ إِشراقة الصَّباح، وطُلوعِ القَمرِ.
وَداعًا يا رفيقَ العُمر، نَمْ قريرَ العينِ، ستَبقى ذِكراكَ محفورةً في ذاكرتِنا، ساكنةً في أعماقِ قلوبِنا. لا يسَعُنا حِيالَ رحيلك وقُبالَةَ فقدِك، إلاَّ أنْ نَتَسلَّحَ بالصَّبر، علَّنا نَحوزُ جزيلَ الثَّوابِ والأَجر، ونُرَدِّدُ مُسَلِّمينَ لمشيئَةِ اللهِ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليهِ راجعون. رَحِمَك الله، وأَسكنكَ رَوْحَه ورَيْحانَه، وجَنَّتَه ورِضوانَه، وإلى اللِّقاء.
في نِهايَةِ المَطاف، باسْمي وباسْمِ جاد وآدم وآل منصور وآل صبرا، نَتقدَّمُ منْ كلِّ الَّذِينَ شاطَرُونا مصابَنا الأَليم، بأَسمَى آياتِ الشُّكر والتَّقدير، ولا سِيَّما الَّذينَ تَجَشَّمُوا وتَحَمَّلُوا مَشاقَّ السَّفَرِ، والَّذين اتَّصلوا بنا، وأبرَقوا لنا، معزِّين ومواسين؛ وأَخصُّ بالشُّكر، السَّادةَ الكرام، الَّذينَ تعاقبوا على الكلام، وأتحفونا ببيانهم، وغمرونا بلطفهم: شُكرًا لكم جميعًا، وإلى روحِ زوجي القاضي نادر منصور، وإِلى أَرواحِ أَمواتكُمْ عامَّة، نُرسِلُ أَسمَى هديَّة، ثوابَ قراءةِ السُّورةِ المباركةِ الفاتحة، والسَّلام.
* ألقت القاضي أميرة صبره هذه الكلمة باسم أهل الفقيد، في الحفل التأبيني الذي أقيم لزوجها الراحل القاضي نادر منصور في قصر الأونيسكو يوم الجمعة الواقع فيه 5 نيسان 2024.
“محكمة” – السبت في 2024/4/6

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!