قامات

القاضي حسن الحاج يسرد لـ”محكمة” محطّات من “المشاغبات” والمنازلات/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
لم يكتف القاضي حسن الحاج بأن يكون في العام 1964 طليع أوّل دورة في تاريخ معهد الدروس القضائية بُعيد تأسيسه بموجب المرسوم رقم 10494، في 4 أيلول/سبتمبر من العام 1962، وإنّما أثبت جدارته في ميدان المحاكم وقصور العدل، من خلال القرارات والأحكام التي أصدرها تباعاً في الشقّ المدني الناجح فيه بامتياز وتفوّق، حتّى صارت مرجعاً يُعتدّ بها، ويعود القضاة والمحامون والباحثون إليها للاستزادة منها والاستنارة بها، توصّلاً إلى تحقيق مبتغاهم بالفوز بأحكام ناجحة لمصلحة موكّليهم، وتبقى في الوقت نفسه، منارة في مسيرة العدالة.
ولم يمنعه تنقّله بين القضاءين العدلي والإداري من بناء شبكة علاقات قوّية مع كبار شخصيات الدولة اللبنانية بسلطاتها المختلفة، من دون أن يتنازل قيد أنملة عن المبدأ الرئيسي للعدالة الحقّة، مدفوعاً بجرأة قلّ نظيرها لدى قضاة آخرين اعتلوا مناصب مرموقة بحكم الاعتبارات الطائفية المتفشّية في ذهنية السلطة السياسية ومفاصلها للحفاظ على مكتسباتها ووجودها، من دون أن يتركوا أثراً مهمّاً في مراكزهم وفي العمل القضائي الذي كان بالنسبة إليهم مجرّد وظيفة براتب في نهاية الشهر، فلمّا غابوا بحكم التقاعد والوفاة، إنطفأت ذاكرة الأحداث معهم وعنهم، وأسدلت الستارة خلفهم وكأنّهم لم يمرّوا في هيكل السلطة الثالثة.
وبجرأة تلامس أسلاك الحذر لا التردّد في بعض الأحيان، في اختيار الكلمات والعبارات، يسرد القاضي حسن الحاج المسكون بثقة زائدة في النَفْس، محطّات من سيرته في عالم القضاء المفتوح وكواليس الغرف المغلقة وفيها الكثير من “المشاغبات” والمنازلات، وهو الذي بدأ طليعياً، وانتهى به المطاف أحد روّاد القضاء في القرنين العشرين والواحد والعشرين، بعدما تبوأ منصب مفوّض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة، على الرغم من عدم أهمّية هذا المنصب بخلاف مراكز أخرى متوافرة في الجسم القضائي.
ويتمتّع القاضي الحاج بذاكرة قوّية تحفظ عن ظهر قلب كلّ شيء يتعلّق بصاحبها من أحداث وتواريخ يستحضرها فوراً من دون عناء، فتراهُ لا يحتاج، لا إلى التمهّل، ولا إلى التأمّل، ولكنّه يستعين بأوراق وقصاصات ومستندات يحتفظ بها ليثبت قولاً هنا، أو تاريخاً هناك، أو حادثة هنالك، وهو دائم الحركة والنشاط والحيوية، على الرغم من تقدّمه في العمر.
“حَسَب القطْعة”
ولد حسن الحاج في بلدة سبلين الشوفية في جبل لبنان في الأوّل من شهر أيّار/مايو من العام 1935، وليس كما هو مسجّل في ذهن عائلته من أنّه من مواليد العام 1934، مستنداً في روايته هذه، إلى حادثة حصلت معه عند نيله “السيرتفيكا” ( certificat) المُنهية للمرحلة الإبتدائية في العام 1948 حيث “طلبوا منا الهوّيّة ولم تكن لديّ واحدة، فسألت والدي رضا علي الحاج عن الأمر، فأكّد لي أنّه لا يملك هوّية ليّ، وأنّهم “حَسَب القطْعة” سجّلوني على أنّني من مواليد العام 1934، ولكنْ خلال الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، وبحُكْم وقوع منزلي في محلّة المتحف في بيروت وكانت منطقة خطوط تماس، صعدت إلى بلدتي الوردانية وزرت منزل الحاج جميل مصطفى الحاج (خال والد القاضي علي إبراهيم) الذي كان يدوّن أحداثاً معيّنة تحصل في البلدة وجوارها في دفتر مدرسي صغير، فطلبت منه رؤية الدفتر الذي يعتبر كنزاً بالنسبة إليه، ولم يخيّب ظنّي، فأحضره وتبيّن أنّه كتب عليه العبارة التالية: ” خِلِقْ حسن رضا الحاج في 1 أيّار 1935″.
تعود جذور وجود آل الحاج من الطائفة الشيعية في منطقة إقليم الخروب في قضاء الشوف، إلى بلدة سبلين، غير أنّ “جدّي علي الحاج وكان مختاراً في الضيعة، نزح إلى بلدة الوردانية، واشترى قطعة أرض شيّد عليها منزلاً، وكرّت بعده، سُبْحة النزوح، فتوافد آل الحاج أفراداً وأفواجاً حتّى استقرّ بهم المطاف في الوردانية”. أمّا والده رضا الحاج فكان يؤمّن الزيوت والخدم للعائلات الميسورة في بيروت، فأقام علاقات مهمّة معهم، بينما والدته خديجة بشير عيد فبقيت ربّة منزل وهي إبنة مختار سبلين.
تلميذ “المقاصد”
بدأ حسن الحاج دراسته على يد أساتذة لجنة تعليم فقراء المسلمين في القرى، وهي تابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، ثمّ تابعها في العام 1943، في مدرسة “عثمان ذي النورين” العائدة للجمعية نفسها، فالكلّيّة التي تحمل اسم هذه الأخيرة أيضاً، والموجودة في محلّة البربير “وكانت أشبه بجامعة من حيث الحدائقُ وحرجُ الصنوبر المحيط بها، ومبناها المؤلّفُ من ثلاث عمارات موزّعة بين المراحل التعليمية كّلها الإبتدائي، والمتوسّط، والثانوي، فضلاً عن عمرانها التراثي ذي الرونق الجميل” على ما يذكر الحاج بحماسة شديدة وكأنّ هذه الصورة لا تغيب عن باله أبداً.
غزيري والنقّاش وفرّوخ درّسوه
وفي هذه الكلّيّة، نال الحاج شهادة الفلسفة في العام 1953، ومن حُسْن حظّه أنّه درس فيها على يد ثلاثة كبار دخلوا تاريخ لبنان من بابه العريض، وهم: الوزير المهندس محمّد غزيري (1926- 2015) الذي كان متخصّصاً في مادة الرياضيات، وأستاذ التاريخ المؤرّخ الدكتور زكي النقّاش(1898-1988)، والمربّي الشهير والقدير الدكتور عمر فرّوخ(1906-1987) الذي كان يعلّم مادة الفلسفة.
ومن يعرف القاضي الحاج عن كثب، يلمس لديه نفحة أدبية صقلها تدريجياً مع مرور الأيّام، ويُخبر في هذا المجال أنّه كان “مجلّياً في الأدب العربي والتاريخ، ونلت جائزة الأدب العربي في صفّ “البريفيه” المُنْهي للمرحلة المتوسّطة، وأهداني يومها الأديب و”شاعر المقاصد” عارف يوسف أبو شقرا ( 1899-1958) كتابه “الحركات في لبنان إلى عهد المتصرّفية”، ويُقرّ بالمقابل، “بأنّني كنت جيّداً في الكيمياء والجبر، بينما كنت فاشلاً في الفيزياء والهندسة”، وهذا ما دفعه إلى الخضوع لامتحان إكمال فيهما في الصفّ الأوّل ثانوي، ولذلك انضمّ إلى معهد ليلي في محلّة رأس النبع لصاحبه المربّي محمّد علي الرزّ لكي يعوّض ما فاته من دروس، ولإعداد نفسه بشكل أقوى، فاستعدّ جيّداً لامتحان البكالوريا وتقدّم له في شهر أيلول/سبتمبر من العام 1952 و”نجحت لأختصر بذلك، سنة كاملة، وأقفز من الأوّل ثانوي، إلى صفّ الفلسفة، من دون المرور في القسم الثاني من صفّ البكالوريا. وهذا ما فاجأ معلّمي محمّد غزيري عندما شاهدني في صفّ الفلسفة، وقال لي باستغراب:” ليش هون؟ فأخبرته بما حصل معه وبنجاحي فسُرّ بي كثيراً”.
حاصد جوائز ومدرّس
ولا تنتهي حكاية الحاج مع الجوائز المدرسية التي تُمْنح للمتفوّقين، وهو كان أحدهم، فنال في صفّ الفلسفة أيضاً جائزة العلوم الطبيعية، وبلغت قيمتها خمسين ليرة لبنانية.
هذا الاندفاع نحو التسلّح بالعلم زاداً لمواجهة خبايا الأيّام، توّجَهُ حسن الحاج بالتوجِّهِ إلى ممارسة التدريس في مدرسة الفاروق التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في محلّة الطريق الجديدة حيث درّس مادتي التاريخ واللغة الفرنسية لصفوف المرحلة الإبتدائية.
وبرغبة جامحة من شقيقه محمّد رضا الحاج “أبو رضا” الذي كان من الرعيل الأوّل مع الإمام السيّد موسى الصدر، إنتسب إلى جامعة القدّيس يوسف “اليسوعية” لدراسة الحقوق، وشقيقه المذكور الذي صار من أعلام الشيعة في لبنان، هو”بِكْر العائلة”، وبدأ مساعداً قضائياً في المحكمة الشرعية، ولمّا توطّدت صداقته بالإمام الصدر وأسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في شهر أيّار/مايو من العام 1969، عيّنه رئيساً لدائرة العلاقات العامة فيه.
فرح حدّاد من خيرة القضاة
إستهواهُ العمل في المحاكم، فعيّن في 7 كانون الثاني/يناير من العام 1956، مساعداً قضائياً في محكمة عاليه التي كان يرأسها القاضي إميل أبو سمرا، ثمّ نقل في شهر آذار/مارس من العام 1957، إلى محكمة الإيجارات في بيروت برئاسة القاضي فرح حدّاد الذي يصفه بأنّه “كان من خيرة القضاة خُلُقاً وعِلْماً، وأصبح في ما بعد جاري في السكن في محلّة المتحف في بيروت”، وقد قضى في حادث سير مؤسف في محلّة الطيونة في بيروت في العام 2004.
وعند افتتاح معهد الدروس القضائية ضمن المؤسّسات التي أنشئت في عهد رئيس الجمهورية اللواء فؤاد شهاب، على غرار مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، أُعلن عن موعد أوّل مباراة لضمّ قضاة، وذلك في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 1962، فتشجّع حسن الحاج وتقدّم مثل آخرين لهذه المباراة، وخضع للامتحانات الخطّية والشفهية أمام لجنة فاحصة تألّفت يومذاك من: الرئيس الأوّل لمحكمة استئناف بيروت القاضي ألبير عبدالله فرحات (صار لاحقاً رئيساً لمجلس القضاء الأعلى بين العامين 1967- 1968)، رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي زاهد حيدر(توفّي في العام 2009)، المستشار في محكمة التمييز القاضي منير المحمصاني (توفّي في العام2010)، المحامي العام التمييزي القاضي شفيق أبو حيدر (توفّي في العام 2010) الذي صار لاحقاً محافظاً لمدينة بيروت.
بطرس يرفض توقيع مرسوم التعيين
ولم يكتف حسن الحاج بأن يصبح قاضياً، بل أصرّ على أن يكون طليع الدورة بمجموع بلغ 92 علامة من أصل 120 علامة، وتلاه على التوالي كلّ من: إلياس فارس نمور(74.5 علامة)، عبد الرحمن شهاب( 74)، كمال شفيق القاضي(72.5)، مصطفى حسين نور الدين( 70.5)، طارق زيادة(69.5)، سمير سليم مطر( 64)، أنطوان الرشماني(62)، أنطوان الراهب(61.5)، وفلاديمير فرزلي الذي كان حائزاً على شهادة دبلوم في القانون.
وكان مطلوباً لهذه الدورة عشرة قضاة يُخْتارون بحسب ترتيبهم كما تفترض الأصول، غير أنّ الطائفية حالت دون اعتماد هذا الأمر، إذ تبيّن أنّ الناجحين العشرة تسلسلياً هم: الحاج، ونمور، وشهاب، والقاضي، وسامي بركات، ونور الدين، وزيادة، ومحمّد علي الحبّال، ومطر، ووجيه جميل خاطر، ثمّ أتى بعدهم الرشماني والراهب فأسعد الحاج دياب، وكان التوزيع الطائفي يقتضي أن يكون هناك خمسة مسلمين وخمسة مسيحيين، ولكنّ أعداد المسلمين الناجحين كانت أكثر، فرفض وزير العدل فؤاد بطرس توقيع مرسوم تعيينهم، إذ لم ينجح إلاّ أربعة مسيحيين وكان الحلّ بأنْ عُدّل القانون بصورة استثنائية ولمرّة واحدة بحيث يُقْبل حامل شهادة الدبلوم في الدراسات العليا في معهد الدروس القضائية من دون مباراة، وهكذا وقع الخيار على فلاديمير فرزلي الحائز على شهادة الدراسات العليا والذي لم يتقدّم للمباراة، وعولجت العقدة الطائفية وصدر مرسوم قبولهم قضاة، حاملاً الرقم 12304 في 20 آذار/مارس من العام 1963.
إلغاء الطائفية في مباراة القضاء
وظلّت هذه الحادثة تراود القاضي حسن الحاج وتقلقه لما فيها من ظلم وغبن، ودفعته إلى المطالبة بإلغاء المحاصصة الطائفية في مباراة القضاء ونجح في مسعاه في العام 1992 بحيث صار التعيين يتمّ على أساس ترتيب النتائج النهائية للامتحانات من الأوّل إلى العدد المطلوب دون النظر إلى مذهبه أو طائفته، وهذا ما أفسح في المجال أمام وصول كثيرين إلى السلطة الثالثة، بينما لو كانت الطريقة القديمة قيد التداول، لما نودي على الواحد منهم بـ”الريّس فلان”.
واللافت للنظر أنّ كلّ المتقدّمين للدورة القضائية الأولى عيّنوا قضاة فيها وبعدها باستثناء سامي بركات الذي صرف النظر عن الإنضمام إلى الجسم القضائي، واللافت للنظر أيضاً أنّ الحاج تصدّر الترتيب العام في معهد الدروس القضائية بمجموع بلغ 617 علامة من أصل 830، متقدّماً على زملائه، وحلّ خلفه في المرتبة الثانية، القاضي طارق زيادة بمجموع بلغ 586 علامة.
وبسبب الحاجة الشديدة إلى تعيين قضاة، جرى اختصار سنوات الدراسة في المعهد من ثلاث سنوات إلى سنة وثمانية شهور، وصدر مرسوم تعيين هذه الدفعة قضاة أصيلين في 5 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1964 تحت الرقم 293.
ثارت ثائرتي على التعيينات
وفي أوّل تشكيلات قضائية، عيّن الحاج قاضياً منفرداً في زحلة في عهد وزير العدل جبران نحّاس( 1880-1968) في حكومة الرئيس حسين العويني(1900-1971) “فثارت ثائرتي على هذا الظلم، فأنا طليع الدورة، وأعيّن في زحلة، فيما غيري الأخير وعيّن في بيروت كونه بيروتياً ولاعتبارات مذهبية ومناطقية”، فجرى انتدابي قاضياً عقارياً في جبل لبنان ومركزه في بيروت.
حادثة الريّس ومجدلاني وجنبلاط
وهنا لا ينسى القاضي الحاج مبادرة زميله القاضي إلياس الريّس الذي كانت والدته من آل الحلو وتربطها صلة قربى برئيس الجمهورية شارل حلو، تجاهه، فقد كان مساعداً قضائياً معه في محكمة الإيجارات في بيروت، وكان الريّس معجباً على غرار الكثيرين من المسيحيين، بأفكار الزعيم الدرزي كمال جنبلاط والإيديولوجيا الإشتراكية ومقرّباً منه وصديقاً ودوداً له، إذ سبق له أن عمل قاضياً منفرداً في محكمة بعقلين- دير القمر، فتوجّها معاً لزيارة وزير العدل آنذاك المحامي نسيم مجدلاني(1912-1991) الذي كان نائباً لرئيس الحزب التقدّمي الإشتراكي، وبعدما “عرّفه الريّس عليّ وأخبره بأنّني طليع دورتي، قال لي مجدلاني بالحرف الواحد: أنا بدي أتبع عرف متبع في بريطانيا، وهو أنّ الأوّل يختار المركز الذي يريده”، فأجبته:” وصلتني كامل حقوقي، وأنا أريد أن أكون خير سلف لخير خلف”، أيّ مكان القاضي إلياس الريّس الذي كان قد نقل إلى مجلس شورى الدولة، وانتدبت على الأثر قاضياً للإيجارات في بيروت”.
مجلس القضاء يريد الحاج.. وتيّان يخالف
ولم تمرّ فترة طويلة حتّى تغيّرت الحكومة وحلّ الرئيس رشيد كرامي مكان العويني في شهر تموّز/يوليو من العام 1965، وجيء بالقاضي المتقاعد إميل تيّان وزيراً للعدل للمرّة الثانية، وأجريت تشكيلات قضائية عيّن الحاج بموجبها عضواً في محكمة الدرجة الأولى في بيروت مع القاضي جورج نجيم( شقيق القاضي بطرس نجيم) وكان قاضياً منفرداً للجزاء في بيروت، ولم يسبق له في حياته المهنية والقضائية أن عمل في حقل القانون المدني،”وكان تعييني كما قال لي أركان مجلس القضاء الأعلى آنذاك( كان بينهم رئيسه بدري سليم المعوشي(1902- 1995)، والقاضي عاطف النقيب)، إنّه لتقوية المحكمة باعتبار أنّني كنت مجلّياً في القانون المدني، وأصرّ وزير العدل إميل تيّان على تعيين نجيم رئيساً للغرفة مع أنّه غير ملمّ بالقانون المدني، كونه جاره في السكن في محلّة المتحف” في بيروت وعلى بُعْد أمتار قليلة من العدلية.
وفي العام 1971 عيّن الحاج مستشاراً في الغرفة الثانية لمحكمة استئناف بيروت برئاسة القاضي الراحل أديب عفيش (والد الوزيرة والمحامية منى عفيش) وظلّ عشر سنوات متواصلة، أيّ لغاية العام 1981، حيث عيّن رئيساً لغرفة الدرجة الأولى الناظرة في القضايا المدنية( إبطال العقود وما شابه) في بيروت حتّى شهر تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 1990، نقل بعدها رئيساً أوّل لمحاكم استئناف البقاع، فرئيساً أوّل لمحاكم استئناف لبنان الشمالي في العام 1994، إلى أن نقل من القضاء العدلي إلى القضاء الإداري وعيّن في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2000 مفوّضاً للحكومة لدى مجلس شورى الدولة لغاية بلوغه سنّ الثامنة والستين وإحالته على التقاعد في الأوّل من شهر تموز/يوليو من العام 2002، وعيّن قاضياً في منصب الشرف بموجب المرسوم رقم 8225 الصادر في 17 تموز/يوليو من العام 2002.
عضوية مجلس القضاء
ونجح حسن الحاج في أن يحفر اسمه مرّتين متتاليتين في سجّلات مجلس القضاء الأعلى، إذ أنّه عيّن عضواً فيه للمرّة الأولى بموجب المرسوم رقم 3835 الصادر في 15 نيسان/أبريل من العام 1987، وللمرّة الثانية بموجب المرسوم رقم 410 الصادر في 27 تموز/يوليو من العام 1990 حيث تمكّن من العمل على إلغاء المحاصصة الطائفية في القضاء، وعيّن أميناً عاماً لرابطة قدامى القضاة بدءاً من العام 2010، ولا يزال.
إفتتاح السنة القضائية في البقاع
وبفضل القاضي الحاج، شهد البقاع إفتتاح السنة القضائية في دياره في مدينة زحلة، وذلك بخلاف العُرْف المتبع بأن يقام حفل الإفتتاح في قصر عدل بيروت، وهذه الحادثة الاستثنائية لم تتكرّر ولم تحصل في أيّة منطقة لبنانية أخرى، وحضرها رئيس مجلس القضاء الأعلى الدكتور عاطف النقيب ممثلّاً رئيس الجمهورية إلياس الهراوي وتحدّث فيها مع ممثّل وزير العدل إدمون رزق مدير عام وزارة العدل القاضي وجيه خاطر والقاضي الحاج نفسه، وحضرها حشد من القضاة والمحامين ضاقت بهم قاعة محكمة الجنايات.
الأوّل بانتخاب النوّاب لأعضاء”الدستوري”
كاد القاضي حسن الحاج أن يصبح عضواً في المجلس الدستوري بعدما انتخبه المجلس النيابي في جلسته المؤرّخة في 27 كانون الثاني/يناير من العام 2005، حيث نال أعلى نسبة من الأصوات بلغت 68 صوتاً، وتلاه مرشّح رئيس الجمهورية العماد إميل لحود القاضي الراحل نصري لحود( 1934-2014) بـ 64 صوتاً، ومرشّح رئيس الحكومة الراحل عمر كرامي (1934-2015) القاضي ومحافظ جبل لبنان أمين حمود بـ 61 صوتاً، ولم تبادر الحكومة إلى تعيين حصّتها وصودف اغتيال الرئيس رفيق الحريري(1944-2005) فجمّد التعيين، ثمّ “طارت” حكومة الرئيس كرامي، وحدثت الانتخابات النيابية على وقع هذا الاغتيال الموجع سياسياً واقتصادياً وأمنياً للبنان برمّته، ونال “تيّار المستقبل” أكثرية ساحقة، فألغيت نتيجة انتخاب أعضاء المجلس الدستوري، وهو أمر حصل للمرّة الأولى في تاريخ لبنان وربّما التاريخ القضائي.
“شو كيّعتون”
وصدر قانون جديد لتبرير الإلغاء بألاّ يتجاوز عمر المرشّحين الرابعة والسبعين، وأنّ تُجرى مقابلة أمام لجنة مؤلّفة من أعضاء في المجلس النيابي يرأسها رئيس المجلس، فخضع القاضي الحاج لهذه المقابلة أمام لجنة ترأسها نائب رئيس مجلس النوّاب فريد مكاري وتمكّن بفعل حنكته ومهارته وسرعة بديهيته أن يبزّهم في أجوبته ومنها أنّهم واجهوه باستدعاء هيئة التفتيش القضائي له وكانت برئاسة القاضي الراحل عبد الباسط غندور على إثر إقامته مأدبة غداء على شرف وزير الدفاع السوري العماد مصطفى طلاس في مطعم”أوبيرج” في شتورا، فأجابهم بثقة تامة:” من يُحل على التفتيش ويعاقب لا يعيّن في منصب الشرف، بل يعيّن مَنْ سجّله ناصع”، فبُهت النوّاب ولم يعرفوا بما يجيبون، ووصلت أصداء هذه الإجابة المُفْحمة إلى الرئيس نبيه بري فقال للقاضي الحاج وهو يضحك :” شو كيّعتون”.
لا للمحاماة بعد التقاعد
رفض القاضي الحاج بعد تقاعده أن يتحوّل إلى ممارسة المحاماة، وذلك لاعتقاده أنّه “لا يجوز للقاضي بعد أن ترأس أكثر من محكمة، واعتلى غير منصب أن يحضر إلى قلم المحكمة للمراجعة في ملفّ يخصّ موكّليه” كما يفعل قضاة كثر إنتقلوا إلى ضفّة المحاماة بعد انتهاء خدماتهم القضائية.
مع الإمام الصدر في عشقوت
وتربط الحاج بالإمام موسى الصدر صداقة متينة بحكم العلاقة الموجودة بين شقيق الأوّل والثاني، وعندما كان “اللبنانيون يشحذون السكاكين على بعضهم، أقمت مأدبة إفطار على شرف الإمام الصدر في 24 أيلول/سبتمبر من العام 1974 في بلدة عشقوت الكسروانية حيث كنت اصطاف، وحضر معه وفد تقدّمه الشيخ عبد الأمير قبلان، وتحوّل الإفطار إلى ما يشبه الاحتفال الشعبي، على الرغم من محاولة الدولة التضييق على الوافدين حيث قامت بوضع فرق من الدرك عند المستديرة المؤدّية إلى عشقوت وأخذت تفتّشهم نزولاً عند رغبة رئيس مجلس النوّاب كامل الأسعد(1932-2010) الذي كان يكنّ العداء للصدر، ولبّاه في طلبه رئيس الحكومة تقي الدين الصلح(1908-1988)، ووزير الداخلية المحامي بهيج تقي الدين(1909-1980)، واستُقبل الصدر بحفاوة بالغة النظير، وقرعت له أجراس الكنائس وخاطبه شباب عشقوت وجوارها” يا إمامنا”، وخطب هو فيهم متناولاً الحرمان ليس في المناطق الشيعية، بل في المناطق اللبنانية كافة”.
قضيّة بنك طراد
ومن القرارات الهامة في سجّل القاضي حسن الحاج أنّه أصدر أوّل حكم من نوعه عندما كان رئيساً للغرفة الثانية لمحكمة الدرجة الأولى في بيروت ألزم فيه بنك طراد- فرع باب إدريس في بيروت، بأن يردّ وديعة من سبائك الذهب إلى صاحبها جان أميوني، معتبراً أنّه لا وجود للقوّة القاهرة في هذه القضيّة بعد تعرّض البنك للسرقة في العام 1976 خلال الحرب اللبنانية، إذ كان بإمكان المصرف المذكور أن يسحب ودائعه ويهرّبها إلى مكان آكثر أمناً وأماناً ويتجنّب القوّة القاهرة. وبعد استئناف هذا القرار من الجهة المدعى عليها، صادقت عليه محكمة الاستئناف برئاسة القاضي طارق زيادة وعضوية المستشارين أرليت الطويل ونعمة لحود.
تزوّج القاضي الحاج من روز أنور داغر التي “كانت إمرأة إستثنائية ومميّزة”، على حدّ وصفه المستمرّ لها مع حُرْقة في القلب على فراقها في 30 أيلول/سبتمبر من العام 2014، ورزق منها المهندس وائل، والمحامي سامر، ومنى.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد الثاني – كانون الأوّل 2015)

*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!