سابقة قضائية وحكم عادل ومميّز للقاضي رلى صفير في قضيّة عمّال “سبينيس”:ترهيب صاحب العمل للعامل معنوياً ومنعُه من ممارسة حقوقه النقابية لم يعد وارداً/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
أصدرت القاضي المنفرد الجزائي في بيروت رلى صفير حكماً كامل المواصفات القانونية في قضيّة ثلاثة لبنانيين عاملين في متاجر “سبينيس”(SPINNEYS) توجّته بطعم العدالة الحقّة بأن أعادت الاعتبار إلى إنسانيتهم التي هُدرت على ناصية تعويق مدير عام أجنبي لحقّهم الطبيعي في إنشاء نقابة تحقّق مطالبهم المشروعة، وذلك على اثر التمنّع عن تنفيذ مرسوم تعيين الحدّ الأدنى الرسمي لأجور المستخدمين والعمّال الخاضعين لقانون العمل ونسبة غلاء المعيشة، أو ما يعرف بالمرسوم رقم 7426 الصادر في 25 كانون الثاني 2012، بالإضافة إلى محاولات التخلّص منهم وصرفهم بطريقة إنتقامية وقطع أرزاقهم بعد الاستفادة من شبابهم على مدى سنوات وسنوات.
ومن يدقّق في متن الحكم المؤلّف من 15 صفحة “فولسكاب”، يجد أنّ جهداً قانونياً مميّزاً بذل من القاضي رلى صفير، وذلك من أجل إخراجه بصورة الحكم العادل والمنطقي لمجريات واقعات تناولتها وسائل الإعلام مراراً وتكراراً طوال ستّ سنوات تقريباً، وتحديداً منذ العام 2012 ولغاية تاريخ صدور الحكم في موعده في 20 كانون الأوّل 2018.
ولم تترك صفير شاردة أو واردة تتعلّق بهذه القضيّة إلاّ وأسهبت في مناقشتها ثمّ أنزلتها موقعها القانوني المناسب، بدءاً من الدفوع الشكلية بعناوينها الكثيرة وتشعّباتها المتعلّقة بالصلاحية المكانية وصلاحية القضاء الجزائي والقاضي المنفرد الجزائي وسبق الادعاء والتلازم.
على أنّ أهمّ ما في حكم صفير هو البناء القانوني السليم الذي اعتمدته لتفسير وتوضيح الجرم المنصوص عليه في المادة 329 من قانون العقوبات والتي يندر أن تطرح أمام القضاء اللبناني كمادة للنقاش الحيوي والمعالجة والتنفيذ والإدانة، إنْ لم نقل إنّها سابقة في تاريخ القضاء اللبناني، ولكنّها لقيت جواباً صريحاً لدى صفير بعد التنقّل بين قانون العمل، وقانون العقوبات والدستور اللبناني، وذلك من أجل تأكيد حرّية العمّال في إنشاء نقابة خاصة بهم تصون حقوقهم وتحفظ لهم العيش بكرامة.
ولم يعد خافياً على أحد أنّ تأسيس نقابة عمّالية أمر معترف به بموجب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ويدخل ضمن مفهوم الحرّيات العامة وحقّ الإنسان في إبداء الرأي والتجمّع وتأليف الجمعيات بعيداً عن وسائل الإقصاء والإلغاء والتمييز، وبالتالي فإنّ تعويقه عن ممارسة أيّ من هذه الحقوق بأساليب مختلفة سواء أكان بالعنف الجسدي والتهديد الكلامي أو الأذى المعنوي أو الجسدي يستوجب الملاحقة والإدانة والحبس والغرامة حتّى ولو كان القائم به أجنبياً يُفْتَرض به للوهلة الأولى، أن يكون حضارياً في التعاطي مع الآخرين لا مخالفاً للقانون.
ولا شكّ أنّ ما انتهت إليه صفير في حكمها بالنسبة إلى المادة 329 من قانون العقوبات يؤسّس لمرحلة جديدة من العلاقة بين العامل وصاحب العمل، ويقيم نوعاً من التوازن فيها بحيث لا يشعر الأوّل أنّه مكسور الجناح ومجرّد عامل يخشى أن ينزل عليه غضب الثاني في لحظة ما حتّى ولو لم يسئ التصرّف أو يعرقل العمل أو يُلْحق ضرراً به، ولا يتمكّن في الوقت نفسه، صاحب العمل من الاستفراد بالأوّل ووضعه تحت رحمة قراراته ومزاجيته لمجرّد التفكير بأنّه وليّ نعمته ويستطيع التحكّم به وترهيبه معنوياً ومنعه من المطالبة بحقوقه المنصوص عليها في القانون.
إنّ ما توصّلت إليه القاضي صفير من نتيجة حتمية للمادة 329 من قانون العقوبات هو رسالة صارخة بإمكانية لجم صاحب العمل عن التعسّف في استعمال ما قد يراه حقّاً له في عقليته أو نظام شركته أو مؤسّسته ضدّ العامل وتقييده في حماية حقوقه، إذ لم تعد نتيجة الصرف التعسّفي على سبيل المثال، تقتصر على نيل تعويضات مالية محدّدة وهي لا ترقى، بطبيعة الحال، إلى الجهْد المقدّم طوال سني الخدمة، بل صار بمقدور العامل ملاحقة صاحب العمل جزائياً والحصول على حكم ضدّه بالسجن والغرامة، وهذه هي أهمّية حكم القاضي صفير والنابع من شعور بالمسؤولية الإنسانية، وهذا هو أيضاً، دور القاضي في إحقاق الحقّ وتظهير الصورة الفضلى للعدالة الإجتماعية المطلوبة.
وقد رأت صفير من مجمل معطيات القضيّة وما توافر فيها من استجوابات واعترافات ومستندات بأنّ الإجراءات المتتالية التي اتخذها المدعى عليه البريطاني مايكل ستوارت رايت باسم المدعى عليها شركة غراي ماكنزي ريتايل لبنان ش.م.ل. تجاه المدعين الثلاثة ميلاد بركات وسمير طوق وإيلي أبي حنا الذين كانوا يعملون في متاجر “سبينيس” المستثمرة من الشركة المذكورة، وهيّأوا الأرضية اللازمة لتأسيس نقابة باسم العاملين في هذه المتاجر،”هي إجراءات أدّت إلى تعويقهم من الناحية المعنوية عن ممارسة حقوقهم النقابية”.
وتنوّعت هذه الإجراءات بين نقل طوق من فرع ضبيه وهو القاطن في بلونة الكسروانية إلى الفرع الموجود في صيدا، وتغيير دوام عمل بركات من الصباح إلى منتصف النهار فالمساء بغية الحؤول دون تمكّنه من العمل الليلي في مكان آخر لتأمين دخل إضافي لأسرته، وتغيير نوع عمل أبي حنا بحيث أصبح مساعداً في قسم الحراسة في الموقف التابع للمتجر في فرع الجناح بعدما كان مساعداً في قسم الحراسة في فرع الأشرفية، مع الإشارة إلى أنّ هذه التغييرات ترافقت مع تقديم طلب لوزارة العمل للإعلان عن نظام النقابة المزمع إطلاقها، وبالتالي جاءت عن سابق إصرار وترصّد لمنع هؤلاء من تنفيذ حلمهم بوجود نقابة ضامنة للحقوق، أو على الأقلّ، رفع الصوت عالياً إزاء ما قد يحاك ضدّ هذه الحقوق من محاولات اختزال والتهام.
ورأت القاضي صفير أنّ النظام الداخلي لأجراء الشركة وإنْ كان يسمح للإدارة نقل وتغيير مكان العامل وساعات دوامه، إلاّ أنّ”الحقوق العائدة للشركة المدعى عليها بموجب النظام الداخلي لا تؤخذ على إطلاقها، بل هي مقيّدة بحُسْن استعمالها ضمن إطار حُسْن النيّة، وذلك بهدف تحقيق التوازن والاستقرار في العلاقة التعاقدية القائمة بين العامل وربّ العمل(…) ولم ينهض أيّ دليل في الملفّ على أنّ ما تعرّض له المدعون من نقل لمركز العمل أو تغيير في دوام العمل قد استوجبته مقتضيات العمل في فروع الشركة، لا بل من الثابت بالأوراق أنّ توقيت التعديلات جاء بالتزامن مع قيامهم بالأعمال التحضيرية لإنشاء نقابة العاملين في سبينيس في لبنان، وبعدما كان قد أمضى كلّ (واحد) منهم أكثر من عشر سنوات في العمل لدى الشركة” بدون أن يخضعوا لأيّ مناقلات ولأيّ تعديلات في دوام الوظيفة.
وأدانت القاضي رلى صفير رايت والشركة أيضاً، بجرمي القدح والذمّ سنداً للمادتين 582 و584 من قانون العقوبات بالنسبة إلى الأوّل، معطوفتين على المادة 210 منه بالنسبة إلى الشركة لأنّ “المدعى عليه الأوّل كان يمثّلها عندما ارتكب تلك الأفعال وقد ارتكبها باسمها وذلك في ظلّ وجود شكوى من المدعين المتضرّرين” حيث كان رايت قد دوّن عبارات بالإنكليزية على صفحته على موقع”فيسبوك” تنال من كرامة المدعين وتحطّ من قدرهم الإنساني، فنعت بركات بـ”الشخص القذر” واتهم الآخرين”بالتلاعب بعقول العمّال البسطاء” على ما ورد في متن الحكم.
وخلصت صفير إلى إدانة رايت بجنح المواد 329 و582 و584 من قانون العقوبات، وحبسه عن الجنحة الأولى مدّة شهر وتغريمه مبلغ مائتي ألف ليرة عن كلّ من الجنحتين الأخريين وادغام هذه العقوبات بحيث تنفّذ بحقّه العقوبة الأشدّ وهي الحبس لمدّة شهر، على أن يوقف تنفيذها في حال قام خلال مهلة شهرين، بتسديد نصف قيمة المبالغ المحكوم بها لصالح كلّ واحد من المدعين والبالغة أربعين مليون ليرة على سبيل التعويض، وذلك اعتباراً من تاريخ صيرورة هذا الحكم قطْعياً.
كما أنّ القاضي صفير غرّمت الشركة المدعى عليها مبلغ خمسة ملايين ليرة عن جنحة المادة 210/329 ، ومبلغ مايتي ألف ليرة عن كلّ من جنحتي المادتين 210/582 و 210/584 وانتهت إلى إدغام هذه العقوبات بحيث تنفّذ بحقّها العقوبة الأشدّ وهي عقوبة الجنحة الأولى البالغة خمسة ملايين ليرة، على أن يوقف تنفيذ هذه العقوبة في حال سدّدت نصف قيمة المبالغ المحكوم بها لصالح المدعين الثلاثة خلال مهلة شهرين إعتباراً من تاريخ صيرورة هذا الحكم قطْعياً.
“محكمة” تتفرّد بنشر النصّ الحرفي لحكم القاضي صفير لغنى مضمونه والنتيجة غير المسبوقة التي توصّل إليها، وذلك على الشكل التالي:
“محكمة” – الأربعاء في 2019/1/2
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.