أبحاث ودراسات

قانون حق المؤلف في لبنان بين الطموح والواقع/جيهان حايك

الدكتورة جيهان حايك:
لا شك ان لبنان يوم كان خاضعًا للانتداب الفرنسي تأثر بالثقافة القانونية الفرنسية، فانعكس ذلك حتمًا على أغلبية قوانينه.
أمّا بالنسبة لحقوق الملكية الادبية والفنية فقد عرفها لبنان منذ العهد العثماني(i) ولكنها نظمت مجدّدًا بصبغتها الفرنسية بعد صدور قرار المفوض السامي رقم 2385 سنة 1924.
أمّا قانون حق المؤلف(ii) الذي صدر سنة 1999 فقد جاء نتيجة تجاذبات عديدة سياسية وإقتصادية ودوافع قانونية جعلت منه نموذجًا فريدًا في ذلك الوقت.
واليوم وبعد مرور أكثر من عقدين على وضع هذا القانون يهمّنا أوّلًا أن نوضح بعض النقاط الاساسية لأنّها تشكّل الحجر الاساس الذي يجب أن يبنى عليه عند أي اجتهاد، وثانيًا أن نسلّط الضوء على بعض الاشكاليات التي يجب معالجتها منعًا لحدوث اي التباس عند تطبيق هذا القانون.
القسم الأول: إستناد قانون حق المؤلف اللبناني على ركائز القانون الفرنسي مع بعض الاضافات الطموحة الى التغيير:
تنقسم القوانين التي تنظم حماية حق المؤلف من حيث تعريفها لمفهوم هذا الحقّ ككلّ الى مدرستين: المدرسة الاولى لاتينية وهي تكرّس الاعتبار الشخصي بحيث تكون الحقوق مرتبطة بشخص المؤلّف ولذلك سميت هذه الحقوق بـ Droit d’auteur ويطبّقها القانون الفرنسي. والمدرسة الثانية انجلوامريكية وهي تعتبر حقوق المؤلف حقوق طبع ولذلك سميت Copy right ويغلب عليها الطابع الاقتصادي(iii).
اما في لبنان، فإنّ قانون حق المؤلف لم يأت نتيجة نهضة قانونية شاملة، إنّما كان نتيجة لسببين لا ثالث لهما: أوّلًا رغبة لبنان الانضمام الى منظمة التجارة العالمية والتحديث بما يتوافق مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وثانيًا ضرورة التعديل لتشمل الحماية المصنّفات التي انتجها التطور التكنولوجي(iv). إلّا أنّ المشرع اللبناني لم يكن بإمكانه التحرّر من تأثره بالقانون الفرنسي وقد نتج عن ذلك قانون حقّ مؤلف لبناني فرنسي الركائز مع بعض الاضافات الطموحة بمسايرة التطور العالمي.
1-المحافظة على المفاهيم الأساسية التي يرتكز عليها القانون الفرنسي:
ما هي الركائز الاساسية التي يرتكز عليها قانون حق المؤلف الفرنسي والتي تجعل من قانون ما باعتمادها ينتمي الى هذه المدرسة؟
إنّ المقاربة الفرنسية هدفها الوحيد هو حماية المؤلف وحقوقه ولذلك يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
أ-الاعتبار الشخصي: وذلك يعني اشتراط ان يكون المؤلف شخصًا طبيعيًا، ويتجلّى هذا الاعتبار ايضًا بوجود الحقوق المالية والمعنوية للمؤلف.
– ان قانون حق المؤلف يعتبر المصنّف امتدادًا طبيعيًا لشخص المؤلف، ولذلك يجب ان يكون المؤلّف شخصًا طبيعيًا كما تشير صراحة المادة الاولى التي تعرّف المؤلّف بأنه ” الشخص الطبيعي الذي يبتكر عملًا ما”، والمادة 5 التي تنص على “ان الشخص الذي يبتكر..”. اما الحالات الاخرى التي لا يكون فيها المؤلف شخصًا طبيعيًا انما معنوي كما في المصنفات الجماعية والمصنفات المبتكرة من أشخاص عاملين لدى شخص معنوي فلا يمكن اعتبار الشخص المعنوي فيها مؤلّفًا انما يعتبر “صاحب حقّ مؤلّف”.
-ان الحقوق التي يتمتع بها المؤلف على نوعين مادية ومعنوية بحسب المادة 14. اما الاعتبار الشخصي في هذه الحقوق فيظهر على الشكل التالي:
بالنسبة للحقوق المادية، فقد عددتها المادة 15 واعتبرتها المادة 16 حقًّا منقولًا قابلًا للتفرّغ الكلّي أو الجزئي. لكن ما تجدر الاشارة اليه هو نص المادة 17 التي تنظم عقود استغلال الحقوق المادية او التصرف بها، الذي يعتبر الزاميًا ان تنص العقود على مشاركة المؤلف بنسبة مئوية من الايرادات عن عمليات الاستغلال والبيع، وإلزامية ان تتضمن مدة محددة والا اعتبرت حكمًا معقودة لفترة عشر سنوات فقط من تاريخ توقيع العقد.
لا شك ان الالزامية الاولى تهدف الى حماية المؤلف ضد اي استغلال لحقوقه او اي تفرغ قد يوافق عليه لقاء مبلغ زهيد بالمقابلة مع الارباح التي قد يحققها المتفرغ اليه. اما تحديد المدى الزمني للاستغلال فهو خير دليل على ربط المشرع المصنف بشخص المؤلف باعتباره حقًّا لصيقًا بشخصيته يمكن التفرّغ عنه ولكن لمدة محددة.
اما بالنسبة للحقوق المعنوية، فإن مضمونها وخصائصها يبرزان الاعتبار الشخصي فيها. فالحقوق المعنوية كما تلتها المادة 21 كلها تبرز ابوة المؤلف لمصنفه وسلطته عليه حتى بعد التفرغ المادي عنه وربطه بشرف وسمعة وشهرة ومكانة المؤلف. اما الخصائص التي تتمتع بها الحقوق المعنوية باعتبارها مؤبدة وغير قابلة للتصرف فهي خير دليل على ربطها الابدي بشخص المؤلف واتحادها معه. اما بالنسبة لانتقالها الى الغير عن طريق الوصية او قوانين الارث كما نصت المادة 22 فذلك يبرز ارادة المشرع حماية شخص المؤلف وأعماله حتى بعد وفاته من قبل الاقربين اليه.
ب- اعتبار الحقوق مستمدة من القانون الطبيعي وربطها بقانون الملكية:
يستفاد ذلك من خلال عدم فرض الايداع كشرط للحماية واعتماد مبدأ الملكية الفكرية ومبدأ الاستقلال بين الملكيتين المادية وغير المادية.
-عدم فرض الايداع كشرط للحماية: تنشأ الحقوق بمجرد ابتكار المؤلف للمصنف، فالايداع ليس شرطًا للحماية كما نصت صراحة المادة 5 على “ان الشخص الذي يبتكر عملًا ادبيًا او فنيًا له بمجرد ابتكاره حق الملكية المطلقة على هذا العمل ودونما حاجة لذكره احتفاظه بحقوقه او لقيامه بأية اجراءات شكلية”. اما المادة 76 التي تكلمت عن الايداع في وزارة الاقتصاد فقد نصت في فقرتها الثانية على “ان الايداع قرينة على ملكية المودع للعمل…”. ان عدم فرض الايداع لا يتعلق فقط باكتساب الحقوق انما ايضًا باستعمال هذه الحقوق كما نصت صراحة المادة 4 من معاهدة برن :” لا يخضع التمتع واستعمال هذه الحقوق لأية معاملة”.
-اعتماد مبدأ الملكية الفكرية او المعنوية: تأثرا بالمدرسة اللاتينية يشير قانون حق المؤلف اللبناني الى مرادفات قانون الملكية بدءًا من اسمه “قانون حماية الملكية الادبية والفنية” ومرورًا بالمادة 5 التي تشير صراحة الى هذا الحق: “ان الشخص الذي يبتكر…له, بمجرد ابتكاره حق الملكية المطلقة على هذا العمل…”.
-اعتماد مبدأ الاستقلال بين الملكيتين المادية وغير المادية: وهذا المبدأ يعني ان ملكية المصنف كشيء محسوس مادي هي مستقلة عن الملكية غير المادية التي تعود للمؤلف، فبيع اللوحة مثلًا ينقل ملكيتها المادية الى المشتري انما الحقوق الفكرية(v) القائمة عليها تبقى للمؤلف. لم يشر القانون اللبناني صراحة الى هذا المبدأ كما فعل القانون الفرنسي(vi) لكنه يستفاد ذلك من الروح المجملة للقانون ومن المواد التالية: المادة الاولى في تعريفها للنشر “هو وضع نسخ عن العمل…عن طريق البيع او الايجار او اية طريقة اخرى تنقل ملكية او حيازة نسخة العمل…”. اما المادة 16 فهي تتحدث عن كيفية انتقال الحقوق المادية بالتفرغ وكذلك المواد 17 و19و22. اما المادة 33 فهي تكاد ان تشير صراحة الى استقلال الملكيتين، اذ تنص على انه يجوز من غير موافقة المؤلف ومن غير دفع اي تعويض له عرض العمل الفني في المتاحف او في معارض منظمة داخل المتاحف شرط ان يكون المتحف مالكًا للمادة الملموسة التي تحتوي العمل وشرط الا يضر ذلك بالمصالح القانونية للمؤلف.
ج-اعتماد مبدأ الحماية المفتوحة للأعمال المبتكرة: يعني مبدأ الحماية المفتوحة للأعمال ان القانون لم يضع لائحة محددة للأعمال المحمية على غرار القوانين الانكلواميركية التي لا تقبل حماية اي عمل من خارج اللائحة الموضوعة. ونتيجة لهذا المبدأ، فإنّ اي عمل فكري ينتج عن ابتكار هو محمي بمجرد ابتكاره ويعود تقدير ذلك الى قضاة محاكم الاساس. لقد تأرجحت المادة 2 من قانون حق المؤلف بين الشمولية والتحديد للأعمال القابلة للحماية، ولكن يستفاد عند وجود الاثنين تغليب الشمولية على التحديد. فقد نصت اوّلًا على اشكال التعبير عن الاعمال المحمية اذ “يحمي هذا القانون جميع انتاجات العقل البشري”، ثم تعدد المادة نفسها بعض اشكال التعبير عن هذه الانتاجات مثل “كتابية، تصويرية…” لتعود وتكمل بعبارة “مهما كانت طريقة او شكل التعبير عنها”. يستفاد من هذه المادة ان الحماية تشمل كل المصنفات وبأي شكل تعبير كانت ولا تحصر بالأشكال التي تم تعدادها اولا. وتكمل هذه المادة في بندها الثاني مؤكدة ان الأعمال المشمولة بالحماية التي ستتلوها هي “على سبيل المثال لا الحصر “، ثم تورد لائحة غير حصرية بالاعمال الهدف منها ليس التحديد انما الاشارة وتسليط الضوء على الاعمال الجديدة التي أصبحت مشمولة بالحماية كبرامج الحاسب الآلي.
إن اعتماد القانون اللبناني مبدأ الشمولية هو خير دليل على الانتماء الى المدرسة الفرنسية التي تعتبر كل عمل فكري هو محمي بمجرد اتخاذه شكلًا محسوسًا وبشرط واحد ان يكون مبتكرًا. اما القوانين الانكلوامريكية فهي تعتمد مبدأ الحماية للأعمال المحددة حصرًا في القانون.
2-التأثر ببعض مفاهيم القوانين الانكلواميركية او الـ copyright:
أ-تعريف بعض المصطلحات: يبدأ قانون حق المؤلف بمادته الاولى بتعداد لائحة من المصطلحات القديمة والجديدة بهدف تعريفها.
لا نجد في القانون الفرنسي مكانًا لتعريف المصطلحات وقد اختار المشرع الفرنسي ذلك عمدًا لترك المصطلحات الاساسية مطاطة وواسعة المضمون لأنّ قانون حق المؤلف يعنى بحماية الاعمال الفكرية التي هي دائمة التطور وبالتالي لا يمكن حصرها ضمن نطاق محدد من المعاني. اما المشترع اللبناني وقد كان التطور التكنولوجي شغله الشاغل وكيفية مواكبة هذا التطور، فأدرج هذه اللائحة بهدف الإضاءة عليها وخاصة بما يختص بالحاسب الآلي وطرق النسخ والنشر والنقل الى الجمهور. لذلك يمكن القول ان ادراج التعاريف كان بهدف القاء الضوء على حماية بعض الاعمال صراحة كالحاسب الآلي في محاولة من المشرع مواكبة التطور التكنولوجي كالانترنت ومجاراة قوانين الدول الاخرى والمنظمات الدولية لاسيما منظمة التجارة العالمية.
ب-إعتبار رب العمل هو صاحب حق المؤلف : لقد اعتبرت المادة 8 من القانون انه في حالة الاعمال المبتكرة من قبل العمال يكون رب العمل هو صاحب حق المؤلف وذلك خلافًا للقانون الفرنسي الذي يعتبر العامل المبتكر مؤلفًا مع امكانية الاتفاق على ما يخالفه ولكن ضمن حدود وضوابط والا اعتبر التنازل باطلا(vii). بالرغم من شذوذ القانون اللبناني عن النمط الفرنسي الا ان تطبيق هذه المادة يستوجب : ان يكون هناك عقد عمل، وان يكون العامل قد ابتكر المصنف في نطاق النشاط المعتاد للمؤسسة، ويجب تحديد النطاق الذي ينحصر فيه هذا الانتقال وان يقتصر انتقال الحقوق على الحقوق المالية فقط لا غير. الواقع ان هذا التنازل التلقائي للأعمال المبتكرة اعتمده القانون الفرنسي في ثلاث حالات فقط وهي تتعلق ببرامج الحاسب الآلي التي يبتكرها العمال، المصنفات الجماعية والمصنفات المبتكرة خلال تأدية مهمات تتعلق بالشأن العام.
قد يكون المشرع اللبناني أراد من خلال هذا التنازل التلقائي تنظيم شؤون العمل وحث المؤسسات على الاستثمار في الابحاث والابتكارات، الا ان ذلك يخالف الروح العامة لقانون حق المؤلف الذي يكرس الاعتبار الشخصي، ويتلاءم مع قانون براءات الاختراع(viii) الذي يطبقه في المادة السادسة منه.
ج-إعتبار منتج العمل السمعي والبصري صاحب حق المؤلف: لقد عرّف القانون هذه الاعمال في المادة الاولى منه(ix) ثم عرّف منتج التسجيل السمعي او العمل السمعي والبصري في المادة نفسها معتبرًا الشخص الطبيعي او المعنوي الذي يأخذ مبادرة ومسؤولية صنع هذا العمل. ما يهمنا في هذا الموضوع هو ما نصت عليه المادة 9 والتي اعتبرت منتج العمل السمعي والبصري هو صاحب حق المؤلف ما لم يكن هناك اتفاق خطي مخالف. وبذلك يكون المشرع قد أبعد صفة المؤلف عن كل من شارك في هذا العمل كمؤلف السيناريو مثلا ومؤلف النص ومؤلف المقاطع الموسيقية وغيرهم ليعتبر المنتج صاحبًا لحق المؤلف وهو ما يخالف المقاربة الفرنسية ويوقظ المقاربة الاميركية التي تعطي الحق لرب العمل وتعرف بـ Work made for hire” ” . يبقى ان نذكر ان المادة 9 قد تركت لمؤلفي العمل السمعي والبصري الحق بالاتفاق خطيّا على الاحتفاظ بحقهم ولكن ذلك لا يلغي تهديد موقعهم كمؤلفين.
القسم الثاني: إشكاليات أساسية يجب التوقف عندها وأهمها عدم وضوح المفاهيم الاساسية التي يرتكز عليها تطبيق القانون:
1-عدم تحديد طبيعة حق المؤلف: لا شك ان حق المؤلف ومنذ نشأته قد عانى من عدة أزمات أساسية لم تتم معالجتها بعد، واهمها أزمة تحديد الطبيعة القانونية لهذا الحق(x). فبين تيار مؤيد لحق الملكية وتيار منكر له، لم يعمد المشرّع اللبناني مباشرة الى تعريف هذا الحق وتحديد طبيعته(xi) ممّا ينعكس سلبًا على فعالية ووضوح تطبيق القانون. لكن بالطبع يستفاد ان المشرع اللبناني قد حذا حذو المشرّع الفرنسي باعتبار حق المؤلف “حق ملكية فكرية” ولكن بطريقة لا تخلو من الإلتباس وعدم الدقة. لذلك يهمّنا أن نوضح النقاط التالية: لا يجوز اعتبار الحقوق المادية حقّ ملكية يمكن انتقاله والأصح هو ما نصت عليه المادة 15:
أ- لا يجوز اعتبار الحقوق المادية حق ملكية يمكن التفرغ عنه وذلك للأسباب التالية:
– بحسب المادة 22، فإن الحقوق المعنوية لا تنتقل الى الغير، (لا يجوز التصرف بحقوق المؤلف المعنوية ولا يجوز القاء الحجز عليها، انما يجوز انتقال تلك الحقوق الى الغير عن طريق الوصية او قوانين الارث). اما المادتان 15 و16 فتنظمان انتقال الحقوق المادية الى الغير، فهل من المنطق ان يملك كل من الحقوق المادية والمعنوية مالكان مختلفان وما ينتج عن ذلك من إشكاليات؟
-ان قانون حق المؤلف كما سبق وأوضحنا يكرس الاعتبار الشخصي ويهدف الى حماية المؤلف. اما نصه على الحقوق المادية وامكانية التنازل عنها فبهدف تمكين المؤلف من الاستفادة منها وليس التنازل عنها كلّيًا.
-ان عبارة (التفرّغ كلّيًا) لا تجوز لّأن المادة 17 توجب النص على كل حق على حده، والمادة 19 توجب ان يكون التفرغ محصورًا بالحق المتفرغ عنه وان تفسر العقود تفسيرًا ضيّقًا. وبالتالي فإن المؤلف الذي يتنازل تنازلًا كلّيًا عن حقوقه المادية هل من المنطق ان يكون قد وافق على تعديل عمله او تحويره او غيرها من الحقوق المادية التي نصت عليها المادة 15 والتي قد تمس جوهر إبداعه وينشأ عنها عمل إبداعي آخر لمؤلف آخر؟
ب- إنّ التعبير الذي استخدمته المادة 15 (يكون لصاحب حق المؤلف…الحق الحصري في اجازة او منع…) هو الاصح وليس التعبير الذي استخدمته المادة 16 (ان الحقوق المادية للمؤلف تعتبر حقًّا منقولًا يمكن التفرغ عنه كلّيا أو جزئيًا) لأنّ التفرغ يحمل في طياته معنى البيع، الأمر الذي يناقض احكام المادة 17 التي تنص على الزامية تعيين مدة محددة لعقود التفرغ عن الحقوق المادية (اذا لم تتضمن تلك العقود مهلة محددة تعتبر حكمًا أنّها معقودة لفترة عشر سنوات…). فلا يمكن للقانون ان يناقض نفسه بين مادتين وليس من المنطق التكلم عن بيع او تنازل.
2-عدم الوضوح في معيار الحماية: ما هو المعيار الذي على أساسه تمنح الحماية لمصنّف فكري؟ الأصالة (originalité) أم الابتكار(création) ام الجدّة (nouveauté) ؟ بالطبع ان معيار الجدّة يستبعد لانه يطبق بالنسبة للاختراعات(xii) ولكن حضوره ليس معدومًا بالنسبة للمصنفات، فهو يؤخذ بعين الاعتبار مع المصنفات الموسيقية مثلًا وقد بدأ يطبق اكثر فأكثر مع مصنفات اخرى في القارة الاوروبية.
وبالعودة الى الاصالة والابتكار فهما يختلفان بمفهومهما: ففي حين ان الاصالة تعني ان يكون المصنف من ابداع المؤلف نفسه(xiii)، وان يتسم بشخصية هذا المؤلف، فالابتكار يعني ان يبتكر المؤلف مصنّفًا جديدًا يتسم بشخصيته. ان التمييز بين هذين المعيارين هو مهمّ جدًّا لأنّه عند التطبيق تختلف النتائج. اذا كان المشرع الفرنسي قد اعتمد الاصالة كمعيار للحماية ولكن بشكل غير ثابت، فإن المشرع اللبناني قد نص على الابتكار ولكن بشكل غير واضح.
بناء عليه يقتضي توضيح المعيار الذي نص عليه القانون اللبناني وتسليط الضوء على ميزاته وذلك ايضًا من خلال إظهار عيوب معيار الاصالة.
أ-الاصالة كمعيار للحماية غير مستقر وغير كاف: بالرغم من ان الفقه(xiv) والاجتهاد(xv) الفرنسي يجدان في الاصالة المفتاح الاساسي لاكتساب حماية قانون حق المؤلف، الا ان الاصالة كمعيار للحماية تطرح العديد من علامات الاستفهام حول فعاليتها اليوم(xvi)، وذلك لأسباب عديدة نوجزها:
– ان مفهوم الاصالة هو غير ثابت ومتغير، فأحيانا نجد الاجتهاد يعطي مفهومًا ذاتيًا للأصالة باعتبارها تعبّر عن سمات الشخصية للمؤلّف، وأحيانًا أخرى نجده يتجه نحو الموضوعية بحيث ترادف الاصالة الاختيار الحرّ والمبدع للمؤلف(xvii).
-ان قرينة وجود الاصالة في مصنف ما تختلف باختلاف المصنفات، فهي تعتبر قوية ومطلقة في المصنفات التي عددها القانون ضمن الاعمال المحمية، وهي ضعيفة ومطلوب اثباتها كما في المصنفات الفرعية والمصنفات التي اكتسبت الحماية مؤخّرًا وخاصة المصنفات التي ما زالت تطلب حماية قانون حق المؤلف.
ويبقى ان نضيف أخيرًا أنّ أعمال الفن المعاصر قد وضعت معيار الاصالة في ورطة كبيرة لأنّ أغلبية هذه الاعمال يلعب الاختيار او الصدفة فيها دورًا اساسيًا واحيانًا لا تنفذ من قبل الفنان نفسه(xviii). وهنا اذا أضفى الاجتهاد الحماية لهذه الاعمال، كانت الاصالة ذات الاعتبار الذاتي ضئيلة جدًّا فيها، واذا لم يمنح الحماية خالف قاعدة اساسية في قانون حق المؤلف وهي “وحدة الفن “(xix) اي اضفاء الحماية وعدم التمييز بين كل الاعمال الفنية.
ب-الابتكار كمعيار للحماية ثابت وكاف للتمييز: لقد نص قانون حق المؤلف اللبناني في المادة الخامسة منه على “ان الشخص الذي يبتكر عملًا أدبيًا او فنيًا، له بمجرد ابتكاره حق الملكية المطلقة على هذا العمل…”. فتعبير الابتكار يعني في اللغة الفرنسية (créer création )(xx). ولكن اذا عدنا الى المراجع الفقهية اللبنانية التي تناولت قانون حق المؤلف وجدنا انها تخلط بين الابتكار والاصالة حتى انها تعتبر ان المعيار المفروض هو الاصالة. اما الاجتهاد فقد قدّم تعريفًا لا يخلو من ناحيته ايضًا من الغموض مع ترجيح التلميح الى الأصالة: “لا يشترط في الابتكار المشمول بهذه الحماية إختراعًا ما ولا إنشاء مصنّف يتصف بالجدة التامة، وإنما يقصد بهذا الابتكار كل ما ينتجه العقل البشري ويشكل سمة من سمات الشخصية ويكتسب مفهومًا ذاتيًا يتصف بالفردية … “(xxi).
سواء كان المشرع اللبناني قد نص على الابتكار مصادفة او قصدًا، يهمنا ان نوضح أهمية هذا المعيار، وقد أوردنا سابقًا عيوب معيار الاصالة، فأوّلًا الابتكار ليس جديدًا على الفقه الفرنسي. وثانيًا تكمن أهميته بأنه يشمل الاصالة والجدة.
-الفقه الفرنسي الذي يرى بالابتكار معيارًا للحماية: لقد رأى الفقه الفرنسي بالابتكار معيارًا للحماية منذ سنة 1837 مع Gastambide (xxii). وقد توالى غيره من الفقهاء الذين وافقوه هذا الرأي، وصولًا الى Olivier Laligant (xxiii) الذي أسهب بالشرح والتوصية بهذا المعيار. بالنسبة له ان تعبير الابتكار يسلّط الضوء على ان المؤلف قد أعطى الوجود شيئًا لا يمكن استبداله طالما انه لا يوجد مثيل له سابقًا. فبالنسبة للكاتب ايجاد أعمال لم توجد سابقًا هو أهم حتى من التعبير عن سمات الشخصية. فالابتكار كمعيار هو كاف ويجنّبنا اللجوء الى معايير أخرى غير مجدية.
انّ الاصالة هو معيار غير كاف للحماية، لأنّه محدود بالمعيار الشخصي ولا يشمل المعيار الموضوعي. اما الابتكار فهو يشمل المعيارين: المعيار الشخصي وهو عبارة عن علاقة المصنّف بمؤلّفه، أيّ أن يتصف بسمات شخصية المؤلف وهو باختصار الاصالة. والمعيار الموضوعي وهو عبارة عن علاقة المصنف بغيره من المصنفات الموجودة سابقًا، أيّ أن يتميّز بشكل كاف عن هذه المصنفات وبعبارة أخرى ان يكون جديدًا. اذا بالنسبة لـ Laligant الابتكار يشمل الاصالة والجدة وهو ما يلزم تطبيقه عند الحماية لأنّ المصنّفات تختلف فيها درجة الذاتية والموضوعية بحسب موضوعاتها وانواعها.
إذًا السبب الاهم والكافي برأينا لاعتماد الابتكار كمعيار، فهو شمول الابتكار على الجدّة والاصالة. فالمصنفات تختلف أنواعها وأشكالها ومضامينها، فمنها ما يطغى عليه الطابع الشخصي، ومنها ما يطغى عليه الطابع الموضوعي. وبعبارة أخرى هناك مصنفات تستوجب ترجيح معيار الجدة على الاصالة، وهناك مصنفات تستوجب ترجيح معيار الاصالة على الجدة، وذلك دون ان يلغي أحدهما الآخر. ان هذا السبب هو الاهمّ والكافي لاعتماد الابتكار كمعيار.
في الخاتمة، يبقى ان نقول ان القوانين التي تنظم حماية الأعمال الفكرية في بلد ما، تعكس مستوى تطوّر هذا البلد لأنّه وباختصار كلّما احترمنا إبتكاراتنا واختراعاتنا، حثّينا الأفراد في المجتمع على العطاء والإبداع.
المصادر والمراجع:
(i) القانون العثماني الصادر في 11 أيلول 1872 الخاص بالتأليف.
(ii) قانون يرمي الى حماية الملكية الادبية والفنية رقم 75، وقد نشر في الجريدة الرسمية رقم 18 بتاريخ 1999/4/13.
(iii).Philips, Jeremy: The concept of author in copyright law wipo 1990 p. 26.
(iv) أهمها برامج الحاسب الآلي.
(v) اي الحقوق المادية والحقوق المعنوية.
(vi) L’article L. 111-3 du Code de la propriété intellectuelle français : « La propriété incorporelle définie par l’article L.111-1 est indépendante de la propriété de l’objet matériel ».
L’article L.111-1 du CPI français : « L’existence ou la conclusion d’un contrat de louage d’ouvrage ou de service par l’auteur d’une œuvre de l’esprit n’emporte pas dérogation à la jouissance du droit reconnu par le premier alinéa… ».
(vii) قانون براءات الإختراع، رقم 240 وقد نشر في الجريدة الرسمية رقم 35 تاريخ 2000/8/14.
(viii) المادة الاولى من قانون حق المؤلف: “العمل السمعي والبصري هو كل عمل يتكون من مجموعة متسلسلة من الصور المتعلقة بعضها ببعض سواء أكانت مصحوبة بصوت ام لا والتي تعطي انطباعا بالحركة عند عرضها او بثها او نقلها بأجهزة خاصة”.
(ix) عجة الجيلاني، موسوعة حقوق الملكية الفكرية، الجزء الاول، منشورات زين الحقوقية،لبنان،2015.
(x) نعيم مغبغب، الملكية الادبية والفنية والحقوق المجاورة، منشورات الحلبي الحقوقية، 2008، ص 19.
(xi) المادة 2 من قانون براءات الاختراع رقم 240: “يكون الاختراع قابلا للحماية اذا كان جديدا ومنطويا على نشاط ابتكاري وقابلا للتطبيق الصناعي”.
(xii) ن. كنعان، حق المؤلف النماذج المعاصرة لحق المؤلف ووسائل حمايته، مكتبة دار الثقافة، عمان الاردن 1992، ص56.
(xiii) P-Y. Gautier, “Les critères qualitatifs pour la protection littéraire et artistique en droit français », in Revue internationale de droit comparé, 1994, volume 46,n6.
(xiv) Crim. 7oct.1998: RIDA 1999. N180, p.327: “une œuvre n’est protégée qu’à la condition de présenter un caractère original ».
(xv)L. Marino, « L’œuvre de l’esprit : l’originalité, critère discriminant ? »in l’œuvre de l’esprit en question, mare&martin, 2015, p.106.
(xvi) CJUE 1dec 2011, C-145/10, Painer: Comm.Com.Electr. 2012, comm. 26, note . Caron ; CJUE 1mars 2012, C-604/10, Football Dataco : Gaz. Pal. 1 aout 2012, p.11, note L. Marino.
(xvii)N.Walravens, L’œuvre d’art en droit d’auteur, forme et originalité des œuvres d’art contemporains, Economica, 2005.
(xviii)Y.Gaubiac, La théorie de l’unité de l’art, thèse Paris II, 1980, résumé in Y. Gaubiac, La théorie de l’unité de l’art : RIDA 1/1982,p.3.
(xx) M. Ferran, “La nouvelle loi du Liban sur le droit d’auteur”, publication de l’IRPI, Henri-Desbois, p. 8: “La version arabe du texte emploie le mot créer. Ce terme peut paraître peu explicite pour couvrir la condition d’originalité que doit revêtir une telle creation”.
(xxi) قاضي الامور المستعجلة في بيروت، 2004/1/30 ، المرجع في إجتهادات الملكية الفكرية، منشورات صادر الحقوقية 2006، ص. 560.
(xxii) Gastambide, Traité théorique et pratique des contrefacons en tout genre, ou de la propriété en matière de literature, theatre, musique, peinture, dessins, gravure, dessins de manufactures, sculptures industrielles, marques, noms, raisons commerciales. Enseignes, etc, Paris 1837 p.p.48-50, et p.p.377-378.
(xxiii)O. Laligant, La véritable condition d’application du droit d’auteur: originalité ou création, PUM, Aix-en-Provence, 1999
“محكمة” – الإثنين في 2024/1/29

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!