أبحاث ودراسات

هكذا قضت الصين الشيوعية على الفساد لتصبح دولة نووية ومعجزة إقتصادية/نهاد التن

نهاد ميشال التن*:
شهد القرن العشرون صعود أمّة أخرجت نفسها من الظلمات وانتقلت، بكامل إرادتها، إلى النور المؤكّد. إذ يزخر تاريخ الصين الحديث بتحوّلات جذرية تمكّنت من خلالها هذه الأمّة المنكوبة في النصف الأوّل من القرن العشرين، من الإرتقاء إلى مصاف أرقى وأعظم الدول، والتحوّل، في أقلّ من 75 عامًا (إذا ما احتسبنا أعوام القرن الحادي والعشرين)، إلى معجزة اقتصادية وقوّة هادرة بصناعاتها وإنجازاتها العلمية اللامتناهية.
ومع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني المصادفة في 23 تموز/ يوليو 2021، تبدأ الصين احتفالاتها احتفاء بهذا الحزب الحاكم الذي أخرجها من الويلات وتوّجها معجزة اقتصادية، لا بل قدوة للبشرية جمعاء.
الحروب وإخفاقات “الوثبة العظيمة للأمام”
عاشت الصين، في النصف الأوّل من القرن العشرين، الفشل والتخبّط والمآسي المتتالية: بداية مع الحرب الأهلية بين الكوومينتانغ أيّ الحزب الوطني الصيني من جهة، والحزب الشيوعي الصيني من جهة أخرى. استمرّت هذه الحرب من العام 1927 إلى 1950، وانتهت بانتصار الحزب الشيوعي وتأسيس ما يعرف اليوم بـ”جمهورية الصين الشعبية” على يد الزعيم ماو تسي تونغ (في الأوّل من تشرين الأوّل/ اكتوبر من العام 1949).
تخلّلت هذه الحرب حرب أخرى بين الصين وإمبراطورية اليابان بين عامي 1937 و1945، أسفرت عن مقتل 15 مليون صيني.
لم تقتصر الويلات على الحروب، بل تعدّتها إلى المجاعة بين الأعوام 1958 و1961. يطلق عليها رسميًا اسم “مجاعة الصين الكبرى” وتعتبر من أشدّ الكوارث التي تسبّب بها الإنسان عبر التاريخ لأنّها حصدت أرواح 45 مليون صيني، وتسبّب بها، إضافة إلى عوامل أخرى مؤثّرة، الزعيم ماو تسي تونغ!
أراد تونغ إتمام تطوير اجتماعي واقتصادي بسرعة قياسية بعد استلامه زعامة الجمهورية، عن طريق خطّة إقتصادية حملت اسم ” الوثبة العظيمة للأمام” أو The Great Leap” Forward”. هدفت هذه الخطّة إلى تحويل الصين من دولة زراعية إلى دولة صناعية بأقصى سرعة ممكنة، لكنّ خطّته باءت بالفشل الذريع وأدّت إلى تجويع وقتل الملايين، الأمر الذي وصف بأكبر عمليات القتل الجماعي تأثيرًا في تاريخ البشرية.
النهضة الصينية ونشأة المعجزة الاقتصادية العالمية
في العام 1976، استلم سدّة الحكم القائد الحكيم دينج شياو بينج الذي أقرّ سلسلة إصلاحات جذرية كان من شأنها تحويل الصين من بلد فقير وجائع إلى أهمّ البلدان وزنًا على خارطة العالم الاقتصادية، والتكنولوجية والعلمية.
آمن بينج أنّ نجاح أمّة ما لا يكمن بثرواتها الطبيعية، بل بقيادتها وصانعي قرارها، فكان أن عيّن نخبة من التكنوقراطيين الموهوبين في مجالات الإقتصاد، والهندسة والصناعة.
بلحمة قلّ نظيرها، اتخذ هؤلاء التكنوقراطيون سلسلة تدابير منها فتح الإقتصاد أمام التجارة والاستثمارات الأجنبية، والإنتقال من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية وإنشاء شبكة مصانع ومعامل ضخمة لصنع كلّ ما لا يدبّ على وجه الأرض!
إنتشال مئات الملايين من الفقر
كان القضاء على الفقر الهدف الأوّل لبينغ فسخّر له، مع فريقه، كلّ ما أوتي به من إمكانات. ففي بداية تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، كانت الصين ترزح تحت وطأة الفقر، خاصة المناطق الريفية منها.
وبمجموعة الإصلاحات التي بدأها شياو بينغ، تمكّنت الصين من الإنتصار على الفقر المدقع. هذا ما أقرّ به العام الماضي الرئيس شي جين بينغ ، ما اعتبر إعلانًا رسميًا بالإنتصار الكبير. فلم تتردّد الصين بتأكيد انتشال 800 مليون شخص من الفقر منذ بداية الخطّة الجبّارة في السبعينيات، ما يعتبر نموذجًا يحتذى به على مستوى العالم للقضاء على هذه الآفة المقلقة.
مكافحة الفساد
منذ تولّيه رئاسة السلطة في جمهورية الصين الشعبية، أطلق الرئيس الحالي شي جين بينغ حملة واسعة لاجتثاث الفساد الذي يعتبره هو شخصيًا “وباء” يجب القضاء عليه. شملت هذه الحملة الآلاف من مسؤولي الحزب الشيوعي والموظّفين الحكوميين في إطار حرب نارية شنّت على البذخ والكسب غير المشروع.
أكّد جهاز مكافحة الفساد في الصين معاقبة نحو 1.5 مليون مسؤول منذ العام 2013، ما يجسّد المقولة الشهيرة للرئيس شي جين بينغ بعزمه ضرب الفساد وعدم التهاون مع كبار وصغار المُرتشين:” سنضرب النمور (كبار الفاسدين) طالما تطلّ برأسها، ونسحق الذباب (صغار الفاسدين) طالما يطنّ حولنا”.
ثاني أكبر اقتصاد في العالم
تسارع النمو الاقتصادي للصين بسرعة هائلة إلى أن وصل في التسعينيات لمستويات قياسية. إستمرّ التنين بالتحليق عاليًا، فمن صادرات قيمتها 10 مليارات دولار في العام 1978، تصدّرت الصين قائمة الدول المصدّرة للسلع بانتزاعها هذا اللقب (من ألمانيا في العام 2009) الذي لا تزال تحتفظ به حتّى يومنا هذا.
وهكذا استطاع الاقتصاد الصيني، خلال بضعة عقود، أن يصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية. فقد بلغت قيمة السلع المنتجة في الصين في العام 2020 102 تريليون يوان (15.38 تريليون دولار)، ليصبح إجمالي الناتج المحلّي الصيني 14.6 تريليون دولار مقابل 20.8 تريليونا لإجمالي الناتج المحلّي الأميركي.
إنجازات علمية وتكنولوجية مبهرة
أصرّ المارد الصيني على إبهار العالم أيضًا بالعلم والتكنولوجيا فتمّ تقديم العديد من الإبتكارات المبهرة في مجال الذكاء الاصطناعي، الروبوتيك والاتصالات العالية الجودة في القرن الحالي. والدليل القاطع هو ازدياد براءات الاختراع الصينية لتصل مؤخّرًا إلى 22 بالمئة من إجمالي البراءات العالمية.
سلسلة الإنجازات العلمية الصينية لا تقتصر على ما يلي، بل تتعدّاه للائحة خارقة تثير اهتمام العالم وتجتذب الأنظار الدولية، اخترت منها الأبرز والأضخم:
نجحت الصين في العام 2017 بإطلاق أوّل قمر اصطناعي عالي الإنتاجية لاكتشاف القمر. هذا القمر الذي سمّي “Shijian 20 ” يعتبر الأكثر تطوّرًا في الصين حتّى الآن، يزن ثمانية أطنان وقد تمّ إطلاقه في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي على صاروخ “Long-March-5 Y3″ الذي وصفته وسائل إعلام صينية بـ” أقوى صاروخ في العالم”.
كما تمّ تشغيل التليسكوب “FAST” أو “عين السماء الصينية” في نهاية العام المنصرم الذي يعتبر أكبر مرصد لاسلكي في العالم معادلًا حجم 30 ملعب كرة قدم.
إلى ذلك، تمّ إصدار قطار الرصاصة “Fuxing CR400AF-G”( في كانون الثاني/ يناير الماضي) الذي يعتبر أسرع قطار للركّاب في العالم بسرعة تصل إلى 350 كلم في الساعة. يعمل هذا القطار تحت درجات حرارة منخفضة تصل إلى -40 درجة مئوية، ما يعتبر نقلة نوعية في قطاع النقل البرّي.
ريادة في الطاقة المتجدّدة والشمس الإصطناعية
تملك الصين اليوم أكبر طاقة مائية، وشمسية وريحية في العالم، في سعي منها لتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة من جهة، ولضمان أمنها في هذا المجال من جهة أخرى. فهذه الدولة تخطّط للاعتماد كلّيًا على الطاقات البديلة والإستغناء التدريجي حتّى الكلّي عن النفط ومشتقاته.
ختام إنجازات الصين، حتّى لحظة كتابة هذا المقال، هو أضخمها وأشدّها إبهارًا على الإطلاق. فبينما كان العالم يضمّد جراحه ويلملم جثث وفياته نتيجة جائحة “كوفيد-19″، كانت الصين منهمكة بتشغيل “شمسها الاصطناعية”! ففي شهر كانون الأوّل/ ديسمبر 2020، أعلنت الشركة الوطنية الصينية للطاقة النووية تشغيل “TOKAMAK HL-2M” المفاعل فائق التطوّر الذي يحاكي بعمله الاندماج النووي الذي يحدث بالشمس الطبيعية لتوليد الحرارة والطاقة. ومع نجاح علماء الذرّة الصينيين بتخطّي المئة المليون درجة مئوية، تكون الشمس الصينية قد فاقت بسبعة أضعاف حرارة قلب الشمس المقدّرة بـ 15 مليون درجة مئوية!
هكذا تكون الأمّة الصينية قد صنعت المعجزة تلو الأخرى، تخطّت ذاتها وأثبتت دون مجال للشكّ أن لا مستحيل تحت عين الشمس وقبّة السماء. وهكذا يكون الحزب الشيوعي الصيني قد برهن للعالم أنّ الأوفياء لا يخنثون بوعودهم… ولو بعد مئة عام!
فمليار سلام لمن علّم العالم
أنّ الذلّ ليس قدرًا، بل خيار،
وأنّ الجبابرة لا يرتضون بالهوان مصيرًا لهم،
بل يطوّعون أقسى وأعسر الأقدار حتّى يستحقوا، عن جدارة، أكاليل الغار
إنّ النصر المؤقّت فرحة المتعجرفين،
أمّا المجد الدائم فملك المتواضعين الصامتين،
وأنّ الشعب إذا اجتمع بصوت واحد قائلًا “أريد”،
تتحالف الكواكب مؤازرة له، وتدفع الريح مراكبه الى الأمام بكلّ لين
إنّ التاريخ كتاب لا يكتبه المؤرّخون،
بل يصنعه الأبطال بعرق الكفوف ودمع العيون
وإنّ التنين المتمرّد
اتّخذ من أشعة الشمس خيوطًا ليخطّ أسطر مجده بحروف من ذهب وسكونْ.
*أستاذة جامعية، مترجمة ومدقّقة لغوية. *المصادر: وكالات أجنبية والبنك الدولي.
“محكمة” – السبت في 2021/3/20

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!