أخلاقيات وسلوكيات المهن القانونية*
كتب القاضي طارق زيادة:
إنتسبت إلى نقابة المحامين في طرابلس بعد نيل الإجازتين من معهد الحقوق الفرنسي في حزيران سنة 1960، وتسجّلت في مكتب المغفور له الأستاذ عدنان الجسر، وكنت المتدرّج الوحيد في النقابة. أنهيت التدرّج في سنتين وتسجّلت كمحام في الاستئناف، ثمّ انتسبت إلى معهد القضاة سنة 1963 في الدفعة الأولى من قضاته، وتقلّبت، كما تعلمون، في مختلف المناصب القضائية من قاض منفرد، إلى رئيس محكمة التمييز، فرئاسة التفتيش القضائي وعضوية مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة. وبعد تقاعدي ساهمت في إنشاء محكمة النقض في إمارة أبو ظبي، وعملت مستشاراً في الغرفة المدنية لمدّة سنتين، ثمّ انتخبني المجلس النيابي عضواً في المجلس الدستوري، ولا أزال أمارس كنائب للرئيس.
أريد الاستفادة من ذلك لأنقل لكم تجربتي المعيوشة في المحاماة والقضاء لجهة سلوكيات وأخلاقيات القضاة والمحامين. ولأنّني أمضيت معظم حياتي المهنية كقاض، فإنّني أبدأ بعرض قواعد ومبادئ السلوك القضائي ومناقبية العمل القضائي، ولاسيّما أنّني كنت في عداد اللجنة الرباعية التي وضعت الشرعة القضائية في وثيقة عرضت مطلع عام 2005 أمام قضاة لبنان في القاعة الكبرى لمحكمة التمييز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة عليها، على أن أتبعها بنظام آداب مهنة ومناقب المحامين.
القسم الأوّل: الشرعة اللبنانية لقواعد ومبادئ السلوك القضائي ومناقبية العمل القضائي:
إستوحت الشرعة اللبنانية العديد من الوثائق التي أقرّتها منظّمات دولية أو دول متقدّمة، وراعت التجربة اللبنانية، وانتهت إلى ثماني قواعد نعرضها باختصار في ما يلي:
1- الإستقلال L’indépendance :إستقلال القضاء واستقلال القاضي: المادة العشرون من الدستور اللبناني تنصّ على أنّ”القضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات باسم الشعب اللبناني” يجب التمييز بين المفهومين. فالمادة الأولى من قانون أصول المحاكمات المدنية تقول:” القضاء سلطة مستقلّة تجاه السلطات الأخرى”، وكذلك المادة 44 من قانون القضاء العدلي تقول:” القضاة مستقلّون في قضائهم فلا يمكن نقلهم أو إقالتهم إلاّ وفقاً للقانون”، وقد انضم لبنان إلى معاهدات دولية عديدة تدعم استقلال القضاء ولاسيّما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أ- استقلال السلطة القضائية وحدودها.
ب- إستقلال القاضي تجاه الرأي العام وتجاه المجتمع والسلطتين الأخريين، واستقلاله تجاه زملائه(عدم التوسّط).
2- التجرّد L’impartialité: الحياد والمساواة، التنحّي عند الضرورة، إظهار التجرّد، المراقبة الذاتية داخل المحكمة وخارجها، إعمال المساواة معاملة لا تمييز فيها.
3- النزاهة L’intégrité: المناعة، الأمانة، الإستقامة، الشفافية، نظافة اليد، إنّها التعبير عن الصفة الكاملة في القاضي، السلوك النزيه، الترفّع عن المكسب، الإنتباه إلى تصرّف المساعدين وأعوان القضاة.
4- موجب التحفّظ oblig. de reserve:الإمتناع عن إبداء الرأي، ضمان التجرّد لحيازة ثقة الناس، دون أن يعني ذلك أنّ القاضي يعيش في برج عاجي، وهو يسري على القضاة في منصب الشرف، عدم التدخّل في الأمور السياسية اليومية، عدم التعليق على القرارات الصادرة عن المحاكم الأخرى، أو الترويج لأحكامه، سلوك وهندام وتصرّفات إجتماعية بما يحفظ هيبة القاضي ضمن قصور العدل وخارجها، وخاصة مع بلوغ القاضيات نسبة النصف من السلك القضائي، البعد عن شبهة العلاقات، وعن المآدب والسهرات، والمحافظة على سرّ المذاكرة.
5- الشجاعة الأدبية Le courage moral: لن يستقيم حكم ولن تشيع عدالة، إلاّ إذا عزّز القاضي ثقته بنفسه، عبر الشعور بأنّه هو القوي، ولا مجال لإضعافه أمام القوي، ولا استقواء على الضعيف، الشجاعة هي وجه من وجوه الاستقلالية في بلد صغير الكلّ يعرف فيه الكلّ.
6- التواضع La modestie :سمة أساسية في شخصية القاضي المميّز، البسيط والهادئ والعالم المتواضع، وهالة القاضي في البساطة العميقة، وليس بالتبجّح أو المظاهر المصطنعة.
7- الصدق والشرف La loyauté et la dignité: الكرامة، الإستقامة، الأمانة، الإخلاص، الصدق، الشفافية، وفضيلة العدل بكلّ أبعادها، يُقسم القاضي على أن يتصرّف في كلّ أعماله تصرّف القاضي الصادق الشريف( المادة 46 من قانون القضاء العدلي، والمادة 12 من نظام مجلس شورى الدولة)، إحترام الرؤساء القضائيين، والصدق إزاء أطراف النزاع، يجب أن يكون القضاء عنوان الشرف. سأل تشرشل عشية الحرب عن القضاء في بريطانيا فاطمأن للنصر، تجنّب الأماكن المشبوهة، أو مخالطة أهل السوء، أو إبداء عواطفه في المجالس العامة.
8- الأهلية والنشاط La compétence et la diligence: على القضاة ممارسة مهمّاتهم بنشاط. ليس الأمر فضيلة شخصية وحسب، بل إنّه يلزم القضاء برمّته، وفقدانه يؤدّي إلى العدالة البطيئة التي تعادل الظلم، والإمتناع عن إحقاق الحقّ، والأهلية تقتضي توافر العلم والثقافة العامة والاجتهاد، وإصدار الأحكام ضمن المهلة المعقولة، وإلاّ أصبحت غير مثمرة. والنشاط يتنافى مع الكسل والإهمال والغياب والتأجيل غير المبرّر إلى آماد بعيدة، وإصدار القرارات الإعدادية المتكرّرة غير المفيدة في الفصل، والإختناق القضائي مشلكة لبنانية ودولية، فوراء كلّ ملفّ إنسان ينتظر ومجتمع يتضرّر، وعلى القاضي أن يحثّ قلمه على النشاط وأن يراقبه.
هذه الوثيقة اللبنانية قابلة للتعديل في ضوء التجربة، ومن أسف أنّ قضاة لبنان لم يهتمّوا بها الإهتمام الكافي، عدا أنّها لم ترفق بآلية أو مرجعية للتطبيق أو لطرح الأسئلة والإشكالات التي تنتاب القضاة في حياتهم العملية وسلوكهم، والأهمّ هو تطبيق هذه الشرعة على يد قضاة نذروا أنفسهم للحقّ والعدالة والحرّيّة مجسّدين في حياتهم العملية هذه الفضائل.
القسم الثاني: نظام آداب مهنة المحامين ومناقبهم: وضعت نقابة المحامين في بيروت نظاماً لآداب ومهنة المحاماة ومناقب المحامين، كما أقرّ مجلس نقابة المحامين في طرابلس بقراره رقم 11 تاريخ 24/3/2004 نظام آداب مهنة المحامين ومناقب المحامين، وركّز في الفصل الأوّل على المبادئ العامة، وفي الفصل الثاني على علاقة المحامي مع موكّليه، وفي الفصل الثالث على علاقة المحامي مع زملائه، وفي الفصل الرابع على علاقة المحامي مع القضاة، وفي الفصل الخامس على علاقة المحامي مع المتدرّج، وأورد في الفصل السادس أحكاماً ختامية.
الفصل الأوّل: المبادئ العامة: تعتبر المبادئ العامة المحامين رسل عدالة وحماة حقوق ومدافعين عن الحرّيّات وسيادة القانون وسمو الدستور ومنعة القضاء واستقلاله والقضايا الوطنية، ولذلك على المحامي أن يتصرّف بما يوحي الثقة والإحترام في اللفظ والمظهر واللوائح، وأن يتقيّد بمبادئ الشرف والإستقامة والنزاهة، وعليه الاعتناء بمظهره الخارجي ليكون لائقاً، وعليه أن يلبس ثوب المحاماة خارج قاعة المحكمة، وعليه المحافظة على سرّ المهنة، وعليه ألاّ يقوم بأيّ عمل لا يأتلف مع كرامة المحاماة وجوهر رسالته، ولا يجوز له التعليق على قضايا توكّل فيها قبل الفصل بها قضائياً وبصورة مبرمة.
الفصل الثاني: علاقة المحامي مع موكّليه: هذه العلاقة تقوم على الثقة والصدق والاحترام والمدافعة بأفضل الطرق وبكلّ ضمير وعلم، وأن يقدّم له النصيحة ويسعى إلى الصلح إذا كان ذلك ممكناً، وأن يتقبّل المراجعات في مكتبه، وأن يكشف له عن علاقته بالطرف الآخر إنْ كانت موجودة، وألا يقبل وكالة في دعوى موكل فيها زميل إلاّ بموافقة المحامي الخطيّة وإذن النقيب، وألا يجري أيّة مصالحة قبل أخذ موافقة وكيله الخطيّة، وعليه تحديد أتعابه سلفاً وباعتدال، وأن يمتنع عن استعمال الوساطة، وإذا تعارضت وجهة نظره مع موكّله، عليه اعتزال الوكالة، وإذا كلّف من قبل النقابة بالدفاع، عليه القيام بذلك على أحسن وجه وبدون أتعاب، وعليه ألاّ يحتفظ بمال موكّله أكثر ممّا يستلزم الوقت.
الفصل الثالث: علاقة المحامي مع زملائه: يقيم معهم أفضل العلاقات مع التعاون من أجل سرعة الفصل في الدعاوى، والعودة إلى النقيب في حال الإشكالات مع الزملاء، ويجب عدم إقحام العلاقات الشخصية في المرافعات، وأن يلتزم آداب المخاطبة وتجنّب الكلام الجارح والإهانات تجاه الزملاء والقضاة والخصوم، وعليه إحاطة الناشئين والمتدرّجين بالإرشاد، وعلى هؤلاء واجب التقدير والإحترام لزملائهم الأقدم عهداً، وعليه في مراسلاته مع زميله أن يحيط الأخير بواجب السرّية إذا رغب في ذلك، وعليه عدم الاتصال مباشرة بالخصم الذي وكّل محامياً في القضيّة، وألاّ يستقبله في مكتبه إلاّ بحضور وكيله، وأن يبلغه بواسطة هذا الوكيل.
الفصل الرابع: علاقة المحامي مع القضاة:إنّ رسالتهما واحدة: العدالة، وعليه إحترام القضاء والقضاة كشركاء في إقامة العدل، بل عليه الدفاع عن استقلال السلطة القضائية، وعليه احترام المواعيد والجدول والتنازل عن دوره للنقيب.
الفصل الخامس: علاقة المحامي مع المتدرّج: على المتدرّج أن يمارس تدرّجه تحت إشراف ورعاية المحامي بجدّيّة في كلّ المراحل، وأنّ يجهد في اكتساب الخبرة والعلم وألاّ يعتبر نفسه قد ختم العلم بنيله الإجازة والإنتساب إلى النقابة. وكان الرئيس الأوّل القاضي عاطف النقيب يقول لنا: “في فراغكم إرجعوا إلى داللوز وإلى المؤلّفات”. ويجب على المتدرّج أن يكون غيوراً على مصالح المكتب وسمعته، وعلى المحامي أن يعامل المتدرّج بدراية واحترام وإرشاد وتوجيه ورعاية وبتشجيع مادي ومعنوي.
الفصل السادس: أحكام ختامية: على المحامي أن يتذكّر دوماً أنّه يقوم برسالة في الدفاع عن الحقوق الأساسية والحرّيّات العامة، وألاّ يعرّض نفسه للعقوبات التأديبية، مع اعتبار أنّ نظام آداب المهنة ومناقب المحامين يكمل النظام الداخلي لنقابة المحامين.
خاتمة: علينا قضاة ومحامين أن نشعر بأهميّة رسالتنا في إحقاق الحقّ وسيادة القانون والدفاع عن الحقوق الأساسية والحرّيّات العامة، وأن نعيد إلى السلطة القضائية، وإلى مهنة المحاماة موقعهما الأساسي في مجتمع تحكمه العدالة وشرط ذلك الذي لا محيد عنه، إستقلال السلطة القضائية، واستقلالية المحاماة.
*ألقيت هذه الكلمة في افتتاح محاضرات التدرّج في نقابة المحامين في طرابلس في 4 شباط 2017.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 15 – آذار 2017).