أوّل حكم قضائي من نوعه:إلزام مصرف بتسديد كامل الوديعة نقدًا/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
في أوّل حكم قضائي من نوعه منذ تفاقم الأزمة المالية – المصرفية بعد حادثة 17 تشرين الأوّل 2019 وانعكاسها سلبًا وبشكل موجع على الحالة الإقتصادية للوطن والوضع المعيشي للمواطن على الرغم من تحذيرات استباقية بوقوعها، وإحجام المصارف، باختلاف أحجامها ورأسمالها وتسمياتها، عن إعطاء المودعين حساباتهم المؤتمنة عليها، وما نتج عنها من صور إذلال وصفوف انتظار على الأبواب، وتقاذف مسؤوليات، وتهويل وترهيب معنوي، وذرائع واهية عن قوّة قاهرة وما شابه، ومسوّغات غير منطقية، سدّدت المحكمة الابتدائيّة في بيروت الناظرة في القضايا الماليّة لكمةً قويّة لهذه المصارف، وأجبرت أحدها على دفع كامل قيمة الوديعة الموجودة لديه ونقدًا وبالعملة التي وضعت فيها في الأساس، ومن دون أيّة محاولة تملّص أو افتئات على الحقوق، ومن دون أيّ تأخير زمني، وإلّا تعرّض لغرامة إكراهية مقدارها ثلاثون مليون ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ.
ولا شكّ أنّ هذا الحكم القضائي المنتصر للناس وأرزاقهم وحقوقهم المالية وما ادخروه من عرق الجبين، يستحقّ أن يكون صادرًا باسم الشعب اللبناني، خصوصًا وأنّ هناك أحكامًا وقرارات قضائية توّجت، خلال هذه الأزمة المالية، بهذه العبارة من دون وجه حقّ، لا بل إنّ محكمة التمييز المدنية بغرفتها الخامسة في عهد رئيسها القاضي المتقاعد ميشال طرزي ومن تلاه بعد تقاعده في 13 آذار من العام 2021 على سبيل المثال، وقفت ضدّ الناس وحقوقهم المشروعة، وانحازت بشكل مستغرب لمصالح المصارف، ففقدت شرعيتها في إحقاق الحقّ.
والغريب أنّ قرارات محكمة التمييز المذكورة تضمّنت مخالفات قانونية جسيمة وفاقعة ومستهجنة، وابتعدت عن الإنصاف وكأنّها كتبت بحروف مصرفية غير قابلة للصرف من الوجهة القانونية!(يمكن مراجعة ما كتبته “محكمة” من تعليق قانوني على أحد قرارات محكمة التمييز المذكورة في العدد رقم 51 الصادر في شهر آذار من العام 2020).
وفي حكمها المؤلّف من 12 صفحة “فولسكاب”، وجدت المحكمة الإبتدائية المؤلّفة من القاضيات زلفا الحسن رئيسةً ولارا كوزاك وبرتا سماحة عضوين، أنّ ما ذهب إليه المواطن الدكتور جوزف خليل من مطالبة باستعادة أمواله المودعة ضمن ثلاث حسابات “ادخار لأجل” لدى البنك “اللبناني السويسري” حقّ طبيعي له، وأنّ ما تذرّع به هذا المصرف من أسباب وحجج وما قام به من إسقاطات غير مثبتة قانونًا على ما يُطالَب به ومنها تصنيفه الحراك الشعبي في لبنان في 17 تشرين الأوّل 2019 قوّة قاهرة خارجة عن إرادته ولا قدرة له على مواجهتها، ساقط ولا يأتلف مع القانون، ممّا يحتّم عليه إعادة الأموال كاملة وبالعملة نفسها التي أودعت بها لديه وهي هنا اليورو والدولار الأميركي.
وقد تعمّد المصرف إلحاق الضرر بالمودع من خلال رفضه إرجاع المال إليه على الرغم من تزويده بكلّ المستندات التي تؤكّد الحاجة الماسة إليه ليدفع ما ترتّب بذمّته من ديون في ألمانيا، ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى تعثّره ماليًا، علمًا أنّه يحقّ لصاحب المال وحساب الإدخار ومن دون أن ينازعه أحد في ذلك، أن يبادر إلى المطالبة باسترجاع أمواله وسحبها من المصرف، وذلك بغضّ النظر عن الأسباب والدوافع، لا بل هو غير ملزم في الأصل، أن يحدّد الأسباب الكامنة وراء مطلبه بأخذ مدخّراته المالية لدى المصرف، فالمطالبة مشروعة، والإسترجاع مشروع، ولا قدرة للمصرف على تعطيله ما دام تصرّفًا قانونيًا سليمًا.
وبحثت المحكمة في مندرجات حكمها، المسألتين الأساسيتين المثارتين أمامها وهما:
1- معنى حساب الادخار حيث يمتلك المصرف المال المودع لديه مؤقّتًا إلى حين مطالبته به أو انتهاء الأجل المحدّد له، ويصبح ملزمًا بإعادته كاملًا من دون نقصان، وبالتالي فالمال أمانة وقرض معطى من صاحب حساب التوفير أو الإدخار إلى المصرف لتشغيله واستثماره والإستفادة منه، وليس وضع يده عليه كأنّه ملك خاص يحقّ له التصرّف به إلى ما لا نهاية، أو حيازته بشكل نهائي من دون ردّه كاملًا، أو إعادة مبلغ مالي مماثل له في القيمة والعملة في الموعد المحدّد لذلك في وقت سابق.
2- ظهور مؤشّرات على إمكانية حدوث أزمة مالية في لبنان قبل سنتين ممّا حدث في 17 تشرين الأوّل 2019، وبالتالي سقوط عنصر المباغتة والمفاجأة الذي تولّده القوّة القاهرة لتنتفي معه حجّة التحصّن خلفها والتستّر وراءها، فضلًا عن أنّ المصرف كما كلّ القطاع المصرفي والعاملين في المجال المالي والإقتصادي ممتهنون ومحترفون وخبراء ومتخصّصون، وبالتالي، لا يمكنهم التذرّع بقوّة قاهرة، وحصول ما لم يكن في الحسبان، فيما عملهم اليومي يستوجب اتخاذ كلّ الإجراءات والتدابير المالية الصحيحة والسليمة لحماية المال المحفوظ لديهم إلى أجل محدّد، وقراءة المستقبل بحذر وانتباه، واستشراف الأحداث الكبيرة قبل وقوعها باستثناء ما هو خارج الحسبان والتوقّعات المنطقية ويفوق قدرات الإنسان بحيث يكون عندئذٍ، في حَلّ من الإلتزام بها وتنفيذها.
وما خلصت المحكمة إليه من نتيجة حتمية، مقنعٌ من الوجهة القانونية، إذ إنّ رفض المصرف تسليم المودع أمواله يشكّل “تعدّيًا واضحًا على حقّه المشروع، وخرقًا للدستور والقوانين الوضعية التي تحمي الملكيّة الفرديّة، ومخالفة لموجبات المصرف التعاقديّة المكرّسة في العقود المبرمة بين الطرفين”، وهذا يفضي إلى إلزامه بإعادة الأموال فورًا ونقدًا وليس بموجب شيكات مصرفية لا يعتدّ بها في الأزمات، وتفقد الكثير من قيمتها أيضًا.
على أنّ هيئة المحكمة وجدت أنّه انطلاقًا من العقد الموقّع بين المدعي والمصرف المدعى عليه والذي ينصّ على أنّه لا يجوز السحب بواسطة الشكات أو التحاويل تقيّدًا بالمادة 169 من قانون النقد والتسليف التي تمنع هذا التصرّف، فإنّه لا يمكن تحويل مبالغ مالية من حساب الإدخار للمدعي إلى حسابه الآخر المفتوح لدى مصرف خارج لبنان، وردّت طلبه وما أدلى به لهذه الناحية.
“محكمة” تنشر النصّ الكامل لهذا الحكم الفريد والأوّل من نوعه، وذلك على الشكل التالي:
باسم الشعب اللبناني
إنّ المحكمة الابتدائيّة في بيروت، الغرفة السادسة، الناظرة في القضايا الماليّة، والمؤلّفة من الرئيسة زلفا الحسن، والعضوين لارا كوزاك و برتا سماحة (منتدبة)،
لدى التدقيق والمذاكرة،
تبيّن أنّه بتاريخ 2020/10/26، تقدّم الدكتور جوزف سامي خليل، بواسطة وكيله الأستاذ أنطوان سامي خليل، باستحضار دعوى بوجه المدعى عليه البنك اللبناني السويسري، طلب بموجبه:
إلزام المدعى عليه بتسليم المدعي الوديعة العائدة له نقداً وبالعملة الأجنبيّة، أو في حال عدم توافر السيولة النقديّة، إلزامه بتحويلها إلى المدعي كاملة ومن دون تجزئة، على الحساب رقم/(…)/ المفتوح لدى مصرف DeutscheBank في ألمانيا، بموجب حوالة مصرفيّة Swift/Bic:DEUTDEDBROS، تحت طائلة إلزام المصرف بدفع غرامة إكراهيّة قدرها /30.000/ دولار أميركي عن كلّ يوم تأخير؛
تضمين المدعى عليه الرسوم والمصاريف كافة؛
وعرض المدعي في باب الوقائع أنّه يملك حساباً لدى المدعى عليه، البنك اللبناني السويسري – فرع جونيه، يتألّف من ثلاثة حسابات، الأوّل بالدولار الأميركي، رقمه /(…)/، ويتضمّن مبلغاً قدره /122.269.71/ دولارًا أميركيًا؛ والثاني باليورو، رقمه /(…)/، وفيه مبلغ قدره /20.957/ يورو، والثالث بالدولار الأميركي، رقمه /(…)/، ويتضمّن مبلغاً قدره /326.77/ دولارًا أميركيًا؛ وإنّ “مدة استحقاق جميع هذه الحسابات محرّرة بشكل شهري”؛ وأضاف المدعي أنّه انتقل للعيش في ألمانيا مع عائلته، حيث اشترى بتاريخ 2019/5/16 قطعة أرض يبلغ ثمنها مبلغاً قدره /162.750/ يورو، بغية بناء منزل عائلي عليها، كما استحصل على قرض مصرفي بتاريخ 2019/8/9 لإيفاء قيمتها، معتمداً بشكل أساسي على أمواله المدّخرة في حسابه لدى المصرف المدعى عليه لإيفاء القرض؛ وقد طالب المدعي المدعى عليه مراراً بتسليمه كامل أمواله، أو بتحويلها إلى حسابه المصرفي في ألمانيا، لإيفاء الديون والمستحقات المترتّبة في ذمّته لصالح مصرفي Debeka وDeutsche Bank، ومتعهّدي البناء، وقد تجاوز مقدارها قيمة الوديعة الكائنة لدى المصرف المدعى عليه؛ بيد أنّه منذ تاريخ 2019/10/17، لم يتمكّن المدعي من سحب سوى مبلغ قدره /800/ دولار أميركي من الحساب المذكور، وذلك خلال الأشهر الثلاثة التي تلي هذا التاريخ؛ وقد أرسل إلى المدعى عليه كتاباً بتاريخ 2020/4/17، عبّر له فيه عن حاجته الماسّة إلى تحويل أمواله، وأرفق به المستندات التي تؤيّد ذلك؛ غير أنّ المصرف المدعى عليه رفض الاستجابة لمطالب المدعي، ما أدى إلى تعثّر الأخير، بسبب ثقل الديون المترتبة في ذمّته لصالح المصارف في ألمانيا، بالإضافة إلى التزاماته تجاه متعهّدي بناء المنزل، وقد بلغت كلفة الأعمال المنجزة المستحقة في ذمّته لغاية تاريخه مبلغاً قدره /159.183/ يورو، وهي ثابتة بموجب عقود وفواتير وإنذارات؛ الأمر الذي يهدّد مصيره العائلي والمهني، ويعرّضه للملاحقة الجزائيّة والمدنيّة في ألمانيا؛ علماً أنّه منذ تاريخ 2020/3/14، وكلّ عشرة أيّام، يترتّب على المدعي مبلغ إضافيّ قدره /27.000/ يورو، يزاد على قيمة دينه المتوجّب للمصرف الألماني؛
وأدلى المدعي في باب القانون بوجوب إلزام المصرف المدعى عليه بردّ الوديعة إليه نقداً، أو بتحويلها بالكامل إلى حسابه في ألمانيا بالعملة الأجنبيّة، أي بالعملة ذاتها التي أودعها بها، سنداً للمادة /123/ من قانون النقد والتسليف، معطوفة على المادة /307/ من قانون التجارة، التي تلزم المصرف بردّ الوديعة بالعملة ذاتها عند طلب العميل مباشرة؛ وأضاف المدعي أنّ المادة /701/ من قانون الموجبات والعقود تلزم المصرف بتسليم الوديعة إلى المودع عند الطلب، دون تحديد ماهيّتها، سواء أكانت مبالغ ماليّة أو أسهم؛ وإنّه لا يمكن لتعاميم مصرف لبنان، أو للعقد المبرم بين المودع والمصرف، أن تنزل منزلة القانون أو تلغي أحكامه؛
وتبيّن أنّه بتاريخ 2020/11/10، تقدّم المدعي “بمذكّرة توضيحيّة تتضمّن مستندات”، أرفق بها كشوفات حساب رسميّة حديثة للحسابات الثلاثة العائدة له لدى المصرف المدعى عليه، وقد بلغ رصيد الحساب الأول مبلغاً قدره /123.044.42/ دولارًا أميركيًا، كما بلغ رصيد الحساب الثاني مبلغاً قدره /20.994/ يورو، أما الحساب الثالث فيتضمّن مبلغاً قدره /285.74/ دولارًا أميركيًا؛ وطلب المدعي الاستناد إلى هذه الكشوفات، وإلزام المدعى عليه بتحويل المبالغ الواردة فيها إلى حسابه في ألمانيا؛
وتبيّن أنّه بتاريخ 2021/4/19، تقدّم المدعى عليه البنك اللبناني السويسري ش.م.ل.، بواسطة وكيله الأستاذ مروان الجميّل، بلائحة جوابيّة أولى طلب فيها:
1- ردّ الدعوى في الشكل، إذا تبيّن أنّها لا تستوفي الشروط الشكليّة المفروضة قانوناً؛
2- ردّ الدعوى في الأساس، لعدم وقوعها في محلّها القانوني والواقعي؛
3- تضمين المدعي الرسوم والمصاريف كافة؛
وعرض المصرف المدعى عليه في باب الوقائع أنّ المدعي وقّع على “طلب فتح حساب توفير فردي لأجل” لديه، وهو ينصّ في صفحته الأولى على أنّه يجب على المدعي توقيع ” العقد العام” إذا كان يتعامل مع المصرف للمرّة الأولى، كما ينصّ على أنّه يجب الأخذ بأحكام العقد المذكور التي تبقى قائمة في كلّ ما لا يتعارض مع الطلب المشار إليه؛ وتبعاً لذلك وقّع المدعي على ” العقد العام ” بتاريخ 2014/4/29؛
وأدلى المدعى عليه في باب القانون بالأسباب التالية:
• إنّ رفض المصرف تحويل المبالغ إلى الخارج، أو تسليمها نقداً إلى المدعي، لم يكن يهدف إلى إلحاق الضرر بالأخير، بل كان تطبيقاً للمواد /20/ و/24/ و/25/ من ” العقد العام “، التي يحق للمصرف الاستناد إليها وفق المبدأ القانوني العقد هو شريعة المتعاقدين؛ وتنص المادة /24/ من العقد المذكور على أنّ المصرف غير مسؤول عن الأضرار التي قد تنتج عن اضطراب سير عمليّاته من جرّاء عوامل خارجة عن إرادته، ولا سيطرة له عليها؛ وإنّ الوضع السائد في لبنان منذ أكثر من ثلاثة أشهر ينطبق عليه مضمون هذه المادة؛ كما أنّ الفقرة (ج) من المادة /20/ تابع من “العقد العام” تنص على أنّ للمصرف الخيار متى يشاء، إذا ما دعت الحاجة، ودون الرجوع إلى المدعي، بأن يحوّل إلى العملة اللبنانيّة أو أي عملة أخرى، وبحسب سعر الصرف يوم التحويل، جميع أرصدة حسابات الأخير، بغض النظر عن طبيعة الحساب؛ وإنّه وفي ما خصّ الإيداعات الحاصلة بالعملة الأجنبيّة وبعمليّات النقد الأجنبي، إنّ المصرف غير ملزم بتأمين النقد الأجنبي، متى كان غير متوافر بنتيجة قرار من السلطات المختصّة أو لأي سبب آخر، ويمكنه رفض إجراء المقاصة بالنسبة للنقد الأجنبي، بحسب أحكام المادة /25/ من العقد ذاته؛
• إنّ أيّ عمليّة تحويل أموال إلى الخارج بطلب من العميل غير جائزة، ما لم تتطابق مع معايير المخاطر Risk Standard، سنداً للفقرتين (ج) و (د) الواردتين في الصفحة (12) من كتاب المعايير الدوليّة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والإنتشار، الصادر في شهر حزيران من العام 2019 عن فرقة العمل الماليّة المعنيّة بغسل الأموال FATF؛
• إنّ حسابات المدعى عليه بالعملات الصعبة المفتوحة خارج لبنان، هي كناية عن التزامات لغايات تشغيليّة مع المصارف المراسلة، وقد أصبحت القيود على تحريكها شبه مستحيلة بنتيجة الأوضاع الاستثنائيّة التي يمرّ بها لبنان؛ وإنّ إجراء أي تحويل من حسابات المصرف المدعى عليه خارج لبنان إلى مصارف أجنبيّة خارج لبنان يتطلّب موافقة دوائر الامتثال المصرفيّة، وقد أصبحت آليّة صارمة ومعقّدة، الأمر الذي قد يعرّض المصرف للمساءلة الشديدة من قبل المصارف المراسلة، التي قد تصل إلى فرض عقوبات عليه، أو حتى إقفال حساباته لديها؛ مع العلم أنّ المصرف يرفض 20% من مجموع طلبات تحويل الأموال إلى الخارج، بسبب رفض دائرة مكافحة تبييض الأموال لديه إجرائها، وللحؤول دون تعرّض علاقته بالمصارف المراسلة لأي شكوك أو شبهة؛
• إنّه لا يجوز للمدعي إجراء التحاويل إلى الخارج، إذ إنّ “حساب التوفير الفردي لأجل” له شروط وخصائص، وأهمّها أنّه لا يجوز السحب منه بواسطة الشيكات أو التحاويل، سنداً للبند (2) “تحريك الحساب” من “طلب فتح حساب توفير فردي لأجل” الذي وقّعه المدعي، الأمر الذي يبرّر رفض المصرف إجراء التحويل؛
• إنّ المدعى عليه لم يعتد إجراء التحويلات لمصلحة المدعي لتسديد ثمن قطعة أرض، علماً أنّ ذلك لا يرتبط بتأمين حقوق أساسيّة وحيويّة عائدة للأخير، وبالتالي لا يمكن إدراج رفض المصرف في خانة التعدي على حقوق المدعي؛ وقد صدر قرار عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت قضى بردّ الدعوى التي أقامها المدعي بوجه المصرف في هذا الإطار؛
• إنّ حسابات المدعى عليه بالعملات الصعبة لدى مصرف لبنان هي مليئة، ما يسمح له بأن يسدّد للمدعي المبالغ التي يطالب بها بموجب شكات مصرفيّة مسحوبة لأمره على مصرف لبنان بالدولار الأميركي أو باليورو، عملاً بالمادتين /249/ و/293/ من قانون الموجبات والعقود، إذ يكون التنفيذ قد تمّ بين يديّ المدعي الدائن وفق ما يطالب به؛ وإنّ المدعى عليه على استعداد لفعل ذلك متى شاء المدعي؛
وتبيّن أنّه بتاريخ 2021/5/11 تقدّم المدعي بلائحة جوابيّة أولى كرّر فيها أقواله ومطالبه السابقة كافة لجهة تسليمه الوديعة أو تحويلها إلى الخارج، وأضاف أنّه يرفض أيّ شك مصرفي، إذ لا يمكنه الاستفادة منه في الخارج؛ وطلب إصدار القرار معجّل التنفيذ ونافذاً على أصله؛
وعرض المدعي أنّه ترتّبت على عاتقه التزامات وديون إضافيّة؛ وبسبب تمنّع المدعى عليه عن تحويل وديعته، استحصل المدعي بتاريخ 2021/3/31 على قرض شخصي من المصرف الألماني لإيفائها؛ وقد تراكمت فوائد عالية على عاتقه، إذ بلغت قيمتها /971.36/ يورو شهرياً، نظراً لعدم قدرته على التسديد، بنتيجة حجز المدعى عليه أمواله ورفض تحويلها له من دون وجه حق؛
وأدلى المدعي، ردّاً على الأسباب التي أدلى بها المدعى عليه، بما يلي:
• لجهة إدلاء المدعى عليه برفضه تسليم الأموال أو تحويلها تطبيقاً لمواد “العقد العام”:
– أدلى المدعي بأنّ قيامه بفتح حساب التوفير لأجل رقم /160337/ بتاريخ 2014/12/13، لم يكن التعامل الأوّل بينه وبين المدعى عليه؛ بل سبقه فتح حساب بتاريخ 2013/12/27 يحمل الرقم /160212/، وبالتالي يكون شرط التعامل مع المصرف للمرّة الأولى الذي يوجب توقيع “العقد العام” غير متوافر، ما يجعل العقد الأخير كأنّه لم يكن؛
– وإنّ “العقد العام” يتناول العلاقة بين المصرف والعميل في ما يتعلّق فقط بمسألتي الخدمات أو التسهيلات التي يقدّمها المصرف ويستفيد منها العميل، بحسب ما جاء في مقدّمة هذا العقد، التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ منه؛ في حين أنّ علاقة المدعي بالمدعى عليه ليست ديناً أو قرضاً أو تسهيلات أو طلباً للاستفادة من أي خدمة أخرى يقدّمها المصرف، بل هي عقد فتح حساب ودائع لأجل محدّد؛ وإنّ موضوع الدعوى الراهنة يتعلّق بالتعدي الواضح على حق المدعي الثابت، وليس بأي قرض أو تسهيلات أو خدمات؛ وبالتالي يكون تمسّك المدعى عليه بـ”العقد العام” غير واقع في محلّه القانوني الصحيح، لعدم تعلّق العقد المذكور بالنزاع الراهن، ولعدم تأثيره على حق المدعي في استعادة وديعته كاملة متى شاء، والمطالبة بها أمام القضاء؛
– وإنّ المادة /20/ تابع من “العقد العام” تتناول مسألة وحدة الحساب، التي يعود بموجبها للمصرف التصرّف بكامل حسابات العميل، وتحويل رصيدها إلى العملة اللبنانيّة أو سواها، وذلك بهدف تسديد دين أو التزام على عاتق الأخير، كأن يحوّل المصرف مبلغاً من حساب دائن إلى حساب مدين، ولا تعني حقه في التصرف بملك غيره؛ وقد اجتزأ المدعى عليه مضمون هذه المادة وحوّر مفهومها؛ وإنّ تمسّكه بها غير واقع في موقعه القانوني الصحيح، لخروجها عن موضوع الدعوى الراهنة؛
– وإنّ شروط المادة /24/ من “العقد العام” غير متوافرة، لعدم توافر أركان القوة القاهرة أو الظروف الخارجة عن إرادة المصرف، التي تبرّر عدم تحويل وديعة المدعي بالعملة الأجنبيّة، التي أرسلها الأخير سابقاً من الخارج؛
– وإنّ المادة /25/ من “العقد العام”، المتعلّقة بالإيداعات الحاصلة بالعملة الأجنبيّة، تنص في الفقرة (ب) منها على أنّه ” يتمّ السحب بالعملات الأجنبيّة إما بتحويل مصرفي يصدر عن البنك، وإما بتحويلات بتلك العملات الأجنبيّة الصادرة بناء على طلب الفريق الثاني”؛ ما يدلّ على اعتراف المصرف مسبقاً بقانونيّة التحاويل من الحساب؛ غير أنّ المدعى عليه قد اجتزأ نصّ المادة /25/ المذكورة وحوّر مفهومها؛ وإنّ الفقرة (أ) منها تتعلّق بمزج العملات الأجنبيّة بعملات أجنبيّة مماثلة يملكها المصرف، وليس بالليرة اللبنانيّة؛ أما الفقرة (ج)، فلا مجال لتطبيق مضمونها، إذ إنّ الدولار الأميركي واليورو هما عملتان قابلتان للتصرف؛ ولا يصحّ تطبيق الفقرة (ه) من المادة ذاتها لعدم وقوعها في موقعها القانوني الصحيح، ولعدم تعلّقها بموضوع الدعوى الراهنة؛ فإنّه لا يمكن لأي تعميم أو قرار أن يعلو على الدستور والقانون، كما أنّه ليس ثمّة أي قانون أو قرار أو مرسوم أو توصية صادرة عن أي سلطة في لبنان، تمنع تحويل ودائع العملاء بالعملات الأجنبيّة لدى المصارف إلى الخارج؛ وإنّ تصرّف المدعى عليه وسائر المصارف يعدّ تعدّياً واضحاً على الحق، وجرم إساءة الإئتمان؛ فضلاً عن أنّه لا حاجة إلى إجراء مقاصة، فالوديعة موجودة أصلاً بالعملة الأجنبيّة، فيما المقصود بالفقرة (ه) خيار المصرف بعدم إجراء مقاصة عند عدم توافر النقد الأجنبي، عندما يطلب العميل شراء عملة أجنبيّة، الأمر الذي يخرج عن موضوع الدعوى؛ ما يوجب ردّ تمسّك المدعى عليه بالمادة /25/ المذكورة لعدم قانونيّته؛
– وإنّ المادة /66/ والأخيرة من “العقد العام” تنص على أنّه حرّر على نسخة أصليّة واحدة وقّعها الطرفان؛ وبالتالي لا ينزل هذا العقد منزلة العقد المتبادل الذي يستوجب نسختين، واحدة لكلّ طرف؛ ما يجعل منه بدء بيّنة خطيّة غير ملزمة للمحاكم؛
لجهة إدلاء المدعى عليه بعدم جواز سحب الشكات أو إجراء التحاويل من “حساب التوفير لأجل”:
أدلى المدعي بأنّه من المسلّم به أنّه لا يجوز السحب من “حساب التوفير لأجل” بواسطة الشكات والتحاويل، لأنّه يشكّل وديعة مجمّدة لأجل؛ غير أنّه عند حلول تاريخ الاستحقاق الشهري، تصبح الوديعة حرّة، ويجوز تحويلها إلى حساب المدعي في ألمانيا، وذلك عبر تحويلها أولاً إلى حسابه الجاري لدى المدعى عليه، ثمّ تحويلها إلى الخارج؛ علماً أنّه تمّ إيداعها أساساً لدى الأخير بالطريقة ذاتها، أي عبر تحويلها من حساب المدعي في الخارج إلى حساب جارٍ بالعملة الأجنبيّة، ثم إيداعها في حساب توفير؛
• لجهة إدلاء المدعى عليه بوجوب تطابق عمليّة التحويل مع معايير المخاطر:
أدلى المدعي بوجوب ردّ إدلاءات المدعى عليه لناحية تطبيق معايير المخاطر Risk standard، وتوصيات فرقة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب FATF ، لعدم وقوعها في مكانها القانوني الصحيح؛ ذلك أنّ الأحكام المذكورة تخرج عن موضوع النزاع، ولا تشكل عائقاً يحول دون تحويل الوديعة إلى المدعي؛ إذ إنّ الأخير هو طبيب جرّاح ذو سمعة حسنة، وقد تأكّد المدعى عليه لدى فتح الحساب له من عدم إدراج اسمه على لائحة تهريب الأموال أو غسلها أو الإرهاب، الواردة على البرنامج الكائن لدى المصرف؛ وباستطاعة الأخير فعل ذلك مجدّداً للتأكد من قانونيّة عمليّة التحويل التي يطالب بها المدعي؛ وإنّ المدعى عليه قد تبلّغ كتاب الإنذار بتاريخ 2020/4/17، كما تبلّغ أوراق الدعوى الراهنة، ما منحه الوقت الكافي للتأكد من عدم وجود أي عائق مرتبط بالمدعي أو بحساباته، يمنعه من تحويل الوديعة إلى الخارج؛
• لجهة إدلاء المدعى عليه بوجود قيود على تحويل الأموال من حساباته بالعملات الأجنبيّة خارج لبنان:
أدلى المدعي بأنّ المدعى عليه مليء بالدولار الأميركي وباليورو لدى المصارف الأجنبيّة التي يتعامل معها في الخارج، وقد أودع فيها باسمه مبالغ ماليّة كبيرة بالعملة الأجنبيّة؛ كما أنّ أعضاء مجلس إدارته قاموا بتحويل مبالغ ضخمة إلى حساباتهم الكائنة لدى مصارف أجنبيّة، ولا سيّما أوروبيّة، بعد تاريخ 2019/10/17، وحتى خلال الأشهر الأربعة الأخيرة؛
• لجهة إدلاء المدعى عليه بأنّ التحويل غير مرتبط بحقوق أساسيّة وحيويّة عائدة للمدعي:
أدلى المدعي بأنّه لم يطالب المدعى عليه أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت بتسديد ثمن الأرض، بل بسلفة على حساب فواتير والتزامات عقديّة وقضائيّة ومصرفيّة؛ وإنّ قرار الأخير القاضي بعدم الاختصاص، وباعتبار أنّ ديون المدعي ليست أموراً حيويّة، ولا يمكن تعويضها أو حمايتها، هو جائر ومخالف للقانون؛ كما أنّه قرار مؤقّت، وبالتالي لا يتمتّع بقوّة القضيّة المحكوم بها أمام المحكمة الراهنة الناظرة في أساس النزاع؛ فضلاً عن أنّه موضوع طعن تقدّم به المدعي أمام محكمة الاستئناف في بيروت؛
وتبيّن أنّه في الجلسة الختاميّة المنعقدة بتاريخ 2021/12/16، حضر وكيل المدعي، ولم يحضر وكيل المصرف المدعى عليه، بالرغم من تبلّغ الأخير موعد الجلسة أصولاً؛ وتبيّن أنّ الجلسة السابقة كانت قد أرجئت لإعادة إبلاغه تحت طائلة محاكمته، بعدما صرّح وكيل المدعي بأنّ ثمّة عجلة قصوى في الملفّ؛ فقرّرت المحكمة بناء لطلب الأخير، محاكمة المدعى عليه أصولاً؛ وكرّر وكيل المدعي أقواله ومطالبه السابقة، واختتمت المحاكمة؛
بناء عليه
حيث إنّ المدعي، الدكتور جوزف سامي خليل، يطلب إلزام المدعى عليه، البنك اللبناني السويسري، بتسليمه الوديعة العائدة له نقداً وبالعملة الأجنبيّة، أو في حال عدم توافر السيولة النقديّة، إلزامه بتحويلها كاملة ومن دون تجزئة، إلى حسابه رقم /(…)/ المفتوح لدى مصرف DeutscheBank في ألمانيا، بموجب حوالة مصرفيّة Swift/Bic:DEUTDEDBROS، تحت طائلة إلزام المصرف بدفع غرامة إكراهيّة قدرها /30.000/ دولار أميركي عن كلّ يوم تأخير؛ ويدلي المدعي بأنّ المصرف ملزم بردّ الوديعة بالعملة ذاتها عند طلب العميل، سنداً للمادة /123/ من قانون النقد والتسليف، معطوفة على المادة /307/ من قانون التجارة، والمادة /701/ من قانون الموجبات والعقود؛ ويضيف أنّه لا يمكن لتعاميم مصرف لبنان، أو للعقد المبرم بين المودع والمصرف، أن تنزل منزلة القانون أو تلغي أحكامه؛
وحيث إنّ المدعى عليه، البنك اللبناني السويسري ش.م.ل.، يطلب ردّ الدعوى، ويدلي بأنّه يرفض تحويل أموال المدعي إلى الخارج أو تسليمها إليه نقداً، تطبيقاً للمواد /20/ و/24/ و/25/ من “العقد العام”، وللمبدأ القانوني العقد هو شريعة المتعاقدين؛ وسنداً للبند (2) من “طلب فتح حساب توفير فردي لأجل”، الذي ينصّ على أنّه لا يجوز للمدعي السحب منه بواسطة الشيكات أو إجراء التحاويل؛ ويضيف المدعى عليه أنّ أيّ عمليّة تحويل أموال إلى الخارج بطلب من العميل غير جائزة، ما لم تتطابق مع معايير المخاطر Risk Standard؛ كما أنّ أي تحويل من حسابات المدعى عليه بالعملات الصعبة خارج لبنان إلى مصارف أجنبيّة في الخارج يتطلّب موافقة دوائر الامتثال المصرفيّة، وقد أصبحت آليّة صارمة ومعقّدة بنتيجة الأوضاع التي يمرّ بها لبنان؛ فضلاً عن أنّ التحويل المذكور لا يرتبط بتأمين حقوق أساسيّة وحيويّة عائدة للمدعي؛ ويعرض المدعى عليه تسديد المبالغ التي يطالب بها المدعي بموجب شكات مصرفيّة مسحوبة لأمره على مصرف لبنان بالدولار الأميركي أو باليورو، عملاً بالمادتين /249/ و/293/ من قانون الموجبات والعقود؛
وحيث إنّ المدعي يرفض تسليمه شكات مصرفيّة، إذ لا يمكنه الاستفادة منها في الخارج؛ ويدلي بأنّ “العقد العام” يتعلّق فقط بمسألتي الخدمات أو التسهيلات التي يقدّمها المصرف للعميل، في حين أنّ النزاع الراهن يتعلّق بعقد فتح حساب ودائع لأجل محدّد؛ ما يجعل تمسّك المدعى عليه بالعقد الأوّل غير واقع في موقعه القانوني الصحيح؛ كما أنّ المواد /20/ و/24/ و/25/ من العقد المذكور التي يتذرّع بها المدعى عليه، تخرج عن موضوع الدعوى الراهنة؛ فضلاً عن أنّ معايير المخاطر Risk standard، وتوصيات فرقة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهابFATF ، تخرج أيضاً عن موضوع النزاع، ولا تشكل عائقاً يحول دون تحويل الوديعة إلى المدعي؛ ويضيف الأخير أنّه عند حلول تاريخ الاستحقاق الشهري لحساب التوفير لأجل، تصبح الوديعة حرّة، فيجوز تحويلها إلى حسابه في ألمانيا؛ وإنّ حسابات المدعى عليه بالدولار الأميركي وباليورو مليئة لدى المصارف الأجنبيّة التي يتعامل معها في الخارج؛
وحيث إنّه يتبيّن ممّا تقدّم أنّه يقتضي البحث في مدى حق المدعي في سحب أمواله المودعة في حساب إدخار لأجل نقداً، أو في تحويلها إلى حسابه المصرفي خارج لبنان؛
وحيث إنّه ومن ناحية أولى، إنّ حساب التوفير أو الإدخار compte épargne هو حساب مصرفي ذات طبيعة خاصة، ويشكّل نوعاً خاصاً من حسابات الودائع النقديّة، وبالتالي تطبّق عليه القواعد العامة المتعلّقة بهذه الحسابات؛ كما أنّ المشترع نظّم أحكاماً خاصة بهذا الحساب في المواد /166/ وما يليها من قانون النقد والتسليف (خلافاً للحسابات المصرفيّة الأخرى التي تناولها في قانون التجارة)؛ (يراجع بهذا المعنى: ادوار عيد، العقود التجاريّة وعمليّات المصارف، 1968، ص 510 وما يليها).
وحيث إنّ المادة /166/ من قانون النقد والتسليف تنصّ على أنّه للمصارف أن تتلقى ودائع إدخار من أشخاص حقيقيّين أو من جمعيّات لا تستهدف الربح؛ وتكون الغاية منها تكوين رأسمال للمودع عن طريق الإدخار بحسب المادة /167/ من القانون ذاته؛ ويؤدّي فتح حساب إدخار إلى قيام المصرف بتسليم المودع دفتراً شخصياً يكون بمثابة سند دين له، غير قابل للانتقال بالتفرّغ أو التظهير؛ ويتم إيداع المبالغ في الحساب أو سحبها منه بعد إبراز الدفتر المذكور للدائرة التي أصدرته، فتدوّن فيه العمليّات المذكورة، وفق المادتين /168/ و /169/ فقرة أولى من القانون المذكور؛
وحيث إنّ المادة /307/ من قانون التجارة المتعلّقة بحسابات الودائع النقديّة لدى المصارف تنصّ في فقرتها الأولى على أنّ المصرف الذي يتلقّى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له، ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدّة دفعات، عند أوّل طلب من المودع، أو بحسب شروط المهل أو الاعلان المسبق المعيّنة في العقد؛
وحيث إنّه يتبيّن ممّا تقدّم أنّ حساب الوديعة النقديّة يكسب المصرف ملكيّة النقود المودعة لديه، فيكون له أن يتصرّف بها، أو يستعملها في أي غرض يريده، شرط أن يردّ مبلغاً مماثلاً إلى المودع لدى طلب الأخير، أو عند الأجل المتّفق عليه في العقد؛ وبالتالي يعتبر عقد فتح حساب الادخار بمثابة عقد قرض، بحيث يكون المصرف (بمثابة المقتَرِض) مديناً للعميل (بمثابة المقرِض) بقيمة الوديعة النقديّة، أي برصيد حساب الإدخار، ويلزم بردّه إلى الأخير في الموعد المتفق عليه؛ (يراجع بهذا المعنى: مصطفى كمال طه، العقود التجاريّة وعمليّات البنوك (دراسة مقارنة)، منشورات الحلبي الحقوقيّة، الطبعة الأولى، 2006، ص151 وما يليها).(محكمة التمييز المدنية، الغرفة الثانية، قرار نقض رقم 1، تاريخ 12/12/2013، منشور في صادر في التمييز المدني، 2013).
وحيث إنّه وفي ضوء ما تقدّم، يكون المصرف المدعى عليه مديناً للمدعي برصيد حساب الإدخار العائد للأخير، ويتوجّب عليه إعادة مبلغ مماثل إليه في الموعد المتفق عليه؛
وحيث إنّ المصرف المدعى عليه يتذرّع بالوضع السائد في لبنان، وبمضمون المادة /24/ من “العقد العام”، لتبرير رفضه تسليم المدعي أمواله؛ في حين أنّ الأخير يدلي بأنّ شروط هذه المادة غير متوافرة، لعدم توافر أركان القوة القاهرة أو الظروف الخارجة عن إرادة المصرف؛
وحيث إنّه يقتضي معرفة ما إذا كانت شروط القوة القاهرة متوافرة في الأزمة الاقتصاديّة السائدة حاليّاً في لبنان، وبالتالي تؤدّي إلى سقوط موجب المصرف لاستحالة تنفيذه سنداً للمادة /341/ من قانون الموجبات والعقود، ما يبرّر امتناع المدعى عليه عن ردّ الوديعة إلى المدعي؛
وحيث إنّ القوّة القاهرة هي حدث مفاجئ خارج عن إرادة الإنسان، يتّصف باستحالة توقّعه ودفعه، ما يحول دون إمكانيّة قيام المدين بتنفيذ موجباته، الأمر الذي يحرّره من تنفيذها، ومن مسؤوليّة عدم التنفيذ؛
وحيث إنّ الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة لم تكن حدثاً مفاجئاً على العاملين في القطاع المصرفي، إذ إنّ هناك العديد من المؤشّرات التي كانت تنبئ بحصولها منذ أكثر من سنتين، فضلاً عن أنّ خبراء واختصاصيّين عدة في العلوم الماليّة والاقتصاديّة والشؤون المصرفيّة حذّروا من حدوثها؛ بحيث إنّه كان من المفترض على جميع المصارف توقّع حصول الأزمة مسبقاً، ووضع آلية تؤدّي إلى تدارك نتائجها، بصفتهم من الممتهنين والمتخصّصين في هذا المجال، ومن أوّل المطّلعين على كلّ ما يطرأ على الوضع المالي والاقتصادي في البلاد؛ علماً أنّ المصرف المدعى عليه لم يقدّم الدليل الكافي في الملف على توافر عناصر القوة القاهرة؛
وحيث وفضلاً عن ذلك، ينتظر من المصرف أكثر ممّا يتوقّع من فرد عادي ولو كان حريصاً، ويدخل في مهامه توجيه أصحاب الودائع لديه وحماية مصالحهم على أموالهم وصيانتها وتحذيرهم من المخاطر التي قد تصيب حقوقهم وأموالهم، وبالتالي اتخاذ كافة التدابير الكفيلة لصون حقوقهم، بحيث إن ثقة العميل بالمصرف تصل الى درجة اليقين، وذلك إنطلاقاً من مبدأ المحافظة على أموال المودعين وردها بقيمة تعادلها الى أصحابها؛
وحيث إنّه وتأسيساً على ما تقدّم، لا تكون للأزمة الراهنة التي يمرّ بها لبنان شروط ومواصفات القوة القاهرة التي تعفي المصرف من التزاماته تجاه العميل؛ وبالتالي لا تبرأ ذمّة المدعى عليه من التزامه بردّ المبالغ المودعة لديه للمدعي، إذ يبقى مديناً للأخير بقيمة الوديعة أو رصيد حساب الادخار؛ ما يوجب ردّ إدلاءات المدعى عليه المتعلّقة بالمادة /24/ من “العقد العام”، والمخالفة لهذا التوجّه؛
يراجع بهذا المعنى:
Charles FABIA et Pierre SAFA, Code de Commerce Libanais Annoté, Maison d’édition juridique Sader, Tome III, art. 307, no. 54
وحيث إنّه ومن ناحية ثانية، تنصّ المادة /169/ من قانون النقد والتسليف على أنّه يُمنع سحب المبالغ من حساب الإدخار بواسطة الشكات أو التحاويل؛
وحيث إنّه وبالعودة إلى طلبي فتح حساب التوفير الفردي لأجل، اللذين وقّعهما المدعي بتاريخ 2014/12/20 و 2018/11/15، يتبيّن أنّهما يتضمّنان الأحكام ذاتها التي تنص عليها المادة /169/ المذكورة، إذ هما ينصّان صراحةً في البند “2- تحريك الحساب” على أنّه ” لا يجوز السحب بواسطة الشكات أو التحاويل “؛
وحيث وإنّه في ضوء ما تقدّم، لا يكون من الجائز تحويل المبالغ الماليّة من حساب الإدخار العائد للمدعي لدى المصرف المدعى عليه إلى حسابه المفتوح خارج لبنان، ما يوجب ردّ طلب المدعي لهذه الجهة؛
وحيث إنّ المدعى عليه يعرض تسديد المبالغ التي يطالب بها المدعي بموجب شكات مصرفيّة مسحوبة لأمر الأخير على مصرف لبنان بالدولار الأميركي أو باليورو، عملاً بالمادتين /249/ و/293/ من قانون الموجبات والعقود؛ في حين أنّ المدعي يرفض تسليمه شكات مصرفيّة، لأنّه لا يمكنه الاستفادة منها في الخارج؛
وحيث إنّ الشك هو وسيلة إيفاء لدى الاطلاع، تقوم مقام النقود في التعامل؛ وإنّ الشك المصرفي يعتبر بمثابة الشك العادي من حيث مندرجاته، غير أنّه يصدر عن المصرف بناء على طلب الأخير أو طلب عميله، ويكون المستفيد منه الساحب نفسه أو أي شخص آخر طبيعي أو معنوي، فيما يكون المسحوب عليه مصرف لبنان، أو المركز الرئيسي للمصرف أو أحد فروعه، سنداً للفقرة الأخيرة من المادة /414/ من قانون التجارة؛
يراجع بهذا المعنى:وائل الدبيسي، العمل المصرفي في لبنان من الوجهة القانونيّة، الجزء الثاني: العمليّات المصرفيّة، بيروت 2017، ص 60.
وحيث إنّه انطلاقاً ممّا تقدّم، وفي ضوء أحكام المادة /169/ من قانون النقد والتسليف، المكرّسة في البند (2) من كلّ من طلبي فتح حساب التوفير المذكورين، لا يصحّ سحب الأموال من حساب الإدخار العائد للمدعي بواسطة شكات، سواء أكانت شكات عاديّة أو مصرفيّة، فيقتضي ردّ إدلاءات المدعى عليه لهذه الناحية؛
وحيث إنّه ومن ناحية ثالثة، لم يصدر أي قانون يضع قيوداً على سحب الودائع نقداً لغاية تاريخه؛ وإنّ قانون النقد والتسليف لم يضع أيّ شرط أو قيد على سحب المبالغ نقداً من حساب الادخار لأجل، بل ينصّ في المادة /170/ منه على أنّه للمصارف أن تحدّد الشروط الأخرى التي تفتح بموجبها حسابات الادخار؛ وبالتالي يكون من الجائز سحب الأموال من الحساب المذكور نقداً عند آجال الاستحقاق، وذلك عبر إبراز دفتر التوفير وفق ما جرى بيانه، ما لم ينص العقد المبرم بين العميل والمصرف صراحةً على خلاف ذلك؛
وحيث إنّ ما يعزّز هذا القول، هو أنّ المصرف مؤتمن ضروري على حقوق الزبون ومصالحه، وإنّه يجب أن تخضع المصارف لأوامر الزبون بشأن وديعته بما يتوافق مع القانون وأحكام العقد المبرم مع المصرف؛ مع التأكيد في هذا السياق على أن المحكمة تبحث في كل قضية معروضة عليها على حدة وبحسب الوقائع والمستندات المتوفرة فيها، لا سيما وكما سبق القول في ضوء الاحكام القانونية التي ترعاها وأحكام العقد الذي يجمع طرفي النزاع؛
وحيث إنّه وبالعودة إلى أوراق الملفّ، يتبيّن للمحكمة ما يلي:
– إنّ طلبي فتح حساب التوفير الفردي لأجل ينصّان في البند “2- تحريك الحساب” على أنّه ” لا يمكن إجراء عمليّات السحب والإيداع إلا عند تقديم دفتر التوفير…” و ” إذا أجاز الفريق الثاني (المصرف) للفريق الأوّل (العميل) أن يسحب وديعته لأجل كلّها أو بعضها قبل الاستحقاق، فللفريق الثاني أن يلزم الفريق الأوّل بأن يدفع له فرق فائدة…”؛
– إنّ تاريخ استحقاق الحساب محدّد في البند ” 5- الفائدة وتجميد حساب التوفير لأجل ” في كلّ من العقدين، وهو قابل للتجديد وفق الأحكام المذكورة في هذا البند؛
– إنّ طلبي فتح حساب التوفير الفردي لأجل لم يتضمّنا أيّ شروط أو قيود أخرى على سحب الأموال نقداً من حساب الادخار؛
– إنّ “العقد العام” الذي وقّعه المدعي بتاريخ 2014/4/29 – ويتضمّن أحكاماً عامة تنظّم العلاقة بين المصرف والعميل، وتحدّد الإطار العام للتعامل القائم بينهما – ينصّ في المادة (6) منه على أنّه “إذا كان للفريق الثاني (العميل) حساب مودع لأجل ولم يتلق “البنك” بشأنه أية تعليمات من الفريق الثاني خلال الأسبوع الذي يسبق الاستحقاق يعتبر الحساب مجمداً لفترة مماثلة…”؛ وإنّ العقد المذكور لا ينصّ على أيّ شروط أو قيود أخرى على عمليّة سحب الأموال نقداً من حساب الادخار لأجل؛
– إنّ العقد العام وفي سائر بنوده لا يطبّق على العلاقة المنبثقة عن فتح حساب الادخار بين الفريقين، وهو يتضمّن أحكاماً ترعى علاقتهما في أمور مصرفية أخرى؛
وحيث إنّه يستفاد ممّا تقدّم أنّه يحق للمدعي أن يسحب كامل الأموال المودعة في حساب الإدخار العائد له نقداً عند تاريخ الاستحقاق ودون أيّ قيد، شرط أن يعلم المصرف مسبقاً بذلك، ويبرز دفتر التوفير عند إجراء السحب؛
وحيث وفي الحالة الراهنة إنّ حق العميل في استرداد وديعته النقديّة ثابت وأكيد، بمعزل عن سبب هذا الاسترداد والغاية منه؛ إذ ليس للمصرف التقصّي عن مدى حاجة العميل إلى المال، أو سبب قيامه بسحب أمواله، سواء أكان ذلك بهدف تأمين حقوق أساسيّة وحيويّة عائدة للأخير أم غيرها من الحاجات؛ وبالتالي لا شأن للمصرف المدعى عليه بوجهة استعمال الأموال المودعة لديه والمراد سحبها، فإنّ حق المدعي في سحبها أكيد ومشروع في جميع الأحوال؛ علماً أنّ الأخير يعمل أساساً خارج لبنان، ويفترض أنّه أرسل الأموال سابقاً من الخارج لإيداعها لدى المدعى عليه؛
وحيث إنّه وفي ضوء مجمل ما تقدّم، يعتبر رفض المصرف المدعى عليه تسليم المدعي رصيد حسابه تعدّياً واضحاً على حقّه المشروع، وخرقاً للدستور والقوانين الوضعية التي تحمي الملكيّة الفرديّة، ومخالفة لموجبات المصرف التعاقديّة المكرّسة في العقود المبرمة بين الطرفين؛ الأمر الذي يوجب إلزام المدعى عليه بتسليم المدعي كامل رصيد حساب الإدخار الذي يطالب به نقداً وعند الاستحقاق، تحت طائلة غرامة إكراهيّة قدرها /30.000.000/ ليرة لبنانيّة عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ، سنداً للمادة /569/ من قانون أصول المحاكمات المدنيّة؛
وحيث إنّه وتأسيساً على ما تقدّم، لم يعد ثمّة حاجة للبحث في سائر الأسباب والمطالب الزائدة أو المخالفة، إمّا لعدم تعلّقها بموضوع النزاع الراهن، وإمّا لكونها لقيت ردّاً ضمنياً في ما جرى بيانه، فيقتضي ردّها، بما فيها طلب المدعي إصدار الحكم معجّل التنفيذ ونافذاً على أصله، لانتفاء ما يبرّره؛ ولا سيّما تلك المتعلّقة بالقرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة كونه لا يتعلّق بأصل الحقّ، ولا يتمتّع بحجيّة القضيّة المقضيّة، ولا يقيّد محكمة الأساس؛
لذلك
تحكم بالإجماع:
أولّاً: بإلزام المدعى عليه البنك اللبناني السويسري ش.م.ل. بتسليم المدعي الدكتور جوزف سامي خليل كامل رصيد حساب الإدخار الذي يطالب به نقداً وعند الاستحقاق، أيّ رصيد الحساب الأوّل وقدره مائة وثلاثة وعشرون ألفاً وأربعة وأربعون دولاراً أميركياً واثنان وأربعون سنتاً (123.044.42)، ورصيد الحساب الثاني وقدره عشرون ألفاً وتسعمائة وأربعة وتسعون يورو(20.994)، ورصيد الحساب الثالث وقدره مائتان وخمسة وثمانون ألف دولار أميركي وأربعة وسبعون سنتاً(285.74)؛ وذلك تحت طائلة غرامة إكراهيّة قدرها ثلاثون مليون ليرة لبنانيّة (30.000.000) عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ؛
ثانياً: بردّ كلّ ما زاد أو خالف من المطالب والأسباب؛
ثالثاً: بتضمين المدعى عليه الرسوم والنفقات القانونية كافة؛
حكماً صدر وأفهم علناً في بيروت بتاريخ 2022/2/3
(نشر هذا الحكم في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 52 الصادر في آذار 2022).
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/5/3
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.