إستقالة عدد كبير من القضاة لم تحصل والإستيداع مرفوض/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ليس صحيحًا على الإطلاق، أنّ هناك عددًا من القضاة لا من الجيل الجديد ولا من الجيل العتيق ولا من ذوي الدرجات الوسطى في التراتبية المعمول بها في القضاء العدلي، قدّم لمجلس القضاء الأعلى أو وزارة العدل طلبًا لإنهاء خدمتهم بحثًا عن فرصة عمل أخرى خارج لبنان، واعتراضًا على تدنّي الرواتب الشهرية، في ظلّ الوضع الإقتصادي والمعيشي السيئ والمنهار في “بلد الأرز” و”مرقد العنزة” و”قطعة سما”، وغيرها من المواويل والموشّحات التي لا تطعم خبزًا ولا تطمئن بالًا ولا تحقّق آمالًا وأحلامًا وتطلّعات.
كما أنّه ليس صحيحًا أنّ هناك قضاة رفعوا لمجلس القضاء الأعلى طلبات استيداع تخوّلهم ترك القضاء فترة من الزمن قد تصل إلى سنة واحدة، والعمل في دول النفط والخليج العربي وكندا والولايات المتحدة الأميركية، ثمّ العودة إلى لبنان لممارسة وظيفتهم القضائية بشكل اعتيادي.
وبالتالي ما كتب في هذا الخصوص، وما قاله النائب القاضي السابق جورج عقيص في تغريدة له عبر حسابه الخاص على “تويتر”، لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، ويحمل في طيّاته نوعًا من المبالغة.
الإستيداع مرفوض
ويعرف القضاة أنّ هناك قرارًا حازمًا صدر عن مجلس القضاء الأعلى منذ مدّة زمنية لا بأس بها، بمنع قبول أيّ طلب استيداع ومهما كانت الأسباب والذرائع والمسوّغات، وليس أمام القاضي الراغب في وضع نفسه في الإستيداع إلاّ أن يقدّم كتابًا بالإستقالة نهائيًا، وهو الباب الوحيد المفتوح والمتاح أمامه، على أن تحسب له سنوات الخدمة ويتقاضى تعويضًا، وينتقل من صفوف العاملين إلى ضفّة المستقيلين أو المتقاعدين.
إغراءات الإمارات
وسبق للقضاء العدلي أن شهد قبل سنوات عديدة وتحديدًا في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، “هجمة” غير مسبوقة من قضاة كانوا في الدرجات الصغيرة والوسطى، على اللجوء إلى اغتنام الإستيداع والإستفادة منه قدر المستطاع وذلك بغية تجربة حظّهم في العمل في الدول العربية، وتحديدًا في دولة الإمارات العربية المتحدة، وجني رواتب مالية مغرية وحياة مختلفة تتوافر فيها مقوّمات العيش الكريم والبنية التحتية له من ماء وكهرباء وهواء وبعيدًا عن نكد السياسة اللبنانية وصراعات التصريحات والخطابات والنفوذ والإملاءات الخارجية.
فقد كانت دولة الإمارات العربية تسعى إلى إعادة تأسيس قضائها ومحاكمها وتحديث قوانينها وتطويرها ضمن الجهود المبذولة للنهوض بالدولة برمّتها، ولتحقيق غايتها إستعانت بقضاة لبنانيين متقاعدين ومستقيلين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: القاضي مازن تاج الدين الذي استقال في العام 2002 وكان قاضيًا منفردًا جزائيًا في بيروت، ورئيس هيئة التفتيش الراحل القاضي طارق زيادة، ورئيس محكمة التمييز الجزائية بغرفتها السابعة القاضي أحمد المعلّم، والقاضي المستقيل في العام 1993 حلمي الحجّار، كما أنّ النائب القاضي جورج عقيص نفسه توجّه إلى دولة الإمارات وعمل فيها بصفة مستشار وكيل دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي ومنصب مستشار وزير العدل الإماراتي(تراجع مقابلة أجرتها مجلّة “محكمة” مع عقيص ونشرت في العدد 23 – تشرين الثاني 2017).
وفيما تناقل القضاةُ الأخبارَ السارة الآتية من زملائهم “المهاجرين” ولا سيّما الحديث عن التنعّم برواتب مالية يسيل لها اللعاب، والمعاملة الحسنة، والشعور بالراحة النفسية والإطمئنان إلى المستقبل، تفاقمت موجة الإستيداع بشكل كبير وازداد الطلب عليها، مع أنّ بعض هؤلاء قطع الإستيداع في منتصف الطريق وعاد إلى لبنان مفضّلًا ملازمة عائلته، فما كان من مجلس القضاء الأعلى إلاّ أن اتخذ قرارًا بالوقوف سدًّا منيعًا بوجه أيّ استيداع لمنع حصول نقص في أعداد القضاة الذين كسبوا خبرات من عملهم في غير محكمة ودائرة تحقيق ويفترض تجييرها لمصلحة القضاء اللبناني قبل أيّ قضاء آخر، فهناك قضاة كبار ذهبوا للعمل في دولة الإمارات العربية مثلًا بعدما بلغوا سنّ التقاعد المحدّدة بـ 68 عامًا، ومنهم زيادة والمعلّم.
عوامل مشجّعة
ولا شكّ أنّ هناك عوامل كثيرة تشجّع القضاة على ترك لبنان منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، وإنْ كانوا قد حصلوا في العام 2018 على ثلاث درجات مالية وإدارية رفعت رواتبهم التي كانت تصنّف بـ”الجيّدة” آنذاك مقارنة بسواهم من موظّفي القطاع العام وخصوصًا بعض موظّفي الفئة الأولى بعد اعتكافين عن العمل في العامين 2017 و2018.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ القضاة يتقاضون 16 شهرًا وليس 12 شهرًا إذا ما جرى احتساب المخصّصات المالية التي تعطى لهم كلّ ثلاثة شهور بمعدّل راتب من صندوق تعاضد القضاة نتيجة ما يرده من أموال من الدعاوى وغرامات السير، كما أنّ هناك أحكامًا جزائية صدرت بمصادرة الأموال المضبوطة في دعاوى لمصلحة صندوق تعاضد القضاة بدلًا من خزينة الدولة، وذلك لعدم معرفة أصحابها وعدم علاقة المدعين بها، وتتوزّع هذه الأموال بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية!
تحفّظات
وليس سرًّا أنّ لدى بعض القضاة تحفّظات وملاحظات على مجمل الأداء القضائي، واستحالة انتزاع “اعتراف رسمي” من السلطة السياسية بأنّ القضاء سلطة ومستقلّة أيضًا، ووجود تدخّلات سياسية في معظم الملفّات المطعّمة بنكهة سياسية أو حشرت السياسة رأسها فيها، وجاء انهيار القوّة الشرائية للعملة الوطنية ليؤثّر بشكل كبير على رواتب كلّ اللبنانيين العاملين في القطاعين العام والخاص، والقضاة فئة منهم، ولا سيّما أنّها تُدفع بالليرة التي تعيش أسوأ أيّامها السوداء.
القاعي وشديد
وإذا كان هناك قضاة من درجات مختلفة يمنّون النفس بالإستقالة ولا يتردّدون في التعبير عنها وتردادها في مجالسهم، إلاّ أنّه لم يسجّل لغاية كتابة هذه السطور إلاّ استقالة القاضي منصور القاعي في شهر كانون الأوّل 2020، وتفرّدت “محكمة” بنشر خبر عنها، ثمّ القاضي روى حسن شديد التي استقالت لأسباب عائلية ومحض شخصية ولا علاقة لها البتّة بتدنّي الراتب.
وانضمّت شديد المولودة في 24 آب 1988 في بلدة عين يعقوب الشمالية، إلى معهد الدروس القضائية في 21 أيّار 2014، وصارت قاضيًا أصيلًا في 5 تشرين الأوّل 2017 وعيّنت في مرسوم التشكيلات القضائية الرقم 1570 الصادر في 10 تشرين الأوّل 2017 عضوًا في الغرفة الثالثة لمحكمة الدرجة الأولى في الشمال وفي الوقت نفسه قاضيًا منفردًا بالوكالة ناظرًا في دعاوى الإيجارات في طرابلس.
وإذا كان من السهل التلفّظ بعبارة “استقالة” والإقدام عليها، إلاّ أنّه من الصعب الحصول على وظيفة بديلة داخل لبنان وخارجه في الوقت الراهن وفي ظلّ التعقيدات المالية والإقتصادية والمعيشية والصحيّة الكثيرة التي تشهدها دول العالم وليست الدول العربية والنفطية تحديدًا بمنأى منها، لذا فإنّ أيّ قاض عدلي لن يخطو باتجاه الإستقالة قبل تأمين البديل، فثمّة التزامات مالية وحياتية واجبة على المرء لا تُقاوم بالكلام فقط، بل تحتاج في المقابل، إلى مردود مادي أيضًا لا بدّ من تحصيله وذلك للبقاء على قيد الحياة والحفاظ على الكرامة.
“محكمة” – الخميس في 2021/3/11
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.