أبحاث ودراسات

قراءة في الأصول الدستورية لتشكيل الحكومة/ شوقي ساسين

المحامي شوقي ساسين*:
مقدمة: هذه المادة من إنجازات الطائف. فَقَبْلُ، في ظل الدستور القديم، كان رئيس الجمهورية وحده صاحب السلطة التنفيذية، يمارسها بمعاونة الوزراء الذين يختارهم هو، ويسمي منهم وزيرًا أول. هذا في النص الدستوري، أما في الممارسة العملية، فكان رئيس الجمهورية يكلف أحد الشخصيات برئاسة الحكومة، ثم يشكلانها معًا بالتوافق بينهما، مع كلمةٍ عليا لرئيس الجمهورية مستمدة من القوة التي كان يمنحه إياها الدستور في هذا الخصوص.
فلما أقرت تعديلات الطائف، أصبحت السلطة الإجرائية منوطةً بمجلس الوزراء، لا برئيسِه وحده. وأفردَ الدستور لصلاحيات رئيس مجلس الوزراء مادة تحمل  الرقم 64، وفيها سأحصر مداخلتي مكتفيًا بموضوع واحد من جملة المواضيع التي وردت فيها، هو موضوع تشكيل الحكومة.
أولًا: التشكيل بمعناه الحصري (الفقرة الثالثة من المادة 64 من الدستور)
لا بدَّ من لفت النظر إلى أنني مقبلٌ معكم على قراءةِ النصوص الدستورية ذات الصلة، ومنها بالطبع المادة 64، من منظارٍ لغويٍّ في الأساس؛ ومبتعدٌ بكم قدرَ المستطاع عن التحليلات النظرية، لا لشيءٍ، إلا لإيماني بأن اللغةَ وعاءُ المعنى، ومفتاحُ فهمه الصحيح، إذا قرأناها على وَفقِ أصولِها وقواعدِها.
ولنتَّفِقْ منذ البدايةِ أن القوانينَ وُجِدَت لتُطبَّق؛ وما غمض منها يقتضي تفسيره على وجهٍ يجعلُ النصَّ ذا مفعول ويؤمِّنُ التناسقَ بينه وبين سائر النصوص. قاعدتان يُجمِعُ عليهما أهل القانون؛ فلنضَعْهما أمام أعيننا ولننطلق معًا إلى قراءتنا للمواد الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومة، ومنها الفقرة الثالثة من المادة 64 التي أعطت رئيس مجلس الوزراء أن يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة، وأن يوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. الملاحظة الأولى التي تسترعي الانتباه أن عبارة “تشكيل الحكومة” لم ترد في الدستور إلا في الماة 64، التي تتضمن أمورًا ثلاثةً: الأول هو إجراء الاستشارات النيابية، والثاني ارتباط هذه الاستشارات بنتيجة هي تشكيل الحكومة. أما الثالث فهو توقيع مرسوم التشكيل. فإذا أردنا التدقيق في معنى مصطلح التشكيل، وجدناه يفيد عملية اختيار الأسماء للتوزير وتوزيع الحقائب عليها. وهذه العملية ينبغي لها أن تتم وفق الضوابط الدستورية التي ترعى هذا العمل.
إن قراءة النص قراءةً لغوية تقود إلى الآتي:
1. إن إجراء الاستشارات منوط حصرًا برئيس الحكومة لا يشاركه فيه أحد.
2. وهذا الإجراء مرتبط بنتيجة هي التشكيل. ذلك أن حرف الجر “اللام” المتصل بكلمة “تشكيل”، يحمل معنى التعليل، أي أن ما قبله علة لما بعده، وما بعده نتيجة لما قبله. وهذه اللام إذا اتصلت باسم كانت حرف جر، أو بفعل، كانت حرف نصب؛ فسيان من حيث المعنى قولك يجري الاستشارات للتشكيل، أو يجري الاستشارات ليشكل، فالمعنيان واحد، كأن تقول: ذهبَ للسباحة، فلا يستقيم المعنى إلا أن يكون الذاهبُ هو الذي سيسبح لا سواه. فينبغي إذًا أن يكون الذي يستشير هو الذي يشكل استنادًا إلى مضمون الاستشارات وحسابات نيل الثقة.
3. تضاف إلى هذا كله السوابقُ الدستورية المتعددة التي كان فيها رئيس الحكومة يضع التشكيلة ويعرضُها على رئيس الجمهورية.
لهذا أجدني مقتنعًا بأن صلاحية التشكيل، بمعناه التقني، أي تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب عليهم، صلاحية معقودةٌ في الدستور لرئيس الحكومة المكلف وحده.
ثانيًا : في إصدار مرسوم التشكيل
اكتفت الفقرة الثالثة من المادة 64 بالقول إن رئيس مجلس الوزراء يوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيل الحكومة، أما الفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور فنصت على أن رئيس الجمهورية يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة. هنا وردت ثلاثُ مفردات تميزت بها المادة 53 عن المادة 64 هي: يصدر – بالاتفاق – رئيس مجلس الوزراء، بدلًا من رئيس الحكومة. ومن دون الخوض في نقاشٍ غير مجدٍ في إطار موضوعنا، حول المسألة الأخيرة، باعتبار أن المادة 64 نصت على أن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يبقى أنه يجدر بنا الوقوف عند الفعل “يصدر” وعبارة “بالاتفاق”.
أ‌. في معنى الفعل “يصدر”
الفعلُ “يُصْدِر”، الذي يقابله بالفرنسية Promulguer، معناه التقنيُّ إخراج القوانين والمراسيم إلى حَيِّزِ التطبيق؛ ويتمُّ هذا في معظم الأنظمة بتوقيع رئيس الدولةِ حارسِ السيادة الوطنية. فعلٌ نطقت به المواد 53 و56 و57 من الدستور، فأعطت رئيس الجمهورية صلاحية إصدار المراسيم بالقوانين التي يقرُّها مجلس النواب والقرارات التي تتخذها الحكومة. ولكنْ لنتذكَّرْ أن الرئيس ليس شريكَ النواب والوزراء في المناقشة والتصويت، وأنَّ دورَه مقصورٌ على “إصدارِ” ما يقررونه هم في مجلسَيْهم وفق الآليات المحددة دستوريًّا. ويندرجُ تحت هذا العنوان:
1. مرسومُ تسمية رئيس الحكومة المكلف، فإصداره يعني إعلانَ الاسم الذي اختارته أكثريةُ النواب في الاستشارات الملزمة؛
2. مراسيمُ قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة
3. مراسيم إقالة الوزراء أو قبول استقالاتهم،
فهذه كلُّها حالات دستورية لا يملك الرئيس فيها رأيًا ولا تصويتًا، تتحقق بوسائط خارجةٍ عن صلاحياته وإرادته. لكنّه هو الذي يصدرُ المراسيم المتعلقةَ بها، فيُدْخِلُها حَيِّزَ التطبيق بتوقيعه منفردًا أو بالاشتراك مع رئيس الحكومة. وهو في هذا قائمٌ بوظيفة دستورية عليا، بحيث يكون توقيعه باب نفاذ تلك المراسيم بشكل نهائي. لكن صلاحياته بهذا الشأن هي من نوع الصلاحيات المقيدة (competence liée)، فعدم توقيعه على مرسوم استقالة الوزير مثلًا لا يجعل الاستقالة باطلة أو من دون مفعول. لذلك أجدُني مخالفًا كلَّ نظرية تفسيرية ترمي إلى تضمين الفعل “يُصدر” الوارد في البند الرابع من المادة 53 من الدستور معنى أبعدَ من مداهُ القانوني، يخالفُ ما يعنيه الفعل نفسُه في سائر بنود هذه المادة والمادتين الأخريين 56 و 57، إذ لا يُعْقَلُ أن يستعملَ المشترعُ في قانون واحد بل مادة واحدة، اللفظةَ عينَها بمعانٍ متناقضة.
ب‌.في عبارة “بالاتفاق”
أما عبارةَ “بالاتفاق”، الواردة أيضًا في البند الرابع من المادة 53، فينبغي أن نقرأها ضمن سياق النص كاملًا فإنه يقول:[یُصدر بالاتفاق مع رئیس مجلس الوزراء مرسوم تشكیل الحكومة ومراسیم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم] “فالاتفاق” هنا يشمل ثلاث حالاتٍ حكومية، التشكيلَ والاستقالةَ والإقالةَ. وفي تحقُّقِ الحالتين الأخيرتين لا دور لرئيس الجمهورية؛ فكيف لمفسِّرٍ أن يعطيَ عبارة “بالاتفاق” المثلَّثةَ المقاصدِ معنًى مختصًّا بالحالة الأولى فقط، يولي عَبْرَهُ الرئيسَ صلاحيةَ التدخلِ المباشر في عملية التشكيل؟ أستميحُ اللُّغَةَ عذرًا، فأنا لا أجد في المادة 53 حجةً كافية لتبرير ذاك الدور، الذي يولي رئيس الجمهورية أن يشاركَ مباشرةً في تشكيل الحكومة حقائبَ وأسماءً.
لكنَّ المشترع لا يلغو، وموقع الرئيس المحدد في المادة 48 حتّمَ له تدخلًا حمائيًّا في جميع الأعمال الدستورية، فَلَهُ مثلًا أن يردَّ القوانين إلى المجلس النيابي وأن يطعن بها أمام المجلس الدستوري، وأن يطلب إعادة التصويت على المقررات الحكومية، في رقابةٍ مباشرة على أعمال السلطتين من دون استلابِ إرادتَيْهما. فلماذا لا تكون له مثلُ هذه الرقابة على العمل الدستوريِّ الجليلِ، تشكيل ِالحكومة، لا كممثل لطائفة أو شريكٍ في حصة وزارية، بل كَحامٍ للدستور مؤتمنٍ على ركائز الوجود الوطني؟ ولماذا لا يكون “الاتفاقُ” وسيلةَ رقابته؟ خصوصًا وأن آلية الاتفاق كانت ساريةً عمليًّا قبل الطائف؟؟ إن مقاربةً كهذه تجعلُ من فكرةِ “الاتفاق” مبدأً دستوريًّا وفريضةً ملزمة للرئيسين معًا في التشكيل والإقالة والاستقالة؛ فليس لهما ألّا يتّفقا لأنَّ خلافَهما، وخصوصًا في موضوع التشكيل، يحوِّلُ المبدأَ الإيجابيَّ الطابع إلى تعطيلٍ سلبي، والموجبَ الدستوريَّ إلى خيارٍ يؤخَذُ أو يُترَك، وهذا ليس من شِيَم الدساتير. وإذا كان النصُّ قد خلا من آلية محددة لتظهير هذا “الاتفاق”، فمعناه أنَّ جميع الآليات متاحة إلا ما خالف الدستور، كأن يشترط أحدُهما على الآخر الالتزام بإرادة القوى السياسية، فهذا يعطِّلُ البند الثاني من المادة 64. ولعلَّ من المفيد هنا تشبيهَ دور رئيس الجمهورية في عملية التشكيل بدَور محكمة التمييز، تراقبُ حسن تطبيق القانون ولا تتدخَّلُ في تقدير الوقائع.
يبقى سؤالان: لقد حَجَبَ الدستور عن رئيس الجمهورية حقّ التصويت بالأصالة في مجلس الوزراء، فهل يُعطاهُ بالوساطة، عبر حصةٍ من وزراء يسميهم في مجلسٍ يختار بعضًا منه؟ وإذا كانت قواعدُ المسؤولية ترتِّبُ التَّبِعَةَ على المرءِ عن أعماله الشخصية، فهل يُمنَحُ رئيسُ الجمهورية دورًا في التشكيل غيرَ ما ذكرت، ويُعْفى في المقابل من أي مسؤولية؟
ها قد انتهت سياحتنا في بقاع الدستور عند وادٍ من سجالات لن تنتهي، لسببين:
1. لأن بعض القوى السياسية لم تدرك بعد الأبعاد الوطنية “الوجودية” لمقام رئيس الجمهورية بعد الطائف. هو ليس شريكًا في السلطة التنفيذية بأي نسبة كانت بعد أن كانها كلَّها. هو فوق السلطات جمعاء يراقبها ويجمي الدستور من أعمالِها، وفوق الصراعات السياسية اليومية التي هي ميزة الأنظمة الديمقراطية؛ وليس ممثلًا لمكون بعينه، بل هو راعي جميع المكونات وممثل وحدة الشعب والوطن.
2. لأن النياتِ الحسنة والعيون التي لا غِشاوةَ عليها هي أولى مستلزمات القراءة الصحيحة والتفسير السليم، فهي تدفعُ أصحابَها إلى البحث عن ماءٍ لا سراب، وإلى الحرص على عدم اغتصاب النصِّ عند المصلحة، بتجاوز أحكامه أو إساءةِ تفسيرِها أو تعطيلِها. وهذه النيات غير متوافرة.
وإلى أن تنجلي الغشاوات يبقى ما قيل ههنا صرخةً في وادي السراب، ليس لها من أثرٍ إلّا صدًى سرعانَ ما تزْدَرِدُه الرّيح الجائعة.
* رئيس اللجنة الوطنية للاونيسكو.
“محكمة” – الجمعة في 2023/10/6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!