مقالات

التحول الرقمي في القطاع الحقوقي بين مستنقع الفساد وحاجز الأمية الرقمية/علي جابر

المحامي علي حسين جابر:
الفصل الأول: تغيير المسار
العالم يرمح،
العالم يسير بسرعات فلكية خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي،
ولبنان كعادته، يمشي بخطوات ثقيلة تكاد تلامس سرعة السلحفاة في سباق التحول الرقمي العالمي،
مع بداية القرن العشرين، كانت المعرفة الإنسانية تتضاعف كل قرن،
أما عشية وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها سنة 1945 صارت المعرفة الإنسانية تتضاعف كل ربع قرن، أي أن المعرفة الإنسانية تبلغ ضعفي ما كانت عليها كل خمس وعشرين سنة في ذلك الوقت،
ومع بداية الألفية الثالثة ولغاية بلوغ العام 2019 أصبحت هذه المعرفة، بحسب الإحصاءات العالمية، تتضاعف كل ثماني عشرة ساعة !! أي اذا افترضنا ان شخصاً ما امتلك المعرفة الإنسانية برمتها، فسيستفيق في اليوم التالي جاهلا بنصف هذه المعرفة!!
وأسرع هذه المعارف الإنسانية هي المعرفة التكنولوجية، وبفعل هذه السرعة المخيفة أصبحت دول العالم ومرافقها العامة مجبرة على مجاراة هذا التطور، حيث أصبح الإستخفاف بضرورة التطور التكنولوجي يؤدي الى مسارات إفنائية تدميرية قد تصل الى نقطة اللاعودة التي من شأنها أن تخرج هذه الدول من التاريخ وحتى من الجغرافيا،
أما نصيب القطاع الحقوقي اللبناني ومرفق العدالة من التطور التكنولوجي، فيذكرني بالتعبير اللبناني “متل المي بالطلوع”،
مؤتمرات، واحتفالات، وندوات ولجان، وهيئات وطنية وسيادية ووزارية ونيابية ونقابية وبالطبع لا ننسى الـ NGO، وآلاف مؤلفة من الصفحات وأطروحات الدكتوراه والماجستير والكتب العلمية التي كتبت ونوقشت في مختلف مكامن القطاعين المذكورين، وما زلنا كالدابة التي تدور حول الساقية، والنقطة التي نصل إليها هي ذاتها النقطة التي بدأنا منها،
الأسباب العامة لهذا الإنحطاط في مجال التقدم التكنولوجي لم تعد خافية على أحد،
فساد يرافقه ما جرى مجرى الفساد من هدر وانعدام للإحتراف والخبرة من جهة أولى،
يقابلها معدل أمية رقمية مخيف للعاملين في القطاع الحقوقي خاصة بين الأجيال الصاعدة من جهة ثانية،
وأصحاب القرار اليوم مكبلون بتركات سابقة من أيام الـ 1500 حين لم يكن أحد ليحرك ساكناً تجاه الهدر المستشري للميزانيات الفلكية وأموال المساعدات الأجنبية التي كانت تمطر على المرافق العامة المعنية بالقطاع الحقوقي ومرفق العدالة للمساعدة في التطور التكنولوجي، باعتبار أن “البلد كان ماشي والليرة بخير” !!
أما اليوم، وبعد أن انكشفنا على العالم الذي لم يعد يرى جدوى من مساعدتنا في موضوع التحول الرقمي إلا بعد أن يتأكد من أننا قادرون على تحمل المسؤولية،
فلنتذكر بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،
ولنبني على بعض المتفرقات المضيئة في سماء القطاع الحقوقي ومرفق العدالة فيما يتعلق بالتطور التكنولوجي، لنصنع مساراً ونهجاً جديداً يعكس المسارات التي تعجل بإفنائنا،
إن أركان القطاع الحقوقي ومرفق العدالة من نقابة المحامين في بيروت ومجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل كان لها من الصفحات المضيئة في التقدم التكنولوجي ما يمكن البناء عليه لنعكس هذا المسار الإفنائي،
إذ لا أحد يمكنه أن ينكر، في أولى سنوات اطلاق شبكة الإنترنت عالمياً، بأن كان لنقابة المحامين في بيروت موقع إلكتروني في وقت لم يكن لمعظم وزارات الدولة اللبنانية موقع أو حتى وجود إلكتروني، ومن بعدها كانت النقابة السباقة في اعتماد التصويت الإلكتروني في الإنتخابات النقابية، والتي تعجز معظم نقابات لبنان حتى يومنا هذا عن استخدامه،
كما لا يمكن لأحد أن ينسى، الثورة التكنولوجية التي أطلقها النقيب ملحم خلف حيث كان مرفق العدالة في لبنان من الأوائل عالمياً في الإستجابة لجائحة كورونا في القطاع الحقوقي من خلال مكننة طلبات إخلاء السبيل وتوفير الآلية الإلكترونية اللازمة للبت بهذه الطلبات، والتي لولاها لبقي مئات من الموقوفين الذين تم قبول إخلاء سبيلهم، محجوزين في أماكن التوقيف بسبب الإقفال العام،
هذا بالإضافة الى تفعيل الجلسات الإلكترونية في المحاكم الجزائية، حيث أصبحت هذه المحاكم في ذلك الوقت كما والنقابة أشبه بمزار لسفراء الدول الأوروبية وممثلي الهيئات الأممية التي أقرت بأن محاكم لبنان سبقت محاكم بلادهم في الإستجابة الى جائحة كورونا والإقفال العام الذي تسببت به،
كل ذلك كان بتعاون غير مسبوق بين النقابة ومجلس القضاء الأعلى ممثلاً برئيسه القاضي سهيل عبود، ووزيرة العدل ماري كلود نجم، والقضاة والكتاب والموظفين الأبطال الذين تحدوا المخاطر وساهموا بتفعيل جميع الحلول الإلكترونية التي تم توفيرها لهم للحؤول دون إصابة مرفق العدالة بالشلل بسبب الجائحة،
وآخر هذه الصفحات المضيئة هي النهضة التطويرية التي بدأها وزير العدل القاضي هنري الخوري معلناً عدم القبول بالأمر الواقع ومنطق الإعتذار،
فمن الإنتهاء من إنجاز اقتراح المرسوم الخاص بالأسناد الرسمية الإلكترونية الذي كان من المفترض أن يتم إنجازه منذ العام 2018، الى الإصرار على توفير كافة الموارد البشرية من المتطوعين أصحاب الإختصاص في مجال التطوير الإلكتروني، الى تشكيل اللجان اللازمة لمتابعة عملية المكننة التي بدأت في دائرة التنفيذ في بيروت بواسطة القاضية نجاح عيتاني وإشراف مباشر من الرئيس الأول لمحاكم الإستئناف القاضي حبيب رزق الله، الى تأمين الدعم اللازم للطاقة الشمسية، الى استنفار كامل فريق عمله من الجنود المجهولين الذين لم يبخلوا بوقتهم وجهدهم لإنهاء كافة المراسيم والقرارات الأخرى اللازمة للبدء بعملية التحول الرقمي الجدي، من حماية البيانات، الى المراسيم المتعلقة بالنشر الإلكتروني المتعلق بالسجل التجاري، الى الرؤية التي يتم تحضيرها لإطلاق حملة محو الأمية الرقمية، وغيرها من المشاريع التي يتم العمل عليها ليلاً ونهاراً، وبميزانيات تكاد تكون منعدمة،
تلك الصفحات المضيئة، باتت اليوم تشكل خشبة الخلاص المتبقية للنهوض بعملية التطوير الإلكتروني، وهي أيضاً كشفت الكثير من مكامن الفساد والهدر،
فلتكن سنة 2024 هي الحجر الأساس في نقل التحول الرقمي في القطاع الحقوقي ومرفق العدالة من مرحلة المؤتمرات والتنظير الذي جعل منه حولاً رقمياً، الى مرحلة التطبيق الفعلي وإصدار المراسيم وتعديل القوانين وتأمين البنية التحتية اللازمة لنجاري باقي الدول العربية ودول العالم علنا نلحق بهم في مجال التكنولوجيا، وهذا يتطلب توحيد الجهود لنعكس المسار نحو نهج جديد في التعاطي بموضوع التطوير التكنولوجي والذي يجب أن يتعامل بشكل متوازٍ مع ثلاثة أمور أساسية:
1- تسريع وتيرة العمل بشكل يجاري التطور العالمي وإشراك أكبر شريحة من أصحاب الإختصاص والخبرة في مجال التطوير التكنولوجي بعيداً عن الإختلافات السياسية أو الطائفية.
2- الخروج من مستنقع الفساد عن طريق الضرب على يد الفاسد أو تحييده ومنعه من التأثير سلباً على مسار التطوير الإلكتروني.
3- البدء فوراً بوضع خطة شاملة لنشر التوعية ومحو الأمية الرقمية خاصة في الإدارات والهيئات التابعة لمرفق العدالة.
“محكمة” – السبت في 2023/12/30

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!