الشيخ إميل عيسى الخوري خدم القضاء بنفحة إنسانية/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ثلاثة أجيال من بيت واحد وأسرة واحدة من شمال لبنان وتحديداً من بلدة بشري، رفدت القضاء العدلي بثلاثة قضاة في مراحل زمنية مختلفة، في واحدة من الحالات القليلة جدّاً في تاريخ القضاء اللبناني، وفي دلالة واضحة على المنحى الإنساني وحبّ العدالة وخدمة الوطن والناس باسم الحقّ. إنّها باختصار عائلة القاضي الرئيس الشيخ إميل بربر عيسى الخوري* التي تفرّع منها نجله القاضي الدكتور أنطوني عيسى الخوري وحفيدته كريمة هذا الأخير، جويل أنطوني عيسى الخوري.
ولكلّ واحد من هؤلاء الثلاثة بصْمَتُه وسيرته في القضاء الذي أحبّ عن عمق إيمان بأهمّية العدالة في حياة الشعوب، وبضرورة إرساء المساواة كمدماك رئيسي في صلب بناء الأوطان، ويكفي أنّ نظرتهم إلى هذا القضاء، وكلّ واحد منهم في عهده وزمانه، لم تكن قائمة على الوجاهة والشخصانية والإستغلال وصرف النفوذ وما يتفرّع عنها من مفردات لا تمتّ إلى سمو الإنسانية بصلة، كما يحصل لدى آخرين، وكما يحلو لآخرين أن يفعلوا حتّى ولو كانت مراكزهم عادية وجدّاً، فيما القاضيان الأب والإبن إميل وأنطوني عيسى الخوري تسلّما مواقع متقدّمة في القضاء العدلي وفي هيئات قضائية عليا، وتركا خلالها الكثير من القرارات والأحكام التي تغني العقل القانوني والمكتبة الحقوقية وتفتح آفاقاً لتطوير الإجتهاد.
المجاهرة بالحقّ
وقد عايشتُ القاضي أنطوني عيسى الخوري في العدلية منذ العام 1997 ولغاية تقاعده في 25 شباط من العام 2015، ولمست حرصه الشديد على إحقاق الحقّ والسمو بكلمة العدل، ووقفت على إنسانيته وطيبته ولطف معشره وتهذيبه الجمّ ونبرة صوته الصامتة إلاّ عن المجاهرة بالحقّ والحقيقة حتّى ليأخذك بتواضعه الكبير إلى عالم الكبار من القضاة الأفذاذ الذين خلّدهم التاريخ، وليس غريباً عليه هذا السلوك وهو ربيب أبيه وجدّه لأبيه الشيخ أمين عيسى الخوري الذي عرفته بشري ومحيطها وقضاؤها كواحد من وجهائها المشاهير والعظام، وتلميذ جدّه بربر بك عيسى الخوري الذي عيّنته الإمبراطورية العثمانية في العام 1917 رئيساً لبلدية “قصبة بشري” أيّ مقاطعة وقضاء بشري، وأعادت سلطة الانتداب الفرنسي ممثّلة بحاكم جبل لبنان الموسيو لابرو تعيينه في هذا المنصب في 18 آذار من العام 1920 وهو أمر مدوّن وموثّق في محفوظات ومستندات رسمية. واشتهر بربر بك عيسى الخوري(1874-1946) بانفتاحه وصدقه في التعامل مع الناس.
لبنان الكبير
وفي هذا البيت الجامع للوجاهة وحبّ الناس والسعي إلى خدمتهم في آن معاً، نشأ القاضي إميل عيسى الخوري في العام 1909، ولا بدّ من التذكير هنا بأنّ بربر بك عيسى الخوري مثّل بشري وقضاءها في الاحتفال الرسمي لإعلان “دولة لبنان الكبير” الذي أقامه المفوّض السامي الفرنسي هنري غورو(Henry Gouraud) في قصر الصنوبر في بيروت في الأوّل من شهر أيلول من العام 1920 ورافقه للمشاركة في هذا الاحتفال التاريخي شقيقه الشيخ أسعد عيسى الخوري الذي كان من الشخصيات المرموقة في بشري والقرى المحيطة بها في شمال لبنان.
النشأة
درس إميل عيسى الخوري كلّ المراحل التعليمية الإبتدائية والمتوسّطة والثانوية في مدارس الآباء اليسوعيين، كما أنّه تخرّج مجازاً في الحقوق من جامعتهم الخاصة جامعة القديس يوسف، وبدلاً من أن يذهب إلى المحاماة كونها الأقرب إلى أجواء منزل والده لالتصاقها بالسياسة والشأن العام، إرتأى أن ينضمّ إلى الجسم القضائي وكان بَعْدُ، مختلطاً ومؤلّفاً من قضاة لبنانيين وفرنسيين في عهد الانتداب الفرنسي وتحديداً في العام 1942.
على خطى الخال
وتشرّب إميل عيسى الخوري حبّ القضاء من شقيق والدته روزا جبرايل عيسى الخوري، أيّ من خاله القاضي جورج جبرايل عيسى الخوري (1900 -1988) الذي كان يكبره بتسع سنوات فقط، وسار على نهجه في الأصالة والفرادة والعلم الغزير. وقد عُرف القاضي جورج عيسى الخوري في القضاء كأحد رجالاته البارزين خصوصاً بعدما قيّض له استلام رئاسة غرفة في محكمة التمييز في العام 1959 ولغاية تقاعده في 9 أيلول 1964.
وفي عمله القضائي، قدّم إميل عيسى الخوري نموذج القاضي الصادق والنزيه والشفّاف في تعامله مع كلّ الدعاوى والملفّات التي أنيط به النظر فيها، فدرسها عن كثب، وأعطى الحقّ لصاحبه، ومع أنّه إبن بيت قريب من السياسة، إلاّ أنّ إميل عيسى الخوري آثر الالتزام بموجب التحفّظ والحياد، وعلى هذا النهج القانوني السليم طلب من نجله أنطوني أن يسير، لما في ذلك من استقامة وطنية في الدرجة الأولى وصون لمبادئ العدالة السامية.
مراكزه القضائية
وتنقّل إميل عيسى الخوري في مراكز قضائية متنوّعة، وذلك على الشكل التالي:
عضو محكمة البداية في بيروت في العام 1942، معاون مدعي عام في النيابة العامة البدائية في جبل لبنان على ما كانت التسمية عليه آنذاك في العام 1944، عضو المحكمة الخاصة للأوقاف الذرية من الطائفة المارونية في العام 1947، معاون مدعي عام بيروت في العام 1948، مستشار في محكمة الاستئناف في جبل لبنان بين العامين 1950 و1962 حيث عيّن رئيساً لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان وبقي لغاية العام 1965، ونقل مستشاراً في محكمة التمييز ليعود نائباً عاماً استئنافياً في جبل لبنان بين العامين 1966 و1971، وأنهى مسيرته في مركز محام عام تمييزي إلى حين بلوغه في 23 حزيران من العام 1973 سنّ التقاعد المحدّدة آنذاك بالرابعة والستّين من العمر، وتمّ قبوله من مجلس القضاء الأعلى في منصب الشرف بموجب المرسوم رقم 6023 الصادر في 12 أيلول 1973.
تأهّل الشيخ إميل عيسى الخوري من نسيبته السيّدة أيده كريمة الشيخ خيرالله عيسى الخوري ورزقا ولدين هما: ليليان زوجة أنطوان عبدو عاصي، والقاضي الدكتور أنطوني عيسى الخوري الذي اقترن بالسيّدة نائلة إبراهيم كنعان وأنجبا القاضي جويل عيسى الخوري ورجل الأعمال إميل عيسى الخوري الذي حمل اسم جدّه الراحل.
أصيب إميل عيسى الخوري بمرض عضال، فقاومه قدر المستطاع بصبر ورباطة جأش، إلى أن فارق الحياة يوم الثلاثاء الواقع فيه 17 آذار من العام 1987 عن عمر بلغ ثمانية وسبعين عاماً، ونعاه مجلس القضاء الأعلى وأقيم له مأتم رسمي حاشد في كنيسة مار أنطونيوس الكائنة في محلّة السوديكو في بيروت حيث ترأس الصلاة لراحة نفسه النائب البطريركي آنذاك المطران بشارة الراعي(البطريرك الماروني منذ 15 آذار2011) ممثّلاً البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير(1920- 2019) بحضور ممثّل رئيس الجمهورية أمين الجميل رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي أمين نصّار، ورئيس مجلس النوّاب حسين الحسيني النائب رفيق شاهين(1925- 2011)، ورئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي(1921-1987) محافظ بيروت المهندس متري النمّار، ثمّ نقل الجثمان إلى بشري ووري في مدافن العائلة.
وتقديراً لعطاءاته، مُنح القاضي إميل عيسى الخوري وسام الأرز الوطني من رتبتي ضابط وكومندور.
وفي ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيله، أقيم قدّاس وجنّاز لراحة نفسه في كاتدرائية القدّيس سابا في مسقط رأسه بشري تحدّث فيه الوكيل البطريركي المونسنيور إميل شاهين الذي قال:” لقد كان مدرسة في ممارسة رسالته السامية، متواضعاً رغم تبوئه أعلى المناصب القضائية، مناصراً الحقّ، حامياً المظلوم. كان قدوة للناس في حلاوة المعشر ودماثة الخلق وصدق التعامل وعزّة النفس، كما اشتهر بابتسامة بريئة لم تفارقه حتّى أثناء مرضه العضال”.
*بمناسبة شهر تذكار الموتى(تشرين الثاني)، صدر كتيّب عن المرحوم القاضي الشيخ إميل عيسى الخوري في 24 صفحة، تضمن ملخّصاً عن سيرته الذاتية وما كتب في الصحف عن رحيله.
“محكمة” – الجمعة في 2019/11/29
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.