العقود بين القانون والظروف الإستثنائية/محمّد شهاب
المحامي محمّد عيد شهاب*:
يلعب العقد دوراً هاماً في ميدان الحياة باعتباره أداة للتعامل بين الأفراد إذ يحقّق تبادل المنافع بطريقة عادلة تتفق مع السلوك الحضاري للفرد لأنّ الوضع كان في السابق يتسم بالفوضى. كما يلعب العقد دوراً بارزاً في تقدّم الشعوب إذ إنّه يساهم في النهوض بالاقتصاد، وبالتالي، تطوّر المجتمعات.
لذا أولى فقه القانون أهمّية كبرى للعقد على امتداد العصور، كما أنّ معظم الدول جعلت للعقد مكانة بارزة في تشريعاتها من أجل ضمان استقرار المعاملات في المجتمع، ومن بينها التشريع اللبناني الذي نظّم أحكام العقد في القانون المدني، مخصّصاً له الفصل الثاني من الكتاب الثاني من قانون الموجبات والعقود حيث يقوم العقد على أساس الإرادة التي تنشئه وتحدّد مضمونه وآثاره.
ونظراً لأهمّية الإرادة ودورها في إنشاء الإلتزام العقدي، حيث ظهرت كمبدأ هام سُمّي بمبدأ سلطان الإرادة، التي يستخلص منها القوّة الملزمة للعقد وقد عبّر عنها المشرّع في نصّ المادة /221/من قانون الموجبات والعقود التي نصّت على:” أنّ العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين. ويجب أن تفهم وتفسّر وتنفّذ وفاقاً لحسن النيّة والإنصاف والعرف”.
لذا تتمحضّ عن تلاقي الإرادتين رابطة إلزامية بينهما تحتّم على أصحابها تنفيذ ما يشتمل عليه العقد، فهو شريعتهم التي لا يستطيع أحدهما من حيث الأصل والمبدأ أن يعدّل أو يفسخ المحتوى بإرادته المنفردة.
إلاّ أنّ المادة /221/ م.ع. أكّدت أنّه:” يجب أن تفهم (أيّ العقود) وتفسّر وتنفّذ وفاقاً لحسن النيّة والانصاف والعرف”.
أيّ يجب أن يعتبر العقد خير وسيلة لقيام علاقة اكثر عدلاً بين الأطراف لأنّه أداة تندمج فيها إرادتان أو أكثر هدفها تحقيق المصالح بين المتعاقدين وقد صاغ الفقيه ” Fouillé Alfred” ذلك بعبارة وجيزة لها دلالة كبيرة “فمن قال عقد، قال عدل”، فالعقد يعبّر حقيقةً عن وجود عدالة تعاقدية بين الطرفين، متى تمّ إنشاء العقد بإرادة حرّة لأنّه من غير المقبول أن يلتزم أحد أطراف العقد دون أن تتحقّق من خلاله مصلحته.
Philosophe “Fouillé Alfred” (1838-1912)”
Justice du 19eme siècle, écrivait qui est contractu et dit justice.”
إلاّ أنّ العقد قد تعتريه الكثير من العقبات أو حالات قد تمسّ بتوازنه الاقتصادي أثناء تنفيذه أو أثناء تكوينه، فالتمسك بالقوّة الملزمة للعقد، كمبدأ مطلق أيّ أنّه لا يمكن نقضه أو تعديله إلاّ باتفاق الإرادات التي أنشأته أو للأسباب التي نصّ عليها القانون، وعدم السماح للقاضي تعديل ما اتفق عليه المتعاقدون بإرادتهم الكاملة، بغضّ النظر عن الظروف الخاصة التي قد يوجد فيها المتعاقد والتي بدورها قد تؤدّي إلى نتائج مجحفة في حقّه وعدم الحصول على المنفعة التي تعاقد بسببها.
هذا الوضع أدّى لدى العديد من الدول إلى تعديل القانون لتلافي هذه الإشكالية حيث منح القاضي سلطة ورخصة التدخّل من أجل معالجة مشكلة عدم التوازن الاقتصادي للعقد، بهدف إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بما يخدم مصالح أطراف العقد المتعاقدين.
إنّ أكثر ما يثير التساؤل في أيّامنا هذه، هو الوضع الإقتصادي المستجدّ في لبنان وفي ظلّ انتشار فيروس “كورونا” وإعلان حالة التعبئة العامة من قبل الحكومة والطلب من المواطنين التزام منازلهم وعدم الخروج منها إلاّ للضرورة القصوى، مع ظروف إقتصادية طرأت على لبنان منذ 17 تشرين الأوّل من العام 2019 والتي أدّت إلى انهيار سعر الصرف للعملة اللبنانية لا سيّما تجاه الدولار الأميركي بعد استقرار دام لأكثر من 28 عاماً وفقدت على أثره 65% من قيمتها، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر على القدرة الاقتصادية للمواطنين وعلى قدرتهم في تنفيذ التزاماتهم التعاقدية التي وبمعظمها كانت قائمة على التعامل بالدولار لأنّ استقرار سعر الصرف كان ثابتاً مع تطمينات سياسية لكافة الحكومات المتعاقبة وللجهات المصرفية المختصة على أنّ القدرة الشرائية والسوقية والصرفية للعملة الوطنية كانت وستبقى بخير.
إزاء هذه التطوّرات والظروف الإستثنائية يبقى الإهتمام بطبيعة التعامل مع عدم قدرة المتعاقد على تنفيذ التزاماته وموجباته العقدية لظروف تخرج عن إرادته.
لذا لا بدّ من التطرّق إلى تعريف هذه الحالة وتحديد مضمونها، وهل هي تشكّل قوّة قاهرة أو حدثاً طارئاً أو ظرفاً استثنائياً.
بالنسبة للقوّة القاهرة، فإنّها تعني كلّ حدث خارجي غير منتظر وغير متوقّع ولا يمكن التغلّب عليه والتحرّر منه (جورج سيوفي، النظرية العامة للموجبات والعقود ، ج1، بيروت 1994 ص 477)، أيّ أنّه باختصار الحادث أو الحدث المفاجىء، فهو عارض أو ظرف لا شأن للإنسان فيه ، إذ إنّه يخرج عن إرادته وفعله، ولا يمكن توقّعه ولا دفعه (خليل جريج، النظرية العامة للموجبات، ج 1 ، بيروت 1998، المنشورات الحقوقية، صادر ص 312).
كما أنّ محكمة النقض المصرية عرّفت القوّة القاهرة بأنّها:”القوّة القاهرة بالمعنى الوارد في المادة 165 من القانون المدني المصري تكون حرباً أو زلزالاً أو حريقاً، كما قد تكون أمراً إدارياً واجب التنفيذ بشرط أن يتوافر فيها استحالة التوقّع واستحالة الدفع.” (الفقرة الثانية من الطعن رقم 423، بتاريخ 1976/01/29).
لذا، فإنّ القوّة القاهرة هي صورة من صور السبب الأجنبي الذي ينفي علاقة السببية بين فعل أحد أطراف العقد وبين الضرر الذي حال دون تنفيذ موجبات العقد، فهي كلّ حدث خارجي عن الشيء لا يمكن توقّعه ولا يمكن الدفع به مطلقاً.
ومن شروط القوّة القاهرة هي عدم إمكانية توقّع الحادث، واستحالة دفع الحادث وأن يكون الحادث خارجياً، لذا فإنّ القوّة القاهرة تنشأ إمّا بفعل الطبيعة كالزلزال والفيضانات، أو بفعل إنسان كالسرقة والثورات، أو بفعل قانوني.
أمّا الظروف الطارئة، فتعرف بأنّها أيّ حدث يقع أو يمرّ على دولة ما ويتعذّر معه مواجهته باتخاذ القرارات الإدارية التقليدية ويقضي معه اتخاذ قرارات أو إجراءات سريعة لتفادي أو مواجهة الأضرار التي قد تقع من جرّاء وقوع الحادث الطارىء.
وشروط تطبيقها هي، أن يقع ظرف طارىء وخطير يهدّد سلامة البلاد، وأن يتمّ الإعلان أنّ ما تمرّ به البلاد هو ظرف استثنائي أو أن يكون الظرف من أحكام الظروف الطارئة التي نصّ عليها الدستور.
فالفرق بين كلّ من الظروف الطارئة والقوّة القاهرة يكمن في أنّه بحالة الظروف الطارئة لا يكون تنفيذ الإلتزام في العقد مستحيلاً، إنّما يكون مرهقاً بما يهدّد مركز المدين المالي والاقتصادي.
أمّا في حالة القوّة القاهرة، فإنّ تنفيذ العقد يصبح مستحيلاً وينتهي الأمر إلى إلغائه لعلّة استحالة التنفيذ.
وبالعودة إلى الوضع الحالي في لبنان، الذي يعيش أزمات سياسية متلاحقة توجّت بأزمة اقتصادية خانقة مع تفاقم أزمة شحّ العملة الأجنبية، وفقدان الليرة اللبنانية لقيمتها أمام الدولار بعد استقرار دام لأكثر من 28 عاماً، أضف لذلك، تفشّي وباء فيروس “كورونا” وإعلان منظّمة الصحّة العالمية أنّه جائحة عالمية عابرة للحدود، ممّا استدعى إعلان حالة التعبئة العامة في لبنان وإقفال المحلاّت التجارية والمصالح العامة وإلزام الناس بالبقاء في بيوتهم، كلّ هذه الظروف أدّت إلى تعطيل حياة المواطنين بجميع أوجهها، ممّا رتّب على المدينين عدم قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم التعاقدية، وبالتالي، فإنّ هذه الحالة تنطبق عليها شروط الظروف الطارئة ونتائجها.
وعليه، وإنّ كان المبدأ الأساسي في العقد هو سلطان إرادة الفرقاء في العقود، وأن يتمّ التزام الفرقاء في تنفيذ موجباتهم التي حدّدت منذ بداية انعقاد العقد بصورة صحيحة، إلاّ أنّه قد يتعرّض المدين أحياناً وبسبب ظروف غير متوقّعة وأجنبية إلى أن يصبح تنفيذ التزامه مرهقاً، يؤدّي إلى إفقار ذمّته المالية، وبالمقابل فإنّ ذلك يؤدّي حكماً إلى إثراء ذمّة الدائن، ممّا يستوجب تدخّل القاضي لإعادة الالتزام المرهق إلى الحدّ المعقول بعد توافر شروط الظروف الطارئة، لأنّه في حال تحقّقت شروط القوّة القاهرة كما ذكرنا سابقاً يؤدّي إلى استحالة تنفيذ العقد، وبالتالي لا تنفّذ الموجبات.
إنّ أهمّية دور القاضي في ظلّ الظروف الطارئة تكمن في تعديل العقد وإقامة العدل وصيانة الحقوق، سعياً لتحقيق التوازن بين أطراف العقد وإن كان يعدّ تدخّل القاضي في العقد خروجاً عن القاعدة العامة التي تقضي بأنّ العقد شريعة المتعاقدين.
بالنسبة للمشرّع اللبناني لم يلحظ مطلقاً أيّ دور مباشر للقاضي في ظلّ الظروف الطارئة للتدخّل في تعديل العقود لتحقيق التوازن بين أطراف العقد كما فعلت العديد من الدول الأخرى، حيث لم يأت نصّ واضح في قانون الموجبات والعقود يجيز للقاضي التدخّل لإعادة التوازن إلى الموجبات المتبادلة في حال الظروف الطارئة التي ترهق أحد أطراف العقد الذي معه تنتفي العدالة والتوازن في تنفيذه.
باستثناء بعض الآراء والدراسات الخجولة التي تطرّقت لهذا الموضوع حيث اعتبرت أنّ التدهور المفاجىء في قيمة النقد الوطني، أو الإرتفاع الهائل وغير المتوقّع في الأسعار نتيجة التضخّم الداهم في الإقتصاد الوطني خلخلت القواعد الإقتصادية، أو إفلاسات المصارف تعتبر من الظروف الإستثنائية وتؤدّي بدورها إلى خلل كبير في تنفيذ الموجبات وتعادل الموجبات وإلى افتقار أحد أطراف العقد وإثراء الطرف الآخر ودون أن ترقى هذه الدراسات والآراء والصادرة عن كبار رجال الفقه والقانون أيّ آذان صاغية لإحداث تعديل تشريعي يراعي التعامل مع مثل هذه الظروف الطارئة والاستثنائية بالنسبة للعقود.
وعليه، في ظلّ هذه الأوضاع ، يبقى السؤال ما هي إمكانيات تدخّل القاضي في تعديل العقد بغية معالجة الإختلال الإقتصادي للعقد؟
مع الإشارة إلى أنّ كثيراً من القوانين والتشريعات قد أوردت نصوصاً قانونية تعالج مثل هذه الحالات والأوضاع نذكر منها على سبيل المثال التالي:
ففي القانون الجزائري، نصّت المادة 707/3 من القانون المدني “…أن يرد الإلتزام المرهق إلى الحدّ المعقول …” أيّ منح للقاضي حقّ التدخّل في العقد من أجل إقامة العدل في تنفيذ الموجبات وأن لا تأتي على حساب طرف دون الآخر.
وورد في القانون العراقي المدني وتحديداً في المادة 146 منه على أنّه “إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقّعها وترقب على حدوثها أنّ تنفيذ الإلتزام التعاقدي … صار مرهقاً للمدين … جاز للمحكمة … أن تنقص الإلتزام المرهق إلى حدّ معقول…”.
كذلك فعل القانون المدني القطري في المادة /171/ والذي جاز عرض الأمر على المحكمة ليتدخّل القاضي موازياً بين مصلحة الطرفين في حال وجود ظروف استثنائية. إضافةً إلى أنّ القانون المصري في المادة 147 يسلك الطريق نفسه ليجيز للقاضي التدخّل لتأمين العدالة في تنفيذ العقود في ظلّ الظروف الاستثنائية.
وفي أحدث تعديل تشريعي يتناول هذا الموضوع، قام المشرّع الفرنسي في 10 شباط 2016 بتعديل نصّ المادة /1195/ من القانون المدني بموجب القرار رقم 2016/131، حيث ورد فيها: “إذا كان هناك تغيير في ظروف غير متوقّعة عند إبرام العقد ممّا يجعل التنفيذ مرهقاً بشكل مفرط للطرف الذي لم يوافق على تحمّل المخاطر، يجوز له أن يطلب إعادة التفاوض بشأن العقد مع الطرف أو المتعاقد الآخر على أن يبقى على تنفيذ التزاماته خلال مدّة التفاوض، وإذا لم يتفق الطرفان على مضمون جديد للعقد خلال فترة زمنية معقولة، فقد أجاز المشرّع للقاضي أن يتدخّل بناءً على طلب أحد الطرفين في العقد ويعدّل مضمونه أو يقوم بفسخه”.
ويقتضي وفي خاتمة هذا البحث، وفي ظلّ وقوع العقود بين مطرقة القانون والظروف الإستثنائية يجب حثّ المشرّع اللبناني على الإسراع في إدخال تعديلات على قانون الموجبات والعقود أسوةً بتشريعات الدول الأخرى، لا سيّما التشريع الفرنسي حيث تجيز هذه التعديلات للقاضي التدخّل في تعديل العقود بعد طلب أحد الفرقاء في العقد لحماية التوازن الإقتصادي للعقود وحماية مبدأ العدالة والإنصاف في تنفيذ العقود وذلك عند حدوث أيّ ظروف طارئة أو استثنائية لم تكن متوقّعة عند إبرام العقد.
وحتّى ذلك الوقت، ونظراً لبطء ورتابة العملية التشريعية وما قد يلحق من أضرار جسيمة أثناء ذلك قد تصيب المتعاقدين لا بدّ للمحاكم اللبنانية أن تلعب دوراً أكبر لتأمين العدالة في تنفيذ العقود عن طريق تفعيل المبادىء القانونية ومن أهمّها مبدأ العدالة في تطبيق وتنفيذ العقود سنداً لحسن النيّة، ومبدأ الإنصاف من أجل المحافظة على عدالة العقود في ظلّ الظروف الاستثنائية المتمثّلة بوضع اقتصادي منهار وفقدان قيمة النقد الوطني وارتفاع نسبة التضخّم والأسعار في لبنان، وتفشّي جائحة “كورونا”، من أجل منع إرهاق المدين والحؤول دون إثراء غير مشروع لمصلحة مدين على حساب الفريق الآخر.
إضافةً إلى ذلك، تفعيل النصوص القانونية التي تجيز للقاضي التدخّل في الحدّ الأدنى في العقود والتي نذكر منها على سبيل المثال المادة /4/ من قانون أصول المحاكمات المدنية (الفقرة الأخيرة) والمواد /115/، /221/، /241/ لا سيّما الفقرة الثالثة منها و/300/ من قانون الموجبات والعقود وغير ذلك من النصوص القانونية المتناثرة في ثنايا القوانين اللبنانية والتي يمكن الإستفادة منها في مثل هذه الأوضاع.
وهذا الأمر واجب في ظلّ هذه الأوضاع المتدهورة، حيث نجد على سبيل المثال أنّ دولاً كثيرة نذكر منها الولايات المتحدة الأميركية والصين قد تدخّلت لمساعدة الشركات والمؤسّسات والأفراد المتعثّرين في القطاع الخاص عن طريق إصدار ما يسمّى بشهادات “القوّة القاهرة” لإعفاء الفرقاء في العقود من مسؤولياتهم التعاقدية التي يصعب الوفاء بها في ظلّ هذه الظروف الإستثنائية التي تمرّ بها هذه البلاد.
* دبلوم دراسات عليا في قانون الأعمال.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/6/3