القاضي جوزف القزّي يروي لـ”محكمة” وقائع قتل القاضي كسبار أمام عينيه وعدم استجوابه للسنيورة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
كاد جوزف القزّي أن يستظلّ المحاماة طوال العمر حتّى ولو لم يتقاض أتعابه المالية على دعاوى رابحة، وألاّ يدخل الجسم القضائي بتاتاً، وذلك بسبب إجحاف وزير العدل إميل تيّان المستند إلى قانون “الحظوة والنفوذ” المطرّز على قياس السياسة اللبنانية، غير أنّ معرفة رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي بالأمر الذي لم يكن وزير العدل يخجل من القيام به، والمتعارض مع مبدأ فصل السلطات ولو ضمن السلطة الواحدة، أنقذ الموقف في اللحظة الأخيرة، وأعاد الحقّ إلى صاحبه.
فبعد انتهائه من دراسة الحقوق وحيازته الإجازة فيها، تدرّج القزّي في مكتب المحامي عصام ناصيف(عضو مجلس نقابة المحامين في بيروت بين العامين 1987 و1989)، وتسنّى له ذات يوم من العام 1965، أنّ يربح دعويين معاً، من دون أن يتقاضى ليرة واحدة لقاء التعب المبذول منه في تحقيق الربح لموكّليه، وبدت علامات الإشمئزاز والتذمّر على وجهه خلال مروره في ردهة قصر عدل بيروت حيث لاحظ عليه صديقه المحامي غسّان أبو علي ذلك، فاستوقفه وسأله عن الخبر خشية أن يكون به سوء، فقصّ عليه حكايته المريرة، إذ كيف يمكن لرابح أن يكفهرّ محيّاه بدلاً من ظهور علامات السرور عليه، وما كان من الأخير، إلاّ أن أبلغه بأنّ وزارة العدل أعلنت عن مباراة للقضاء العدلي، وحثّه على الترشّح لها والخضوع لامتحاناتها، لعلّه يعوّض إجحاف عدم دفع الأتعاب في مهنة المحاماة.
مرشّحو تيّان للحلول مكان الفائزين
وبالفعل هرول جوزف القزّي إلى مبنى وزارة العدل، واطلع على الشروط الواجب توافرها في المرشّحين، وسجّل المستندات المطلوبة وعمل على تأمينها وتقديمها، ثمّ خضع للمباراة وحلّ ثانياً في الترتيب العام ضامناً لنفسه مركزاً لا يمكن لأحد أن ينافسه عليه، خصوصاً وأنّ عدد المطلوب نجاحهم هو ثلاثة عشر مرشّحاً فقط.
إعتقد جوزف القزي أنّ الحظّ حالفه وبات قريباً من الالتحاق بالسلطة الثالثة في البلاد، غير أنّ خبراً نشره وزير العدل إميل تيّان في قصر العدل، وفي صفوف القضاة والمحامين، بأنّه يريد ممارسة صلاحياته وحقّه بتعيين ثلاثين في المئة من عدد القضاة المطلوبين، أيّ ما نسبته ثلاثة قضاة من أصل ثلاثة عشر قاضياً مطلوباً، وهو ما يخوّله إيّاه قانون تنظيم القضاء العدلي القديم ، فأدرك القزّي أنّه صار خارج معادلة الفائزين، لأنّ تيّان وضع نصب عينيه إنجاح ثلاثة مرشّحين مسيحيين للحلول مكان ثلاثة مسيحيين آخرين، من دون الاقتراب من “حصّة” المسلمين، ممّا يعني أنّ القزّي “طار” بالتعبير العامي.
لم ييأس إبن بلدة الرميلة الشوفية الساحلية من الغبن اللاحق به، وصمّم على استعادة حقّه قبل إعلان النتائج رسمياً وصدور مرسوم التعيينات، وتوجّه إلى منزل أستاذه في كليّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية يوم كان مقرّها في محلّة الصنائع في بيروت، القاضي الدكتور عاطف النقيب بعدما استدلّ عليه في محلّة المزرعة في بيروت.
لم تكن تربط القزّي أيّة علاقة قوّية بالقاضي النقيب، سوى أنّه أستاذه في الجامعة، ولكنّه كان قد سمع عن مناقبيته العالية وحبّه لعمل الخير، وإعطائه الحقّ لصاحبه مهما كانت الصعوبات والعراقيل التي تقف في طريقه ويمكن لها أن تحول بينه وبين حقّه الشرعي.
طرق الشاب القزّي باب المنزل، ففتحت له زوجة النقيب الذي لم يكن موجوداً، فرحّبت به واستقبلته في الدار بانتظار عودة النقيب من السوق حيث كان يبتاع بعض الحاجيات المنزلية. وما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى عاد رئيس محكمة الاستئناف في بيروت والعضو في مجلس القضاء الأعلى. صافحه واستفسر منه عن سبب الزيارة، فأعلمه بنجاحه في مباراة الدخول إلى القضاء، وبإمكانية استبعاده من قبل وزير العدل ظلماً وعدواناً، بترسيبه لإنجاح مرشّحين محسوبين عليه ومقرّبين منه لم يتمكّنوا من الحلول في قائمة الثلاثة عشر ناجحاً المطلوبين كما هو محدّد مسبقاً وبقرار وزاري موقّع من تيّان نفسه.
المنقذ رشيد كرامي
كان النقيب على علم بقرار وزير العدل، ولكنّه لم يكن بمقدوره هو وبقيّة أعضاء مجلس القضاء الأعلى الوقوف في وجهه، وتعطيل خطوته، لأنّه تصرّف يرتكز على القانون، ولكنّه وعد القزّي ببذل قصارى جهده لاسترجاع حقّه، فشكره وخرج من منزله، من دون أن يفقد الأمل، وإنْ خفّ منسوبه لديه قليلاً.
وفي اليوم التالي، كان مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي بدري المعوشي(1902-1995) يعقد جلسة عادية في مكانه المعتاد في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت، وكان جوزف القزّي واقفاً بالباب يسعى جاهداً إلى تلقّف أيّ خبر يأتيه من المجتمعين، يثلج قلبه، وينعش آماله، حتّى خرج القاضي النقيب والإبتسامة تملأ عينيه، ورأى القزّي منتظراً، فبشّره بأنّ رئيس الحكومة رشيد كرامي(1921-1987) عرف بالأمر، فقرّر زيادة عدد الناجحين إلى ستّة عشر قاضياً متدرّجاً، ويكون بذلك قد أعاد الحقّ إلى أصحابه المعرّضين لخطر الإستبعاد من وزير العدل، من دون أن يكسر كلمة تيّان ويسلبه “حقّه القانوني” في تعيين حصّته البالغة ثلث عدد الفائزين تقريباً.
وهكذا صدر المرسوم رقم 3946 تاريخ 26 شباط 1966، حاملاً أسماء القضاة المتدرّجين الملحقين بمعهد الدروس القضائية وهم: ميشال يوسف غصن، جوزف ناجي القزّي، عدنان محمّد عضوم، جورج ديب غنطوس(1934-2008)، خليل علي رحّال، فايز طه الإيعالي(الذي عاد واستقال ليعمل في المحاماة)، عاصم جعفر صفي الدين، يحيى عبد العزيز مولوي، مارون جرجس عوّاد، فايز سليم مطران، غسّان أسعد أبو علوان، أمين فارس بو نصّار، مصطفى اسماعيل مكّي، سعيد توفيق سكاف، جورجيت سليم عربيد شدياق( 1932-2014)، ميشال منصور ليشع(توفّي في العام 2012). ثمّ طرأت تعديلات على قانون تنظيم القضاء فمحت “تدخّلات” وزير العدل بإلغاء المادة التي كانت تبيح له سلوك طريق النفوذ التعييني في القضاء، أو ما يمكن تسميته بالوساطة المغلّفة بالقانون.
محاكمة الأب حنّا الفاخوري!
ولد جوزف القزّي في العام 1941 من أب هو ناجي يعمل موظّفاً في أحد المصارف المالية، وماري القزّي ربّة منزل، فيما كان عمّه شاهين يوسف شاهين القزّي قائد الشرطة القضائية في العام 1952، ويحمل لقب “زعيم” أيّ برتبة عميد.
درس جوزف القزّي المرحلة الإبتدائية في مدرسة الفرير في رأس بيروت، والمرحلة الإعدادية المتوسّطة في الكلّيّة البطريركية في محلّة زقاق البلاط في بيروت حيث علّمه مادة الأدب العربي الأديب واللغوي والمؤرّخ الأب حنّا الفاخوري( مواليد بلدة مجدلون في محافظة بعلبك- الهرمل في العام 1916، وتوفّي في العام 2011)، ومرّت السنوات ليعودا ويلتقيا في دعوى تشييد بناء من دون ترخيص، إذ كان القزّي عضواً في محكمة البداية في زحلة، ومنتدباً قاضياً منفرداً جزائياً في بعلبك، عندما ورده محضر الدعوى، “فأرسلت الأوراق إليه وتبلّغ شخصياً ولكنّه لم يحضر، فأرسلتها ثانيةً إليه، ولم يحضر أيضاً، ولكنّني رفضت محاكمته غيابياً وأرجأتها إلى موعد آخر، واتصلت به هاتفياً طالباً موعداً لرؤيته، وذهبت إليه فرحّب بي، وأخبرني بأنّه أعطى الأرض في مجدلون لأخيه، وقدّم كتاباً للمحكمة يثبت فيه تنازله عن هذه الأرض، وعليه أصدرت الحكم على الأخ، وليس على الأب”.
مساعد قضائي ورفاق الحقوق
وتابع القزّي تحصيل العلوم الثانوية في معهد الرسل جونيه حيث كان تلميذاً داخلياً، ثمّ دخل إلى كليّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية القريبة من منزل ذويه في محلّة الصنائع وانصرف إلى متابعة الدراسة والعمل كمساعد قضائي لمدّة ثلاث سنوات بين العامين 1961 و1964، في محكمة الجزاء في جديدة المتن برئاسة القاضي جورج باسيل الذي توفّي في شهر نيسان/أبريل من العام 2010.
ضمّته قاعات الدراسة في كلّيّة الحقوق، إلى جانب القاضي بشارة متّى، والنائب والوزير والمحامي زاهر أنور الخطيب، والمحامي فؤاد شبقلو، فيما كان في الصفّ الأعلى منه كلّ من الرئيس نبيه برّي، والقاضي طربيه رحمة. أمّا الأساتذة، فهم كبار في القانون سجّلوا أسماءهم بأحرف من ذهب على لوح التدريس والأحكام والاجتهادات وهم: القضاة عاطف النقيب، وخليل جريج(1906-1991)، وألبير فرحات( رئيس مجلس القضاء الأعلى بين العامين 1967 و1968)، وصبحي المحمصاني( 1909- 1986)، الوزير ونقيب المحامين في بيروت وسائر لبنان “الإشتراكي” فؤاد رزق، والمحامي البارع في القانون البحري روجيه إسكندر نجّار( توفّي في العام 2009)، ورئيس الحكومة الأسبق والنائب والمحامي والدكتور أمين إسماعيل الحافظ( 1926-2009)، والدكتور إدمون ربّاط( 1904- 1991) الذي كان “مميّزاً في محاضراته المشوّقة والمفيدة وبسماعه كنّا نستغني عن قراءة الكتاب، والأمر نفسه كان يحصل مع عاطف النقيب”.
الحظّ لعب دوره
ولا ينسى جوزف القزّي من دراسته الجامعية حادثة كادت تطيح جهوده وتضطرّه إلى إعادة السنة الرابعة والأخيرة، فبعدما نجح في الإمتحان الخطّي” أخذت أدرس وزميلي بشارة متّى إستعداداً للإمتحان الشفهي، غير أنّني تناولت الطعام وأصبت بحالة تسمّم، فأوصلني بشارة إلى المنزل ولم يعد بمقدوري أن أقرأ، وراح إخوتي يتناوبون على تلاوة النصوص والكرّاسات عليّ، إلى أن حان موعد الإمتحان وكان في مادة قانون الطيران التي درّسنا إيّاها المحامي والدكتور الموسوعي في شؤون الطيران ريمون عقل فرحات(1930-2014) الذي نادى على الطلاّب ليدخلوا عليه إثنين إثنين، فتقدّم أكثرهم إجتهاداً وتميّزاً رفيق لنا، وصار الآخرون يتهرّبون الواحد تلو الآخر خشية الإخفاق في المواجهة أمام هذا الطالب، ولم أتمكّن من مجاراتهم في الهرب، فدخلت معه وأنا أندب حظّي العاثر، فسأله فرحات عن منظّمة الطيران العربية الموحّدة، أيّ توحيد شركات الطيران بين الدول العربية، فأجابه زميلي بحرفية تامة، وسأله ثانية عن المشاكل العملية التي تثيرها هذه الوحدة، فلم يعرف الإجابة، ومن حسن حظّي أنّ جواب هذا السؤال مكتوب في هامش الكتاب وقلّما يلتفت إليه أحد، وسبق لي أن قرأتها، ولكنّني لم أرد أن أظهر أنّني أعرف الجواب فيحجبه عني فرحات الذي نظر إليّ مكرّراً السؤال نفسه، فأجبته جواباً صحيحاً وابتسم، وسألني سؤالاً ثانياً كلاسيكياً ولم أخيّب ظنّه، ونلت العلامة نفسها التي أعطيت لزميلي المجتهد، مع أنّني لا أعرف ربع معلوماته، وهكذا لعب الحظّ دوره معي”.
مراكزه القضائية
بعد تخرّجه من معهد الدروس القضائية في 31 تموز/يوليو من العام 1968 وكانت المرّة الأولى التي تطبّق فيها السنوات الثلاث كاملة، عيّن عضواً في محكمة البداية في زحلة برئاسة القاضي كامل ريدان(1921-2012)، قاضياً منفرداً جزائياً في بعلبك، قاضياً عقارياً في البقاع في العام 1974 ثمّ انتدب محامياً عاماً إستئنافياً في البقاع للحلول مكان القاضي سامي يونس الذي كان مريضاً آنذاك( عاد وعيّن وزيراً للتأهيل الإداري بين العامين ١٩٨٠ و١٩٨٢، وعضواً في المجلس الدستوري)، فقاضي تحقيق أوّل في البقاع بين العامين 1980 و1990، وانتدب قاضياً منفرداً في جونيه بين العامين 1984 و1985 بعدما تعذّر عليه الصعود إلى البقاع، كما شغل منصب رئيس محكمة إستئناف في زحلة في العام 1991، ورئيس الغرفة السادسة لمحكمة الإستئناف في بعبدا بين العامين 1992 و1998 ونظر خلالها في دعاوى الإيجارات واستئناف الجنح، ومستشار مدني في المحكمة العسكرية الدائمة، وقاضي تحقيق أوّل في جبل لبنان في العام 1998، وانتهى المطاف به رئيساً لمحكمة التمييز العسكرية بدءاً من العام 2002 ولغاية تقاعده في الأوّل من شهر تموز/يوليو من العام 2009.
جريمة قتل القاضي كسبار
وخلال خروجه من قصر عدل زحلة، إغتيل ضيفه وصديقه المحامي العام الاستئنافي في بعلبك القاضي قبلان كسبار أمام عينيه، ” ففي 14 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1975، زارني كسبار في مكتبي في قصر العدل ودعوته لتناول الغداء في منزلي فوافق، وأجرى سلسلة إتصالات هاتفية، ثمّ خرجنا من المكتب، وكانت عقارب الساعة تشير إلى تجاوز الساعة الثانية عصراً، وهبطنا الدرج إلى المدخل الخارجي حيث لم تكن توجد إلاّ سيّارتان، سيّارتي، وسيّارة كسبار، فسألني بأيّ سيّارة نذهب؟ فأجبته: ليذهب كلّ واحد منا في سيّارته، وأدرت المحرّك بنيّة السير، فشاهدت العريف في قوى الأمن الداخلي فيليب ميشال أبو حيدر واقفاً في الزاوية وشاهراً بندقيته الحربية الأميركية، ولكنّي لم أشكّ للحظة في مرامه، لأنّه كان يوجد مسلّحون قنّاصون في الأبنية المقابلة فقلت في سرّي لأذهب بسرعة قبل حصول أيّ مكروه، وما إن قطعت مسافة قصيرة باتجاه الزاوية الأخرى من قصر العدل حتّى سمعت أزيز ثلاث رصاصات، فسألت أحد رجال التحرّي عن الأمر، فقال لي:” الأخوت قوّصوا للمدعي العام”، فرجعت أدراجي واقتربت من سيّارة كسبار الذي كان قد فارق الحياة فوراً”.
لا تنتهي حكاية الاغتيال هنا، ويكمل القزّي :” الغريب أنّ أحداً من القائمين بالتحقيق لم يسألني عن الأمر لغاية تدوين ما أرويه هنا”.
وظلّ القاتل فيليب أبو حيدر فاراً من وجه العدالة ويعيش حياة طبيعية وهائنة في بلدته طليا الواقعة في محافظة بعلبك- الهرمل، إلى أنّ تمّ توقيفه ومحاكمته أمام محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي إلياس نايفة، والتي أنزلت به عقوبة الأشغال الشاقة المؤبّدة في العام 2008.
جريمة بسبب صفعة كفّ
أمّا سبب هذا الاغتيال، فهو أنّ القاضي كسبار كان يحقّق في منزل مشبوه في بلدة برّ الياس البقاعية، وترافقه مجموعة حماية من رجال التحرّي في قوى الأمن الداخلي بينهم أبو حيدر الذي أبدى تصرّفاً أزعج كسبار، فانفعل هذا الأخير ولم يستطع ضبط أعصابه، وصفعه بكفّه على وجهه، على مرأى من رفاقه الذين صاروا يهزأون منه كلّما بدر منه أمر خفيف يناسب شخصيته، ويقولون له:” “منجبلك قبلان كسبار”، فقرّر التخلّص من هذه العقدة النفسية.
ويخبر القاضي القزّي أنّ “كسبار كان يسكن في محلّة الصنائع في بيروت حيث كان أبو حيدر يتردّد عليه بداعي الإستفسار عنه تمهيداً للثأر منه، وذات يوم هاجمه بسكّين بغية طعنه، فاستطاع كسبار الإمساك به، قبل أن يغرزها في جسده وأوقفه، وخلال محاكمته ترافع كسبار الذي كان قد أسقط حقّه الشخصي، طالباً له الشفقة والرحمة، وهذا ما أدّى إلى عدم الحكم على أبو حيدر بعقوبة كبيرة، لكنّه صمّم على قتله مستغلاً ظروف الحرب اللبنانية ونفّذ مخطّطه وقتله”.
بنزين الهراوي!
ولتعيينه مستشاراً في المحكمة العسكرية الدائمة قصّة مع رئيس الجمهورية إلياس الهراوي(1926- 2006) الذي كان يعرفه منذ أن سكن في زحلة بالتزامن مع وظيفته القضائية، ولم يكن القزّي مقتنعاً بهذا المركز كونه شغل مناصب أهمّ وأفضل في السلك القضائي، ليتبيّن أنّ وراء ذلك هو الهراوي نفسه الذي أخبره بحقيقة الأمر بعد مفاتحته له به، إذ كان الهراوي يظنّ أنه بذلك يؤدّي له خدمة جليلة، وقال له:” بيعطوك مرافق وبونات بنزين”!. وبعدما تفاعل القزّي مع هذا المركز وسطّر فيه الكثير من الأحكام، بات مقتنعاً به إلى حدّ القول:” أفتخر بأنّني عملت في المحكمة العسكرية، وشعرت بدوري، وكانت مكسباً لي”.
عدم توقيف السنيورة
ولعلّ أهمّ ملفّ صادفه القزّي كقاضي تحقيق أوّل في جبل لبنان، هو ذلك المتعلّق بهدر المال العام في محرقة معالجة النفايات في محلّة برج حمود، والمدعى فيه آنذاك في مطلع العام 2000 على وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة، والنائب حبيب حكيم (مواليد العام 1926) بصفته رئيساً سابقاً لإتحاد بلديات المتن الشمالي الساحلي والأوسط، فأوقف الأخير فور اعترافه أمامه، بينما نجا الأوّل بضربة “قضائية سياسية” مدروسة في الكواليس، قضت بتقديم دفع شكلي بعدم صلاحية القضاء العدلي، فردّه القزي حافظاً هذه الصلاحية لهذا القضاء، بينما قرّرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بعد رفع الملفّ إليها، إعتبار القضاء العدلي غير ذي اختصاص، وأحالته على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وكان الرئيس رفيق الحريري(1944-2005) قد عاد إلى السلطة ورئاسة الحكومة بعد الانتخابات النيابية في العام 2000، فقرّر المجلس النيابي عدم تأليف لجنة تحقيق بالاتهامات الموجّهة ضدّ السنيورة، لتسقط فوراً في جلسة هزلية وسط تصفيق النوّاب على هدر المال العام الذي ذهب من الخزينة وجيوب الناس، ولم يسأل عنه أحد.
ومع أنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم قبل تعديله في العام 2001، كان يتيح للقاضي توقيف المدعى عليه، إلاّ أنّ القزّي إستنكف عن اتخاذ هذه الخطوة القانونية عند مثول السنيورة أمامه، فلم يوقفه بسبب عدم استجوابه له.
أعلى قاض لبناني
ووصل القاضي القزّي إلى الدرجة 22 المعمول بها في القضاء، وبقي أعلى قاض في لبنان مدّة سبعة أشهر تقريباً، وتحديداً منذ تقاعد صديقه وزميل دراسته وزير العدل والنائب العام التمييزي الأسبق القاضي عدنان عضوم في 10 كانون الثاني/يناير من العام 2009.
وإلى جانب العمل القضائي، درّس القزّي مادة المدخل إلى القانون المدني في الفرع الرابع لكلّيّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية في مدينة زحلة بين العامين 1977 و1985، كما درّس التمارين العملية للقانون المدني في كلّيّة الحقوق في جامعة الحكمة بين العامين 1985 و2000، ومادة القانون المدني في كلّيّة الهندسة في جامعة القديس يوسف “اليسوعية” بين العامين 1985 و1990، وعيّن عضواً في لجنة تحديث القوانين النيابية بين العامين 2000 و2009.
فصل السياسة عن الإدارة والقضاء
يؤيّد القزّي فكرة رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد شهاب( 1902-1973) في فصل السياسة عن الإدارة والقضاء، ويأمل في أن يتمكّن القضاة يوماً، من تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى بأنفسهم وليس بواسطة السياسيين، مستثنياً المناصب الحكمية الثلاثة من هذا الأمر وهم: رئيس المجلس، والنائب العام التمييزي، ورئيس هيئة التفتيش القضائي، على أن يجري “تفعيل الثواب والعقاب بين أهل العدل، لأنّه لا يجوز مقارنة من لا يعمل بمن يعمل بجدّ ونشاط، ويكون الإختيار للكفاءة، وليس للولاء السياسي”.
تزوّج الماروني جوزف القزّي من الأرثوذكسية رينيه غنطوس شقيقة القاضي الراحل جورج غنطوس، ورزقا بأربعة أبناء هم: تانيا المتزوّجة من دنيس سمعان، وناجي الطبيب في أمراض القلب والشرايين، وميريا زوجة القاضي “المشاغب بنزاهة” جوني القزّي، والمحامي رمزي.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد الأوّل – تشرين الثاني 2015)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.