القاضي نفسه في اليوم نفسه يتبنّى سعرين للدولار الأميركي.. نماذج عن تناقض القرارات والأحكام/ملاك خضر
المحامية المتدرّجة ملاك خضر:
صدر قراران متناقضان عن المحكمة ذاتها وفي اليوم ذاته يتبنيان سعرين مختلفين للدولار الأميركي، والشيك الذي كنا نعرفه كوسيلة دفع، تحوّل في بعض الإجتهادات إلى حبر على ورق، مجرّد من أيّة قيمة مالية.
ماذا يحدث؟!
لا شك أن لبنان يعيش أزمة اقتصادية مالية نقدية بدأت منذ صيف العام ٢٠١٩ وما زالت مستمرّة لا بل تزداد تفاقمًا وتعقيدًا.
كما يحدث في جميع الأزمات تكثر الخلافات وتطرح حالات لم يكن المشترع قد توقّع حدوثها فيأتي دور القضاء ليجد الحلول المناسبة إستنادًا للقانون الوضعي أو لمبادئ العدل والإنصاف أو للأعراف والمبادئ القانونية المتعارف عليها.
ففي ظل امتناع المصارف عن فتح الحسابات المصرفية وصرف الشيكات، وفي ظلّ تعدّد أسعار صرف الدولار بين سعر رسمي قديم وسعر رسمي حديث، وبين سعر صيرفة وبين سعر للسوق السوداء، بالإضافة إلى التصدّي لكلّ من يحاول استغلال الأزمة والإثراء غير المشروع على حساب الغير.
هذا الواقع الجنوني، فرض إزدواجية على عدة أصعدة. فمثلاً وعلى صعيد استيفاء الرسوم القضائية، فبعض المحاكم تعتمد سعر منصة صيرفة لتسديد الرسوم المالية، فيما تعتمد محاكم أخرى السعر “الرسمي” البالغ 15.000 ل.ل.(مع الإشارة إلى أن عبارة “رسمي” أيضًا موضوع خلاف كون سعر صرف الدولار يحّدد بموجب قانون).
وعلى صعيد الأحكام أيضًا، يعيش القضاء ازداوجية في ظلّ تبدّل الوقائع بين القضايا، وكونه لا يجوز لا قانونًا ولا أخلاقًا للقضاء أن يستنكف عن إحقاق الحقّ، فنجد الكثير من التناقض والتخبّط والإختلاف، وهذا أمر طبيعي عند تبدّل الظروف وتغيير الاجتهادات حتّى من قبل المحكمة ذاتها وبالتاريخ ذاته.
فهذا ما حدث في قرارين صادرين بالتاريخ ذاته أمام المحكمة ذاتها واليوم ذاته!
فمحكمة البداية العقارية في جبل لبنان برئاسة القاضي لبيب سلهب، إعتمدت سعرين لليرة اللبنانية وذلك بحسب حيثيات كلّ قضية.
ففي القرار رقم 2023/38 الصادر بتاريخ 2023/4/20، وفي البند الثالث من الفقرة الحكمية، حكمت المحكمة “بإلزام الجهة المدعية بأن تسدّد للمدعى عليه مبلغ 395.167 دولار اميركي. على ان يتم الدفع نقدًا وبالدولار الاميركي أو ما يعادله بالليرة اللبنانية بحسب سعر منصة صيرفة المنشأة من مصرف لبنان بتاريخ الدفع الفعلي.”
وفي قرار آخر عن المحكمة ذاتها وبالتاريخ عينه وتسديدًا لمبلغ 50.000 دولار اميركي، قرّرت المحكمة قبول إثبات صحة عرض إيداع شيك مصرفي بالليرة اللبنانية لدين بالدولار على أساس سعر رسمي لليرة يبلغ 1515 بحيث نصّ البند الثالث من القرار رقم 2023/41 على “الترخيص للمدعى عليهما باستلام أصل الشيك موضوع العرض والإيداع بقيمة 75.750.000 ليرة لبنانية”.
وفي اختلاف لرؤية المحكمة ذاتها ضمن ايداعٍ لشيك مصرفي بالليرة اللبنانية على أساس سعر 1515 ل.ل. كان اتجاه المحكمة مختلفًا بحيث أبطلت المحكمة معاملة العرض والإيداع للشيك المتعلّق بالدعوى رقم 2020/9378 تاريخ 2023/7/6 بحيث نصّ القرار على أنّه “…. وفي غياب السعر القانوني النهائي أو الانتقالي لليرة اللبنانية، يبقى أنّ سعرها تحدّده القوة الشرائية التي يحكمها العرض والطلب…. وتبعًا لما تقدّم يكون المبلغ المعروض والمودع بموجب شيك مصرفي بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف غير رسمي وغير حقيقي….غير مبرىء لذمّة المدين”!
وعلى صعيد الإيداع الحاصل للشيكات المصرفية بالدولار الأميركي، وبعدما كان الشيك في اجتهادات ما قبل الأزمة المصرفية وسيلة دفع، وبعد الأزمة المصرفية وامتناع المصارف عن تسليم المودعين أموالهم ومحاولة البعض تهريب ما يستطعيون منها عبر الاستفادة من إيداع شيكات مصرفية تسديدًا لديونهم رغم علمهم أنّه لا يمكن قبضها، ما فرض على القضاء غالبًا إبطال الإيداعات الحاصلة.
ففي قرار يحمل الرقم 2021/718 تاريخ 2021/12/30 الصادر عن محكمة الإستئناف في بيروت برئاسة القاضي حبيب مزهر، والمتعلّق بحجز سفينة تأمينًا لديون العاملين فيها، رأت المحكمة “وحيث من المعلوم أنّ مجرّد تسليم الشيك الى المستفيد لا يعتبر بذاته وفاءً تامًا للدين، إنّما وفاء معلّقًا على شرط تحصيل قيمته، بحيث إنّ الوفاء لا يتمّ إلّا عند تحصيل هذه القيمة من المسحوب عليه…. وفي ضوء الواقع المصرفي الراهن المعلوم من الجميع… فإنّ دين المؤونة الذي للساحب بذمّة المسحوب عليه، لم يعد قابلًا للتصرّف به إذا كان بالعملة الأجنبية، إذ لم يعد قابلًا للتسييل نقدًا بقيمته الإسمية… ولا يعتبر محقّقًا لشروط الإيداع المنصوص عليها في المادة 857 أ.م.م”.
وفي الإطار ذاته، وفي قرار صادر عن المحكمة الإبتدائية في بيروت برئاسة القاضي ريما شرف الدين يحمل الرقم 2023/138 تاريخ 2023/7/13 ردّت الدعوى الرامية إلى إعلان صحة ايداع شيك مصرفي معتبرة أنّه “لا يمكن اعتباره ايفاءً تامًا بحيث لا يقوم مقام إيداع مبلغ من النقود مساوٍ لقيمة الثمن المتوجّب، ولا يعتبر بالتالي إيداعًا قانونيًا محقّقًا الشروط الواجب توفرها في المادة 822 أ.م.م. لا سيّما في ضوء ثبوت عدم تمكّن المدعى عليها من قبض قيمة الدفعة الأولى المحرّرة بالطريقة ذاتها”.
إنّ التغيّر في اجتهاد غرف المحاكم ذاتها عبر تبنّيها لأسعار مختلفة للدولار الأميركي، يحتاج إلى جرأة كبيرة من قضاة يبدعون في خلق الحلول وتكييف النصّ القانوني على كلّ حالة على حده لتحقيق العدل والقيام بمهامهم ورسالتهم بكلّ أمانة كما يفرض عليهم يمينُ قسمهم، توصّلًا لاجتهادات راسخة عادلة تؤدّي إلى تعديلات في القوانين تعالج ما خلّفته الأزمة المالية الحادة وما نتج عنها من أزمات معيشية أثّرت سلبًا على مستوى الحياة الإجتماعية في لبنان.
“محكمة” – الأحد في 2023/9/17
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.