القصة الكاملة لتفجير برج البراجنة الانتحاري: العقل المدبّر والانتحاريون والمفخّخون والمهرّبون في قبضة “المعلومات”
كتب رضوان مرتضى في صحيفة الأخبار اليوم الاثنين في 14 أيّار 2018 التالي: هجوم برج البراجنة الانتحاري من أشدِّ الضربات إيلاماً التي نفّذها تنظيم “الدولة الإسلامية” داخل لبنان. التفجير الانتحاري المزدوج أسفر يومها عن استشهاد 43 مواطناً وإصابة أكثر من 200 آخرين. وحالت أخطاء ارتكبها المنفِّذون دون مضاعفة أعداد الضحايا واستهداف مستشفى الرسول الأعظم. “فرع المعلومات”، بسرعة قياسية، تمكّن من كشف وتوقيف معظم أفراد الخلية المخطِّطَة والمنفِّذة وأحبط هجوماً متزامناً في جبل محسن. سيق معظم المتورطين إلى التحقيق، فيما اعترف الموقوفون كيف جرى تجنيدهم ونقلهم وتزويدهم بالمتفجرات.
وكشفوا هوية الانتحاريين، بالاسم والصورة («الأخبار» تنشر صور الانتحاريين للمرة الأولى)، والعقل المدبّر الذي أرسلهم والمهرّبين الذين سهّلوا حركتهم وهرّبوا لهم المتفجرات والأحزمة الناسفة. وقد حصلت «الأخبار» على التحقيقات التي بيّنت إصدار القضاء قراره بإخلاء سبيل جميع المهربين الذين ساهموا في نقل الانتحاريين الذين فجّروا أنفسهم خلال عمليات انتحارية نُفِّذت ضد أهداف مدنية في لبنان. ترافق ذلك مع وساطات سياسية لترك موقوفين مشتبه في تزويدهم الإرهابيين بالمتفجرات، بعدما تبيّن للقضاء أن المهربين وبائعي المتفجرات لم يكونوا على علم بأن أعمال التهريب والبيع غير المشروع لها صلة بأعمال إرهابية!
اشتبهت دورية من فرع المعلومات في ملثّم يجول في شوارع طرابلس في وقت متأخر من الليل، على متن دراجة نارية. لاحقه العناصر للتحقق من هويته، ليتبين أنّه مسلّح يرتدي حزاماً ناسفاً. حاول تفجير نفسه بالدورية، لكن الحظ شاء أن تنكسر «عتلة» التفجير. ذلك الشاب كان الانتحاري إبراهيم ج. (مواليد ١٩٩٥)، أحد أفراد خلية تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي كان يُفترض أن يُفجّر نفسه في مقهى في جبل محسن بالتزامن مع الهجوم المزدوج الذي وقع غروب يوم الخميس نفسه (١٢ تشرين الثاني عام ٢٠١٥)، في تمام السادسة وخمس دقائق، في برج البراجنة، ما أدى إلى استشهاد 43 مواطناً وإصابة أكثر من 200 آخرين.
هزّ دوي الانفجار ضاحية بيروت الجنوبية. الكشف الأوّلي بيّن أنّ الانفجار الأول ناجم عن انفجار دراجة نارية كان يستقلها شخص يرتدي حزاماً ناسفاً، فيما فجّر انتحاري نفسه بعد دقائق وسط الناس الذين تجمهروا. الشخص الذي ركن الدراجة كان انتحارياً أيضاً، لكن عصف الانفجار قَتَله ليتدلّى الحزام الناسف على جثته. لم يكن لدى القوى الأمنية سوى رأس خيط واحد: الموقوف إبراهيم ج. وحزامه الناسف، وأجزاء حزام ناسف من انفجار البرج، سلّمها حزب الله إلى فرع المعلومات. الفحوصات التقنية التي أجراها الاخير أكدت أن حزام إبراهيم ج. مطابق لذلك الذي عُثِر على أجزاء منه في برج البراجنة. لم يكن استجواب الشاب العشريني سهلاً. راوغ، غيّر إفادته مرات عدّة طوال يومين قبل أن يعترف. روى كيف انتقل قبل أشهر الى الرقة عبر تركيا ليلتحق بتنظيم «الدولة الإسلامية». وهناك خضع لدورات أمنية وشرعية. اجتمع بعدها بأحد أمراء التنظيم الملقب بـ«أبو الوليد السوري» الذي أقنعه بتنفيذ عملية انتحارية في لبنان، وطلب منه العودة الى طرابلس واستئجار شقة لإيواء انتحاريين. عندها تواصل إبراهيم مع أصدقائه خالد ز. ويوسف ع. وحمزة ب. عبر تطبيق واتساب. أبلغ إبراهيم صديقه حمزة أنه عائد إلى لبنان لتنفيذ عمليات، طالباً منه استئجار شقة لتخزين المتفجرات والأدوات اللازمة لصنع الأحزمة والعبوات الناسفة. جمعه بعد ذلك «الأمير أبو الوليد» مع أربع شبان سوريين في أواسط العشرينات، علِم منهم أنّهم سيُنفِّذون عمليات انتحارية، قبل أن يبلغه أنّ عليه أنّ يتوجه إلى لبنان لبدء المهمّة بعد أسبوعين.
عاد إبراهيم عبر تدمر والحسية السوريتين، سالكاً طُرُق التهريب، قادماً من «عاصمة الخلافة» إلى القبّة في طرابلس. وبعد مرور عدة أيام على وصوله، تواصل معه «أبو الوليد» طالباً إليه تأمين مسكن بصورة فورية لاستقبال شبان وافدين من سوريا. استأجر إبراهيم وحمزة شقة مفروشة نقلا إليها شاباً مرسلاً من الرقة، بعدما مكث يومين في منزل ذوي حمزة. وفي اليوم نفسه، أعلمه أبو الوليد بأن شاباً آخر سيصل. أُبلغ «أبو الوليد السوري» بأن الأمر قد تمّ. وبعد أيام، أعلمه «أبو الوليد» عبر التلغرام بأن المهرّب سوف يتواصل معه ليسلمه بعض الأغراض. كلّف إبراهيم كلاً من بلال وحمزة ب. بتسلّم الأغراض من سائق سيارة الفان، ليتبين أنّها كمية من الفتيل المتفجّر، لونه أزرق، بالإضافة الى كمية من ذخيرة الكلاشنكوف التي جرى نقلها الى الشقة بواسطة حقائب. وبالطريقة نفسها، نُقلت كمية من الكرات المعدنية ومسدس حربي وجهاز استقبال وتحكم وموقِّت. كذلك نقل المهرّب كمية من المتفجرات التي جرى إخفاؤها داخل برّاد. عندها باشر أول الوافدين إلى الشقة إعداد الأحزمة الناسفة التي بلغ عددها عشرة. كذلك صنّع الشاب الذي يُكنّى بـ«وليد» عبوة ناسفة كبيرة. لم تكن الأمور تسير على ما يرام بين إبراهيم ورفيقه. فقد تشاجر عدة مرات مع الشاب السوري. عندها طلب «أبو الوليد السوري» نقل مُجهّز الأحزمة الناسفة إلى بيروت. وقد تولّى المهرّب نفسه نقله.
أحزمة ناسفة في الأشرفية
قبل يومين من التفجير، طلب «أبو الوليد السوري» نقل ثمانية أحزمة ناسفة إلى بيروت. كذلك نُقلت أجهزة تحكم واستقبال وموقّت تفجير. وفي اليوم التالي، اتّصل «أبو الوليد» مساءً ليطلب من إبراهيم نقل العبوة الناسفة إلى نقطة جرى استطلاعها بالقرب من أحد المقاهي في جبل محسن. وطلب منه تفجيرها في تمام الساعة السادسة من مساء اليوم التالي. فجْرَ ذلك اليوم، استقل دراجة نارية لينقل على متنها العبوة الناسفة إلى المكان المُحدّد. أوقف الدراجة بالقرب من بسطة لبيع القهوة، ليضع العبوة على بعد متر ونصف متر منها، ثم غادر المكان بعد تجنّب كاميرات المراقبة. لكنه فوجئ بسيارة تتبعه قبل أن تتمكن من توقيفه.
تمكّن ضباط الفرع الفنّي من تحديد طريقة التواصل التي كان يعتمدها الموقوف إبراهيم ج. مع مشغليه. وأسهم ذلك في تحديد هوية أعضاء الشبكة التي جهّزت وخطّطت ونفّذت هجوم برج البراجنة. أول الموقوفين كان شاباً سورياً يدعى عوّاد د. (مواليد ١٩٩١) يقيم في مخيم برج البراجنة. عوّاد هذا آوى انتحاريين وكان المعاون الأساسي لموفد التنظيم المتشدّد عبد الكريم ش. ع. (مواليد ١٩٩٤) إلى لبنان. أنكر عوّاد وجود أيّ علاقة له بأيّ من الانتحاريين. ولدى سؤاله عن عبد الكريم أجاب بأنّه اتصل به قبل أشهر سائلاً عن مكان إقامته، فأعلمه أنّه في برج البراجنة، عندها طلب منه استضافته في منزله عشرة أيام كونه سيحضر إلى لبنان بغية تحصيل مبلغ من المال له بذمة أحد أقاربه. وبعد حضوره، أعلمه أنّه تابع لـ«لواء الصدّيق» في تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يقوده أبو محمد العدناني. وأخبره أنّ أميره «أبو البراء العراقي» أرسله إلى لبنان بغية تجهيز وتأمين مكان لإقامة عشرة انتحاريين مهمتهم تنفيذ عملية تستهدف مستشفى الرسول الأعظم ومحيطه، بهدف قتل أكبر عدد من عناصر حزب الله ومناصريهم من الطائفة الشيعية. واعترف أنه استقبل الانتحاري عماد المستّت ونقله من هناك إلى الأشرفية ليكون إلى جانب الانتحاري الآخر الذي نُقل من طرابلس.
يوم تنفيذ العملية، توجه عوّاد برفقة عبد الكريم والانتحاري وليد الى محلة الرحاب. وهناك اشترى الانتحاري دراجة نارية تسلمها عوّاد ليقودها إلى مكان إقامته في مخيم برج البراجنة، واتفقا على أن يحضرها الى محيط ملعب كرة قدم قريب من المخيم فور اتصاله به. عند الخامسة، اتصل عبد الكريم بعوّاد الذي توجه الى المكان المحدد. وهناك كان في انتظاره مع الانتحاريين وليد وعماد، علماً بأنّ وليد كان يحمل حقيبة وضعها على الدراجة وانطلق بها باتجاه سوق عين السكة، بينما لحق به عماد سيراً على القدمين. أما عوّاد وعبد الكريم، فعادا إلى المنزل. وبعد عشر دقائق من وصولهما، وقع انفجار قوي. عندها علّق عبد الكريم قائلاً إنه انفجار الدراجة. لم تكد تمر خمس دقائق حتى وقع انفجار أقلّ قوة، فقال عبد الكريم إن هذا وليد. وانتظرا حصول انفجار ثالث ينفّذه عماد في مستشفى الرسول الاعظم بعد نقل الجرحى اليه، لكن بعد مرور الوقت، وعند مشاهدتهما صور الانفجار على مواقع التواصل الاجتماعي، عَلِما أن وليد قتل من انفجار الدراجة، وأن التفجير الثاني قام به عماد.
توقيف ناقل الانتحاريين أثناء محاولته الهروب
اصطحبت دورية من فرع المعلومات الموقوف عوّاد د. الى محلة الاشرفية للاستدلال على الشقة. وبعد إجراء استطلاع أمني للشقة، رُصد عبد الكريم أثناء مغادرتها فجرى توقيفه. اعترف بأنه دخل لبنان عام ٢٠١٥.
وذكر أنّه انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية منذ ستة أشهر بعدما تم تجنيده من قبل صديقه عماد المستّت أثناء إقامته في الرقّة. عماد المستّت المذكور عرّفه على «أبو الوليد السوري» الذي اختاره للقيام بعمل أمني كونه غير معروف. خضع لدورة شرعية، لكنه لم يخضع لأي دورة عسكرية أو أمنية. وبعد نحو شهر، نُقل مع إبراهيم ج. ووليد وأبو الفاروق السوري إلى مركز أمني في الرقة حيث درّبهم أبو الوليد السوري على كيفية تصنيع الأحزمة الناسفة وعلى التواصل الآمن عبر تطبيقات الانترنت، وتحديداً برنامج التيليغرام. دامت الدورة أسبوعين.
«عين السكة» بدلاً من مسجد الرسول الأعظم والمستشفى
خلال التحقيق معه، قال عبد الكريم إنّ «أبو الوليد» أبلغه بالاستعداد للسفر إلى لبنان. المهمة الأساسية كانت استئجار بيت آمن في بيروت لاستقبال الانتحاري عماد المستّت وثلاثة شبان سيحضرون معه لتنفيذ عمل أمني. وأبلغه أنّ الخطوة الثانية ستكون تنسيق عملية انغماسية سينفّذها خمسة شبان تستهدف مبنى مستشفى ومسجد الرسول الأعظم. وصل عبد الكريم إلى لبنان حيث مكث في منزل صديقه في الرمل العالي لمدة شهر، ثم استأجر شقة في الأشرفية بـ600 دولار. عندها تلقى تعليمات من أميره بالتوجه الى الضاحية الجنوبية في بيروت لاستطلاع أمكنتها المكتظة، بغية تنفيذ عملية انتحارية تحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا في صفوف الشيعة، بعدما تمّ إلغاء العملية التي كانت مخصّصة لاستهداف مستشفى ومسجد الرسول الأعظم بسبب عدم وصول الأفراد الخمسة. جرى اختيار عين السكة في الضاحية الجنوبية، وحُدِّد التنفيذ في المساء، نظراً إلى وجود اكتظاظ سكاني في الشارع المذكور في هذا الوقت.
كان بعض المعلومات بحاجة إلى تقاطع. أوقف بلال ب. فتبيّن أنّه دخل السجن منتصف عام 2014 على خلفية أحداث جبل محسن باب التبانة، وأخلي سبيله أوائل عام 2015. اعترف بلال بأن صديقيه خالد ز. وعلاء ك. اللذين يحملان فكر تنظيم الدولة الاسلامية، أقنعاه بالالتحاق بالتنظيم. وبعدما عُرقلت معاملات جواز سفره لدى الأمن العام، قرر أن يبقى في لبنان للعمل الأمني لصالح التنظيم. تحدث بلال عن خلافات بين أبو الوليد السوري وإبراهيم ج. بسبب عدم التزام الأخير بالمعايير الأمنية المشددة (كإقفال النوافذ في المنزل وغيره).
هكذا وزّع الانتحاريان المهام قبل التفجير
قبل 3 أيام من تنفيذ الهجوم، تسلّم عبد الكريم تحت جسر الدورة مبلغ خمسة آلاف دولار أميركي. وقبل يومين من التنفيذ، التقى عبد الكريم ووليد في أدما بسيارة الفان نفسها التي سلمتهما المال آتية من الشمال بقيادة السائق ذاته، فصعدا معه ليسلّمهما حقيبتين تحتويان على ستة أحزمة ناسفة.
وبناءً على تعليمات الأمير، انتقل مع كل من عماد ووليد الى عين السكة بعد أذان المغرب لاستطلاع المكان. ووُضعت الخطة التي قضت بأن يرتدي كلّ من وليد وعماد حزاماً ناسفاً، يتم بعدها شراء دراجة نارية يوضع بداخلها الحزامان الناسفان الآخران والمربوط أحدهما بالآخر والمعدّان للانفجار بطريقة التحكم عن بُعد وساعة توقيت، على أن تُركن الدراجة المفخخة في الشارع من قبل سائقها وليد الذي من المفترض ان يُشغّل جهاز التوقيت ويبتعد عنها، على أن يحضر عماد بعد خمس دقائق من التفجير الثاني ليفجّر نفسه أمام مدخل مستشفى الرسول الأعظم حيث سيتجمع المواطنون إثر إحضار المصابين.
اشترى عواد الدراجة من محلة الرحاب ثم أوصلها عند الساعة الخامسة من اليوم نفسه (يوم تنفيذ العملية) الى طريق فرعي خلف صالة أفراح بيروت ــــ غولدن بلازا، والذي يمكن النفاذ منه بأمان الى داخل شارع عين السكة في محلة برج البراجنة، وسلمها لوليد الذي حضر مع عماد وعبد الكريم. كان الأول يحمل حقيبة وضعها على الدراجة وانطلق بها باتجاه عين السكة، ولحق به عماد سيراً على القدمين، وذلك قبل وقوع الانفجارين بحوالى عشر دقائق. وبعد التفجير، بقي ناقلا الانتحاريين، عبد الكريم وعوّاد في شقة مخيم البرج ولم يغادراها لغاية صباح السبت في 14/11/2015، حيث انتقل الأول الى عمله في الأشرفية وذهب عوّاد الى شقة الأشرفية لتنظيفها وأخذ أجهزة التحكم والعودة الى المخيم، حيث تم توقيفه.
مهرّبون أدخلوا الانتحاريين
عرض المحققون صورة عائدة لأحد انتحاريي برج البراجنة على عبد الكريم فصرّح بأنها عائدة للمدعو «وليد» الذي تسلّمه قبل عشرة أيام من وقوع التفجير تحت جسر الدورة من سائق «فان» تبين أنه يدعى ابراهيم ر. وهذا الأخير عاد ليسلمه في محلة أدما بعد حوالى أسبوع حقيبتين تحتويان على ستة أحزمة ناسفة، علماً بأن وليد سبق أن أخبره أنه وصل الى لبنان عبر مهرب لبناني.
وأبلغ المحققين أنّه بعد وقوع العملية، تواصل مع الأمير أبو الوليد الذي طلب منه التريث ليومين لتأمين عودته الى سوريا بالطريقة نفسها التي دخل فيها الى لبنان. لم يكد يمر يومان على وقوع التفجير حتى أوقف السائق إبراهيم ر. عند نقطة الأمن العام الحدودية أثناء توجّهه من عرسال إلى مشاريع القاع. أقرّ المهرّب بأنّ سطّام الشتيوي (قيادي في «الدولة الإسلامية» يقيم في عرسال) طلب منه نقل شخص لم يذكر له اسمه، من محيط كازينو لبنان إلى طرابلس، لقاء مبلغ ٥٠٠ دولار دفعها مسبقاً، وسلّمه هاتفاً ورقم الشخص الذي سينقله. وبالفعل، نقل إبراهيم ر. الشخص المذكور، ليتبين أنّه الانتحاري الموقوف إبراهيم ج. .
لم يكد يمر شهر، حتى طلب الشتيوي من إبراهيم ر. تأمين كمية من الكبسول ولفات فتيل كورتكس (تستخدم في التفجير). تعرف المهرّب إلى أحد تجار السلاح في بريتال دريد ص. ووصله بسطّام الذي تواصل معه واتفقا على الكمية والسعر. وقبل تسلّم المتفجرات، حضر سطام الى منزل إبراهيم ر. في عرسال، وطلب منه نقل شخص الى طرابلس. كان هذا الشخص الانتحاري «وليد». كذلك نقل إبراهيم ر. سيارة «فان» بداخلها مخبأ سرّي محمّل بطلبية المتفجرات وسلّمها إلى بلال ب. وقد استُخدم الڤان عدة مرات لنقل المتفجرات من بريتال إلى طرابلس مقابل مبالغ مالية تراوحت بين ألف وأربعة آلاف دولار دُفعت لإبراهيم ر. .
تجدر الإشارة إلى أنّه رغم وجود الفان في الحجز، إلا أنّ القوى الأمنية لم تكن قد عثرت على المخبأ السرّي. وبعد توقيف إبراهيم ر. ودلالته على المخبأ السرّي، عُثر بداخله على ١٥٠ كلغ من الكرات المعدنية و٣ جعب غاليل وبندقية كلاشنكوف.
عناصر أمنيون تستّروا على الإرهابيين!
تمكن المحققون من تحديد الشقيقين اللذين أخفيا المتفجرات، بناءً على طلب بلال ب. بعد حصول الانفجار. وقد أوقف أحدهما، أحمد م.، بعد خمسة أيام، فيما تمكن شقيقه علي من الفرار. كذلك أوقف فرع المعلومات العريف في قوى الأمن شوقي س. الذي علِم أن إبراهيم ج. وبلال ب. على علاقة بتفجير برج البراجنة. وطُلِب منه نقل المتفجرات والأسلحة التي كانت مخبّأة لدى الشقيقين أحمد وعلي م. ورغم رفضه، إلا أنّه لم يقم بإعلام الاجهزة الامنية، ظنّاً منه أن الامور ستنتهي. تعقّب فرع المعلومات باقي الأفراد المتورطين لوجستياً وعملياً، فجرى توقيف عدد من مساعدي بلال ب. وإبراهيم ج. . أوقف الرقيب في قوى الامن الداخلي عمر ك.، المشتبه في قيامه بمساعدة المجموعة، لا سيما أنّه نقل بلال ب. على متن سيارته، وعلِم أنّه متورط في تفجير برج البراجنة، لكنه لم يُبلغ القوى الأمنية.
كذلك كشف فرع المعلومات هوية المهرّبين الذي أدخلوا الانتحاريين من سوريا الى لبنان وتولّوا تأمين مستندات مزورة لهم ونقلهم، إضافة الى الاشخاص الذين قاموا ببيع المتفجرات ولوازمها للمخططين والمنفذين.
أوقِف عدنان س. في بلدة اللبوة، وتبيّن أنّه يتردد إلى سوريا يومياً، كما تبيّن أنه رفض نقل حقائب عبر الحدود، عندما علم أنها تحوي فتيلا متفجراً، رغم أن من طلب منه نقلها إلى سوريا أكّد أنها ستُستخدم في المقالع والكسارات. إلا أنه دأب على نقل أشخاص من سوريا إلى لبنان، بعد الاستحصال على هويات مزورة لهم من المدعو همام م. من بريتال. وأقرّ عدنان بتهريبه عدداً من الأشخاص والعائلات من سوريا إلى لبنان، مقابل مبالغ مالية، فضلاً عن تهريبه شخصاً من لبنان إلى سوريا، تبيّن لاحقاً أنه عسكري منشق عن الجيش اللبناني. وبعد عرض صور أفراد المجموعة الإرهابية عليه، تعرّف عدنان على أحد انتحاريي برج البراجنة المدعو «وليد»، قائلاً إنه هرّبه إلى لبنان بناءً على طلب شاب من عرسال يُدعى حسن أ. كذلك أقرّ بتهريبه إبراهيم ج. من سوريا. وأوقف عدنان مدة 11 شهراً قبل أن يُخلى سبيله.
المتفجرات لبنانية!
كشفت التحقيقات أنّ خلية «الدولة الإسلامية» اشترت المتفجرات التي استخدمت في الجريمة من لبنانيين يملكون تراخيص بيع متفجرات تُستعمل في المقالع والكسارات. أوقف فرع المعلومات عدداً من بائعي المتفجرات التي استُخدمت في الهجوم الانتحاري، ليتبيّن أنّ كمية من المتفجرات التي استُخدمت في عدد من التفجيرات الانتحارية تم شراؤها من مختار بلدة عربصاليم الجنوبية، مصطفى م. الذي يعمل في مجال تجارة المتفجرات منذ 20 سنة، وبحوزته تراخيص حيازة وتخزين واستيراد المتفجرات ولوازمها. وأوقف المختار المذكور قبل أن يُفرج عنه بضغوط سياسية، علماً بأن القضاء اعتبر أنّه كان يبيع المتفجرات من دون علمه أنها ستصل إلى إرهابيين، لكنه كان يبيعها بطريقة غير شرعية.
تزامن تفجير برج البراجنة الانتحاري المزدوج مع هجمات باريس بفارق يومٍ واحد. أمرُ العمليات أصدره قائد ذراع العمليات الخارجية في تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو الوليد السوري من «عاصمة الخلافة» الرقّة السورية. هذا الرجل كان الأكثر تميُّزاً في صفوف التنظيم على صعيد تفعيل الهجمات الإرهابية خارج العراق وسوريا. ونجح عبر بعض العمليات في نقل الرعب إلى قلب أوروبا. غير أنّ «فرع المعلومات» في قوى الأمن الداخلي تمكن من رصده وزوّد الاستخبارات الفرنسية بمعلومات خاصة بعدما تبيّن أنّ أبو الوليد هو منسّق العمليتين اللتين استهدفتا باريس وبرج البراجنة. لقد استطاع الأمن اللبناني تحديده وكشف هويته وأبلغ أجهزة الأمن الفرنسية قبل أن يتثبّتوا بأنفسهم أنّه أشرف على العمليتين لتتم تصفيته لاحقاً بغارة جوية من قوات التحالف الدولي.
عملية برج البراجنة المزدوجة لم تكن العملية الانتحارية الأولى التي هزّت لبنان، لكنّها مثّلت تحدّياً استثنائياً بين ذراع «الدولة الإسلامية» الناشطة على الساحة اللبنانية والأجهزة الأمنية مجتمعة. الخلية التي وَفَدَ أفرادها إلى لبنان تمركزت في إحدى شقق الأشرفية، المنطقة ذات الأغلبية المسيحية لإبعاد أي شبهة محتملة. ومن هناك، بدأ الإعداد لسلسلة عمليات إرهابية خُطِّط لها خارج الحدود اللبنانية. دُمِج الانتحاري والانغماسي في هجوم انتحاري كان يُراد له أن يكون رباعياً وليس مزدوجاً، لإيقاع أكبر عدد من الضحايا. كان المخطط إدخال لبنان في نفق التفجيرات عبر انتحاريين يتوافدون تباعاً. وقد كشفت كمية المتفجرات المضبوطة حجم المخطَّط الذي يُحضّر له. غير أنّ «فرع المعلومات» تمكن خلال أقل من 36 ساعة من توقيف نحو ثلاثين مشتبهاً. صدفة توقيف الانتحاري ابراهيم ج، المعروف بـ«أبو البراء اللبناني» في طرابلس قبل يومٍ واحد من التنفيذ، كان الخيط الذي انطلق منه المحققون. يُضاف إليه جهد استثنائي لتحليل شبكات الهاتف وداتا الاتصالات والمتابعة التقنية، ولا سيما أن خلية طرابلس وابراهيم ج، الذي كان مكلّفاً تفجير نفسه في مقهى في جبل محسن بالتوقيت نفسه المقرر أن يقع فيه تفجير برج البراجنة، لم يكن لديهم أي معلومة عن المهمات المكلفة بها خلية الأشرفية. قبل ذلك، كان عناصر التنظيم يتقدّمون على الأجهزة الأمنية اللبنانية بخطوة في هذه العملية. السباق كان في أشدّه، رغم أنّ أحد الأجهزة الأمنية اللبنانية كان يتابع تقنياً اثنين من المنفّذين، إلا أنّ ضيق الوقت لم يمكّنه من كشف مخططهما. وقد كان بين من ساعد الانتحاريين وتكتّم عليهم عناصر في الجيش وقوى الأمن والأمن العام. لقد حرَص المنفّذون على درس كل خطوة بتأنٍ. حتى إنّهم اشتروا الدراجة النارية التي استُخدمت في الهجوم قبل ساعة من التنفيذ، إلا أنّ بعض العثرات قادت إلى كشفهم. وساهمت مقارنة شكل وتركيبة الحزام الناسف الذي ضُبط مع الموقوف الجمل بالحزام الذي لم ينفجر في برج البراجنة بالتثبت من أنّ صانع الحزام شخصٌ واحد. كانت طريقة وضع الكرات المعدنية والمواد المتفجرة والفتيل الصاعق داخل المتفجرات، فضلاً عن وضعية المادة اللاصقة لتثبيت المواد المؤلفة الحزام بعضها ببعض، متشابهة.
من البلياردو والويسكي والمخدرات إلى… انتحاري
قبل التزام ابراهيم ج. الديني، كان يعمل في محل بلياردو مع صديقه خالد ز. في طرابلس. كان ابراهيم يشرب المشروبات الكحولية، ويتعاطى الحبوب المخدرة، فنصحه خالد ز. بوجوب الإقلاع عن ذلك، وبدأ بمرافقته الى المسجد بدايةً، قبل أن يبدأ ابراهيم بالتردد إليه بمفرده ويتعلم ويحفظ القرآن الكريم. بدأ ابراهيم يتابع إصدارات تنظيم الدولة الإسلامية فتولدت لديه الرغبة بالالتحاق بصفوف التنظيم المذكور، وقد صارحه برغبته هذه طالباً منه مساعدته، فنصحه بالتواصل مع المدعو علاء المولى الملقب «أبو كاشي» الموجود في سوريا في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية عبر موقع فايسبوك. اتصل ابراهيم بـ«أبو كاشي» المذكور، طالباً منه المساعدة في تهريبه للدخول الى سوريا للالتحاق بهم. وكون الأخير على معرفة مسبقة مع خالد المذكور، اتصل به وسأله عن وضع ابراهيم كونه يعهده شارباً للكحول ومتعاطياً للحبوب المخدرة. فأخبره خالد بأن ابراهيم التزم وتغيّر كلياً. هناك خضع لدورات تفخيخ. ثم سجّل اسمه على «لائحة الاستشهاديين» لتنفيذ عملية في حلب، قبل أن يعدل عن قراره ليقرر العودة إلى لبنان للعمل الأمني.
“محكمة” – الإثنين في 2018/05/14