القضاء يعلّق إعتكافه والمحامون مستمرّون بانتظار “فجر الوعود”
كتب علي الموسوي:
إذا كانت السلطة السياسية تريد أن تكفّر عمّا اقترفته قراراتها المستخرجة من عقلية الإستئثار، من ذنوب بحقّ الجسم القضائي بإقرار قانون معجّل مكرّر يعيد الأمل لإبقاء صندوق التعاضد مستقلاً على أقلّ تقدير، فالأوْلَى أن يكون هذا الغفران مبرماً عبر إقرار قانون تؤكّد فيه بأنّ السلطة القضائية مستقلّة في إدارة شؤونها وشجونها في القول، والفعل، والنصوص، والممارسة، والأداء، وذلك تفعيلاً لنصّ دستوري واضح كالشمس ولا تحتاج كلماتُه إلى عناء تفسير واجتهادات وفذلكات، حيث تقول المادة العشرون منه بأنّ القضاء سلطة مستقلّة.
وإذا كانت السلطة السياسية لن تقبل بهذه الحقيقة المرّة، وهو ما ترجمه قولاً وفعلاً وزير العدل سليم جريصاتي عندما عرقل في جلسة تشريعية للمجلس النيابي في شهر كانون الثاني 2017، إقرار تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي والمتعلّقة بالتشكيلات القضائية، فإنّ الخيار الأهمّ هو تماسك القضاة وإظهار الشجاعة في رفض التدخّلات والضغوطات السياسية في الملفّات المعروضة عليهم كردّ فعلي أوّلي على إظهار إستقلاليتهم ورفضهم كلّ المناصب والمراكز والإغراءات التي يمكن أن تنهال عليهم حتّى ولو كانت النفسُ أمّارةً بالسوء!.
وبعد أربعين يوماً من الإعتكاف الأطول في تاريخ القضاء اللبناني، وعشية بدء السنة القضائية الجديدة، قرّر مجلس القضاء الأعلى تعليق هذا الإعتكاف، من دون أن يتمكّن من تحقيق الغاية المرجوة منه، والمتمثّلة بإرغام السلطة السياسية على التراجع عمّا فعلته عن سابق إصرار وتصميم، في قانون سلسلة الرتب والرواتب من إجحاف كبير بحقّ القضاة.
فرئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقّع قانوني سلسلة الرتب والرواتب وتمويلها، ونشرا في الجريدة الرسمية لبدء مراسم تنفيذهما تحت الرقمين 45 و46 تاريخ 21 آب 2017، فما الذي استجدّ على خطّ الإعتكاف حتّى تمّ إنهاؤه بهذه الصورة المخيّبة لآمال قضاة كثر كما عبّروا في حديث مع “محكمة”؟.
كما أنّ التراجع عن الإعتكاف مع بدء السنة القضائية، طرح تساؤلات بين القضاة أنفسهم قبل أيّ أحد آخر من المعنيين بالعمل القضائي والحقوقي في لبنان، فما الذي تغيّر ليس منذ بدء الإعتكاف في 20 تموز 2017، وإنّما على الأقلّ، منذ يوم الإثنين في 21 آب 2017، لكي يصار إلى إصدار قرار تعليق الإعتكاف يوم الإثنين في 28 آب 2017؟ فقد عقد مجلس القضاء الأعلى إجتماعاً نارياً في 21 آب، لجأ فيه إلى التصويت، وهي من الحالات النادرة جدّاً، لتقرير مصير الإعتكاف، فرجّحت كفّة المؤيّدين بالإستمرار فيه، على كفّة المعارضين، وفي مقدّمتهم رئيس المجلس نفسه القاضي جان فهد المُهدّد بالإقالة كما حصل مع رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر، والقاضي طنوس مشلب الموعود بتعيينه رئيساً للمجلس الدستوري بعد تقاعده في 4 تشرين الأوّل 2017.
وسبقت هذا الإجتماع بنحو ساعة، جمعية عمومية مصغّرة حضرها عدد قليل من القضاة في قاعة محكمة التمييز في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت، أصرّ فيها الحاضرون على وجوب الإستمرار في الإعتكاف حتّى تحقيق المطالب.
ولم يساعد توقيت الإعتكاف القضاة على إنجاز ما يريدونه، وعلى استخدامه وسيلة ضغط على السلطة السياسية لإرغامها على التراجع عمّا “دحشته” في قانون سلسلة الرتب والرواتب، لأنّه جاء في العطلة الصيفية التي تخصّص عادةً للموقوفين ولا تستثني المُهَل والمزادات العلنية والحالات الطارئة والمستجدّات، إلاّ أنّ تفعيل الإعتكاف لكي يؤتي أُكله وثماره وغايته، كان يفترض أن يستكمل مع بدء السنة القضائية الجديدة، على ما يرى كثر، حيث ضغط العمل والملفّات والدعاوى أكبر بكثير، على الرغم من أنّ الإستمرار في الإعتكاف يصيب الناس ويؤذيهم أكثر ممّا يؤثّر في السلطة السياسية التي نجحت على ما يبدو، في وضع القضاة في مواجهة شعبهم وناسهم، حتّى باتوا مضطرّين إلى القبول بالتراجع خطوةً إلى الوراء من دون التخلّي عن المطالب.
ولذلك كان مجلس القضاء الأعلى صريحاً في “بيان التراجع” بإبقاء الأمور رهن الوعود المعطاة بإقرار قانون معجّل مكرّر يعيد الإعتبار إلى صندوق التعاضد، على أن تقدّم وزارة العدل مشروع قانون جديداً لسلسلة رتب ورواتب القضاة يصحّح الخلل الحاصل. وتعليق الإعتكاف لا يعني إلغاء له، بل يمكن العودة إليه في حال أضحت الوعود”عرقوبية”!
فهل تصدق السلطة السياسية هذه المرّة بعدما كانت وعدت في شهر آذار 2017 بعدم المسّ بمكتسبات القضاة ولم تلتزم؟.
وهل تتجاوب السلطة السياسية مع بادرة حُسْن النيّة التي ترجمها القضاة بفكّ الإعتكاف الذي نزل برداً وسلاماً على المحامين المُعلّقة أعمالهم عليه؟.
وفي قلب هذه المعركة، فإنّ مجلس القضاء الأعلى ملزم بالسعي والضغط وليس مجرّد المحاولة، للفوز بسنّ قانون نهائي يعترف بالقضاء كسلطة مستقلّة كما بات معلوماً من العريضة التاريخية التي وقّعها إلكترونياً 352 قاضياً، أيّ نحو ثلثي عدد قضاة لبنان، وتفرّدت “محكمة” بنشرها على موقعها الإلكتروني في 7 آب 2017.
وأزعجت هذه العريضة الإستثنائية بعض السياسيين الرافضين تكريس حقّ القضاء بأن يكون بالفعل والممارسة سلطة حاكمة غير معرّضة للترويض والتدجين من خلال التشكيلات والتعيينات التي تتمسك بها السلطة السياسية وترفض التنازل عنها ليقينها بأنّها المدخل الرئيسي لإحكام الخناق على القضاة والتدخّل في عمل القضاء.
في موازاة ذلك، أكّد نقيب المحامين في بيروت أنطونيو الهاشم استمرار المحامين في الإمتناع عن حضور الجلسات أمام المحاكم والدوائر القضائية، إلى حين “معالجة ما أبديناه من ملاحظات محقّة، متعلّقة بالإزدواجية الضريبية ومرور الزمن على التكاليف الضريبية لتعلّقها بالنظام العام وبالحقوق المكتسبة”.
“محكمة” – الأربعاء في 30/08/2017.